وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عمر خيرت: الموسيقى لغة العالم

بخطى ثابتة مرتدياً بدلته السوداء الأنيقة التي تليق بمايسترو عالمي مثله، يدخل عمر خيرت إلى المسرح بكامل هدوء واتزان، حاملاً معه أوراق نوته الموسيقى وتاريخاً طويلاً من الفن والإبداع. ينحني لتحية جمهوره الذي استقبله بسيل من التصفيق المستمر ولأعضاء فرقته الذين يقفون احتراماً لمعلمهم، ثم يجلس أمام البيانو- عشقه الأول ورفيق دربه الطويل- ثم يبدأ في نحت إحدى تحفه الخالدة من جديدة، مُحاولاً السيطرة على خوفه الذي يُصاحبه في كل حفل وكأنه أول لقاء له مع الجمهور، إذ يقول خيرت “الخوف لا ينتهي، فالفنان سيظل دائماً خائف مع كل عمل يقدمه لجمهوره ويظل يحيا مرحلة الرهبة.”

ولد عمر خيرت في 11 نوفمبر من عام 1948 في الإسكندرية في مصر لعائلة مُحبة للفن والموسيقى. جده المحامي المشهور محمود خيرت، كان سكرتير مجلس الشيوخ أيام سعد زغلول إلى جانب كونه موسيقي وشاعر وأديب وصاحب رواية “الفتاة الريفية” الصادرة عام 1905، وصاحب الصالون الثقافي والفني الذي لطالما استضاف عمالقة الفن والموسيقى أمثال سيد درويش ومصطفى لطفي المنفلوطي، وصاحب الفضل في أول لقاء جمع سيدة الغناء العربي أم كلثوم بموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. أصبح الفن ميراثاً في هذه الأسرة فتلقفه عمه أبو بكر خيرت الفنان والمعماري الشهير، الذي كتبت عنه صحيفة المصري عام 1920 “مولد موتسارت عربي جديد” بعد أن قام بتأليف أول مقطوعة موسيقية بالبيانو له بعمر 10 سنوات.

Egypt- Omar Khairat
Photo: AMR AHMAD / AFP

تضمنت مسيرة أبو بكر الفنية حفلات موسيقية بدار الأوبرا حيث كان يحرص والد عُمر على اصطحابه إليها. كُلل مشوار عمه بإنشاء المعهد العالي للموسيقى “الكونسرفتوار المصري” ويصبح أول عميد له ويصبح عُمر طالباً بأول دفعاته عام 1959، وتبدأ رحلته مع البيانو الذي درسه على يد البروفيسور الإيطالي “كارو.”

وبعد التخرج من الكونسرفتوار المصري ذهب عُمر إلى لندن لدراسة التأليف الموسيقي بجامعة Trinity College، وبعدها عاد إلى مصر حيث شارك عام 1967 في تأسيس فرقة Les Petits chats أو القطط الصغيرة مع وجدي فرنسيس وكان زملاؤه في الفرقة كل من عُمر خورشيد وعزت أبو عوف، اللذان انفصلا عن الفرقة وكونا فرقة 4M لينضم لهم خيرت لاحقاً، ثم تحدث الصدفة التي تُغير حياته. ففي صدفةٍ بحته، استمعت الفنانة المصرية الجميلة والنجمة السينمائية فاتن حمامة لبعض الأعمال الموسيقية من تأليفه فترشحه للعمل في برنامج للإذاعة المصرية ويقوم بتأليف الخلفية الموسيقية للبرنامج الإذاعي “قطرات الندى،” ثم تُهديه أكبر هدية تلقاها في حياته والتي ستُصبح لاحقاً بوابته لعالم الشهرة والعالمية، وذلك بتقديمه للمخرج هنري بركات. قامت بعد ذلك بترشيحه لصنع الألحان والموسيقى التصويرية لفيلم ليلة القبض على فاطمة عام 1984 والتي صارت فيما بعد أحد أهم وأشهر المقطوعات الموسيقية في تاريخ الفن المصري والتي لا يتنازل جمهوره عن طلب سماعها في كل حفلة.

كان للتربية الدينية، التي توارثتها عائلة خيرت، فضلٌ كبير في موسيقاه، فلطالما كانت مؤلفاته ذات طابع روحاني تمتلك لمسة شاعرية تمس الأرواح، وهو ما يقول عنها “يرجع ذلك إلى التربية والنشأة في أجواء متدينة والتجارب الدنيوية والإنسانية وتلك هي موهبة من عند الله للتعبير عما بداخلي وأخرج بهذا الشكل الروحاني، عموماً، حينما أشرع في تأليف عمل جديد لا أقصد هذا البعد الروحاني بل إنه يخرج بشكل عفوي معبراً عن شخصيتي الحقيقية.”

بالنسبة لعمر خيرت، أخذت الموسيقى منه حياته كلها تقريباً وكان لتفضيله لها على باقي جوانب الحياة أثراً في حياته الشخصية فقد تزوج خمس مرات، كان أشهرها من الفنانة جالا فهمي، وأنجب ولداً وبنت: عُمر الذي يدرس الإخراج السينمائي في أستراليا وشيرين التي تعيش مع زوجها في الولايات المتحدة الأمريكية وتعمل في مجال التدريس وحفيد واحد هو آدم. ويقول عُمر عن سبب انفصاله عن زوجاته “إن الموسيقى أخذت حياتي كلها، فأغلب الأوقات أقضيها بين البروفات والحفلات.”

يعتبر العديد من النقاد أن عُمر خيرت هو أفضل من قدم الموسيقى التصويرية للأعمال الدرامية والسينمائية، وكيف لا وهو صاحب أشهر موسيقى تصويرية في تاريخ الفن المصري مثل مسلسلات “البخيل” و”أنا” و”اللقاء الثاني” و”ضمير أبلة حكمت” وأفلام “الإرهابي” و”إعدام ميت” وغيرها. وعن ذلك يقول خيرت “إني أقوم بتطويع الموسيقى لتتحدث بلغتها الخاصة عن المشهد والصورة، فتكون الإيقاعات الموسيقية بمثابة المعادل السمعي أو الصوتي للقصة أو الموقف أو الموضوع الذي يتناوله العمل الفني. أستطيع أن أقدم عملاً فنياً موسيقياً عن أي شيء، مثلما قدمت من قبل موسيقى مصاحبة لفيلم توثيقي مدته ثلث ساعة عن البحر الأحمر تم تصويره في شرم الشيخ تحت الماء، فكانت الموسيقى تحكي قصة الماء والأسماك والشعاب المرجانية، وحينما قدمت موسيقى افتتاح دورة الألعاب الأسيوية في قطر 2006 وكذلك دورة الألعاب العربية عام 2007 عبرت بالموسيقى عن تاريخ العرب وحضارتهم، وبالتالي فإن الموسيقى تختلف حسب الموضوع سواء كان حدثاً رياضياً أو فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً.”

أما علاقته بالجمهور فهي الظاهرة الأكثر دهشة في مسيرته الفنية، فلم تُسجل أي من حفلاته وجود مقعد واحد شاغر لا في بيته الأهم دار الأوبرا المصرية ولا في أي من حفلاته الخارجية التي عبر بها البحار والمحيطات شرقاً وغرباً. وعن علاقته بجمهوره يقول خيرت” إن الحضور الكبير لحفلاتي يدل على صدق الموسيقى التي منحني الله موهبة تأليفها، فقد كان لديّ هدف منذ اخترت هذا الطريق وهو الارتقاء بالموسيقى والحس الفني وبخاصة أننا في بلاد تستمع إلى الأغنية وليس الموسيقى الخالصة. وحتى الأغنية لدينا تُغنى بدون شكل علمي، العالم كله مليء بالقوالب الموسيقية المختلفة، ويجب أن يكون لدينا نفس الشيء لأننا أصحاب حضارة وعرفنا الموسيقى مبكراً جداً، وهذه الرسالة أخذت استكمالها على عاتقي، فقد كان هدفي أن يستمع الناس إلى موسيقى موزعة بأسلوب علمي موسيقي، والحمد لله أشعر بأنني نجحت في هذا الهدف والدليل هو الكم الرهيب من الجمهور المتذوق لأعمالي حتى من جيل الشباب.”

أما عن الوطنية التي تملأ جوانب أعمال وشخصية عُمر خيرت فقد بدت واضحة في حواراته ومواقفه التي ترجمها لمقاطع وأغاني كثيرة مثل “فيها حاجة حلوة” وغيرها كثير. إلا أنه يظل عالمياً بكل المقاييس الفنية، فهو الفنان العربي الذي قاد حفل العيد الوطني بإيطاليا عام 1993، والذي اختاره الاتحاد الأوروبي عام 2008 لإحياء حفل تسليم فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي من سلوفينيا ليعزف أمامهم “افتتاحية مصرية” و”العرافة،” وتصدح مسارح ودور الأوبرا الأوربية في سلوفينيا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا وإيطاليا بموسيقاه.

حصد خيرت العشرات من الجوائز والتكريم لأعماله، منها ما كان في مهرجان تبسة الدولي بالجزائر عن موسيقى فيلم النعامة والطاووس. كما حاز على العديد من الجوائز من اتحاد الإذاعة والتلفزيون والجمعية المصرية للسينما، وحصل على جائزة الإبداع من Middle East Music Awards “ميدل إيست ميوزيك أورد” التي تنظمها مؤسسة Dear Guestعن مجمل أعماله عام 2008.