لم يتوقع أحد من جمهور المغني السوري صاحب الشهرة العالمية عمر سليمان الملقب بـ “القيصر” أن يراه مكبّل الأيدي، مقتاداً إلى السجن، والتهمة هي “الانتماء لتنظيم إرهابي”. وهو تماماً ما حصل مع سليمان الذي تم إطلاق سراحه مؤخراً بعد اعتقال دام يومين في مدينة شانلي أورفة التركية. وكانت وسائل إعلام تركية قد نقلت فور اعتقال المغني أن “الجندرما” ألقت القبض عليه بتهمة الانتماء لحزب العمال الكردستاني “pkk” المصنف كتنظيم إرهابي في تركيا التي تحاربه منذ سنوات طويلة.
نجل الفنان أكد عند اعتقال والده، أن ما يجري إنما سببه “تقرير كيدي” وهو مصطلح شهير وواسع الاستخدام في سوريا عبر سنوات طويلة، ويدل على قيام شخص بكتابة تقرير يتهم فيه شخصاً آخر بمعاداة الدولة أو الانتماء لتنظيم معارض، بسبب قضية خلاف شخصي أو نقمة أو غيرة، فتستجيب الدولة للتقرير وتقوم باعتقال الشخص الذي سوف يخضع على الأقل للتوقيف والتحقيق وربما الضرب، ثم يتم الإفراج عنه إن لم يثبت الادعاء الذي جاء في التقرير “الكيدي”.
بسبب اتساع وكثرة الأسباب المبررة لإيقاف السوريين في تركيا، اختلفت التحليلات والتوقعات في قضية اعتقال عمر سليمان. فهناك من أرجع السبب إلى غنائه في بعض الأحيان باللغة الكردية، واستخدام كلمات منها في أغانيه العربية، ومنها استخدامه اسم “أوجلان” في إحدى الأغاني العاطفية، وهو قائد حزب العمال الكردستاني، والمعتقل في السجون التركية منذ 1999. فيما راحت تحليلاتٌ أخرى تقول إن لعمر سليمان صلات بالنظام السوري وهو سبب من الممكن أنه قد عرّضه للاعتقال، حيث تعرّض سابقاً مغنون سوريون للتوقيف في تركيا خلال زيارتهم لها، على خلفية مواقفهم المؤيدة للنظام السوري والناقدة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان مثل نعيم الشيخ وعلي الديك.
بالنسبة لجمهور عمر سليمان السوري، والذي يعي تفاصيلاً من حياته وتجربته الفنية، كان اعتقاله مثيراً للاستياء بل وللسخرية أحياناً. ويعود مصدر هذه السخرية إلى معرفة الشارع السوري ببساطة عمر سليمان، وعدم نقاشه للأمور السياسية. فمن المعروف أن سليمان بعيد عن جميع التجاذبات والأطراف والخلافات، بل ويتهرّب من الإعلان الصريح عن مواقف سياسية مباشرة. فحتى اتهامه بدعمه لنظام الأسد لم يأتِ نتيجة تصريحات مباشرة ومكررة، كالمغنين السوريين المشهورين بوقوفهم في صف النظام السوري منذ 2011، بل الاتهام جاء نتيجة عدم إعلانه تأييد الحراك الثوري ضد نظام الأسد في سورية، ونفيه الغناء ذا التوجه السياسي كلياً، وتصريحاته الرافضة لمنطق الحرب، والتي تفضل العودة إلى البلاد على الحرية، وهو ما ورد في إحدى أغانيه التي غناها في إسطنبول التركية قبل أكثر من عامين، ولاقى ردود أفعال مستاءة من قبل جمهوره السوري في تركيا حينها.
شهرة عالمية
عمر سليمان يغني في حفل توزيع جائزة نوبل للسلام عام ٢٠١٣. ويجري تنظيم هذا الحفل الموسيقي يوم ١١ ديسمبر من كل سنة لتكريم الفائز بهذه الجائزة.
نالت قضية توقيف عمر سليمان حضوراً في الإعلام العالمي، وتداولها عشّاقه من العرب وغير العرب، فلسليمان شهرة في أوروبا وأمريكا من النادر أن توازيها شهرة مغن عربي. شهرة سليمان تأتَّتْ خلال السنوات السابقة من مصدرين، أولهما دمجه للموسيقى الشعبية في منطقة الجزيرة السورية مع موسيقى التكنو. وقد يبدو هذا الدمج بسيطاً غير احترافي في بعض الأحيان، إلا أن له وقعاً لدى قطاع كبير من الجمهور العاشق للموسيقى الشعبية عندما تخرج من بيئاتها المحلية وتوضع في قوالب مناسبة لحفلات الأندية الليلية ومهرجانات الموسيقى. أما المصدر الثاني فيتمثل في زيّه الشعبي الذي حافظ عليه بالجلابية والعقال مضافاً إليهما نظارة شمسية سوداء قاتمة تلازمه ليلاً نهاراً، ما أعطاه هوية خاصة وجدت جمهوراً عريضاً يستسيغها خاصة من غير العرب.
لاقى عمر سليمان معاملة خاصة من الغرب لم يلقها في بلاده أو في تركيا، حيث غنّى في حفل منح جائزة نوبل للسلام في أوسلو بالنروج إلى جانب العالمي جيمس بلانت. كما تعامل مع المغنية والممثلة العالمية بيورك في تسجيل أغنية “كريستالاين“. وقال عنه المنتج الموسيقي الحائز على جائزة “غرامي” إيان برينان بأنه يقدم واحداً من أعظم أنواع الموسيقى في العالم. كما غنى سليمان في كبرى مهرجانات أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا. وغزت أخباره وصوره صحفاً عالميةً نظرت إليه كفنان قادم من عمق التراث البدوي العربي يقدّم فناً بهيئة “مودرن” قادر على ملء الصالات بالجمهور، وتحريك الأجساد بالدبكة والرقص لساعات طويلة متواصلة.
نالت حالة عمر سليمان العالمية وشهرته انتقادات واسعة جداً، من صحفيين وكتاب سوريين، وجدوا في حالته تسويقاً للفن الرديء، وتشويهاً للتراث المحلي، وعرضه بما يتناسب مع ذوق مراهقين أجانب ينظرون لسليمان وفنه نظرة استشراقية، وأنه ليس أكثر من مغنٍّ في الأعراس المحلية في منطقة الجزيرة، نقل أغاني الأعراس إلى الخارج بزيّه المحلي، فبات ينظَر لتلك الأغاني على أنها تراث عربي، وأن سليمان يقدمها بشكل لائق للغرب. الانتقادات تلك وصلت حدّ اتهامه بتشويه التراث، وتقديم الفن العربي بصورة رديئة للآخر.
وفي تحليل بسيط لأغاني عمر سليمان، يمكننا القول بأنه يأتي بألحان وأغانٍ تراثية، من تراث منطقة الجزيرة حيث نشأ، بعض تلك الأغاني عربية وبعضها كردية، إذ إن منطقة رأس العين التي نشأ بها تضم خليطاً من القوميتين، فيقوم بإضافة موسيقى الكترونية إليها، ويصدح بها ملتزماً بزيه الذي لا يتغير، وصرامة معالمه وانعدام ابتسامته. وبدمج كل تلك المكونات مع بعضها وإضافة براعة التسويق والنشر إليها، لن يكون من المستغرب أن يحقق سليمان هذه الشهرة، بل وينال ألقاباً من صحف أجنبية نعتته بـ “ملك التكنو” أو “ملك الاسترخاء”، أو حتى من جمهور سوري منحه لقب “الكيصر” وتعني القيصر بعد استبدال القاف بالكاف لتتناسب مع لهجة الشمال الشرقي حيث ولد سليمان.
ضغط تركي
في جملة ما أثارته قضية توقيف عمر سليمان، وانتشار الأخبار والشائعات عنها في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحافة العالمية، هي قضية انتشار حالة توقيف السوريين في تركيا بتهم مختلفة، وادعاءات أغلبها لا أساس لها من الصحة، كالانتماء لتنظيمات إرهابية، أو دعم قوى عسكرية في الداخل السوري، بمعنى أن المؤسسة الأمنية في تركيا تمارس التوقيف والاعتقال بناء على أية بلاغات عابرة أو بناء على مجرد شكوك، وهو ما يثير يوماً بعد يوم الخوف في نفوس السوريين في تركيا. ويمكن لرؤية أي شرطي سير في شارع من الشوارع أن ترعب اللاجئ الذي لا قانون يحميه من التوقيف. ولعل قضية الموز التي سبقت قضية عمر سليمان بأسابيع تشير بشكل واضح إلى انعدام وجود قانون يحمي السوريين في تركيا، حيث يمكن اعتقالهم بسبب فيديوهات نشروها على صفحاتهم الشخصية في منصات التواصل وهم يأكلون فيها الموز، بعد أن صرحت مواطنة تركية لبرنامج عابر بأن السوريين يقدرون على شراء الموز في الوقت الذي لا يمكن للأتراك ذلك، وهو ما حوّل القضية إلى سياق ساخر بدأ معه سوريون بتصوير مقاطع فيديو يأكلون فيها الموز بطريقة يبدو أنها استفزت السلطات فبادرت إلى اعتقالهم.
عمر سليمان الذي افتتح في 2019 فرناً ليوزّع الخبز منه مجاناً على لاجئين سوريين في منطقة أقشقلة التركية على الحدود السورية، والذي يحاول الوقوف على الحياد في كل مرة يطلَبُ منه أن يتخذ موقفاً سياسياً، له من الكارهين الكثير بالتأكيد. فهناك من يكره فنه وطريقته في تقديم التراث، وهناك من يكره حياده وعدم إعلان موقفه الواضح خوفاً من خسارة أي طرف. في المقابل، له عشرات آلاف العشاق حول العالم، من تركيا إلى مختلف البلدان. ولم يسبق أن أحيا أمسية في صالة ما من تلك الدول إلا وبيعت البطاقات كاملةً خلال ساعات قليلة. واعتقاله لفترة قصيرة كان حدثاً وضع أمام ملايين المتابعين أسئلة متعددة، أولها: لماذا يعتَقَل السوريون في تركيا؟