علي نورالدين
بعيداً عن أعين الإعلام، اجتمع مدّعون عامّون من سبع دول مختلفة في مدينة لاهاي الهولنديّة، لتنسيق الملفّات القضائيّة المفتوحة في كل من هذه الدول بخصوص “المشتبه به” رياض سلامة، وتبادل المعطيات والدلائل الموجودة بحوزتهم.
سلامة، اللبناني الذي يحمل الجنسيّة الفرنسيّة، والذي يتقفّى المحققون آثار عمليّاته الماليّة في جميع أنحاء أوروبا، يواجه اليوم تهمًا تبدأ بالاختلاس وتبييض الأموال في سويسرا، والنيل من مكانة الدولة الماليّة و التزوير والإثراء غير المشروع في لبنان، وصولاً إلى التآمر الجنائي وغسل الأموال في إطار عصابة منظمة في فرنسا. في لوكسمبورغ، قررت منذ أيام السلطات القضائيّة فتح قضيّة جنائيّة جديدة للبحث عن مصدر ثروة الرجل، فيما تستمر السلطات بجمع المعلومات حول تحويلاته المصرفيّة وممتلكاته في ألمانيا وهولندا وبلجيكا تمهيداً للسير بالقضايا الجنائيّة بحقّه.
سلامة، موضوع كل هذه التحقيقات العابرة للحدود، ليس مجرّد رجل أعمال عادي أو مدير مصرف خاص متورّط في قضايا مشبوهة. رياض سلامة هو حاكم المصرف المركزي في لبنان منذ 1993، الذي أعطاه قانون النقد والتسليف أقدس ما تملكه الدولة اللبنانيّة من صلاحيّات سياديّة ماليّة ونقديّة: خلق النقد بالعملة المحليّة، والحفاظ على قيمتها التي تحدد القدرة الشرائيّة لرواتب المقيمين ومداخيلهم. والسهر على سلامة النظام المصرفي، الذي يحتوي على مدّخرات المقيمين والمهاجرين. وتنظيم وسائل الدفع التي يقوم عليها الاقتصاد المحلّي وقطاعاته المنتجة. وحساسيّة هذه الأدوار، هي ما يدفع الدول –ومنها لبنان- إلى إحاطة المصارف المركزيّة وحكّامها باستقلاليّة استثنائيّة، لتحييدها عن مكائد السياسة ودهاليز إساءة استعمال النفوذ.
لكل هذه الأسباب، تأخذ الإتهامات الموجّهة لسلامة أبعادا خاصّة، لناحية السؤال عن الحصانات التي تعطيها القوانين في العادة لحكّام المصارف المركزيّة، وخصوصاً في لبنان حيث يعطيه القانون حصانة قانونيّة وقضائيّة خاصّة، وصلاحيّات واسعة جدّاً في إدارة شؤون المصرف بأقل قدر من المساءلة والمحاسبة. بل وتكتسب هذه الاتهامات أهميّة خاصّة كون الرجل مازال يستفيد من كل هذه الصلاحيّات والحصانات اليوم، بعد أكثر من سنتين من حصول الانهيار المالي الذي أطاح بقيمة العملة المحليّة والمدخرات المصرفيّة، ناهيك عن إفلاس الدولة نفسها.
بمعنى آخر، وبدل أن يتحمّل سلامة مسؤوليّة السياسات النقديّة التي ساهمت بالوصول إلى هذا الانهيار، مازال يدير اليوم دفّة التعامل مع تداعيات الأزمة، بإجراءات تحوم حولها الكثير من الشبهات لجهة جهة؟؟ الفئات التي تخدمها وطريقة توزيع الخسائر.
خلفيّة سلامة: المغامر في مرحلة النمو
جاء سلامة إلى موقع حاكميّة مصرف لبنان سنة 1993، بعد عشرين سنة من العمل في الأسواق الماليّة والبورصة في مؤسسة ميريل لينش ، حيث عُرف كمصرفي ناجح في إدارة المحافظ الماليّة للمستثمرين في المؤسسة. ومعرفة هذه الخلفيّة تبدو ضروريّة اليوم لفهم أدائه في حاكميّة المصرف المركزي لاحقاً. فجميع حكّام المصرف المركزي الذين سبقوا سلامة في هذا الموقع، جاءوا كمُحامين من خلفيّات حقوقيّة وقانونيّة دفعتهم إلى الصرامة والتحفّظ في قراراتهم، والابتعاد عن السياسات التي قد تنطوي على مجازفات بالأموال المودعة في المصرف. بل ويذكر اللبنانيّون سيرة أحد حكّام المصرف المركزي السابقين، إدمون نعيم، الذي رفض تبديد هذه الأموال والإفراط في تسليف الدولة لتمويل صفقات مشبوهة، حتّى حين حاولت السلطة السياسيّة إجباره على ذلك عبر التهديد الجسدي.
في كل الحالات، وبخلاف كل حكام المصرف المركزي المتحفّظين والمحافظين الذين سبقوه، جاء سلامة من خلفيّة مغايرة تماماً: من عالم الاستثمارات والبورصات والأسهم، ومن موقع المسؤول عن المجازفات التي يمكن أن تحقق الربح الآمن والسريع والسهل لعملائه. ومن هذا العالم بالتحديد، عرفه رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري وأُعجب بأدائه، ثم طلب عودته إلى لبنان ليتولّى حاكميّة مصرف لبنان سنة 1993. مع الإشارة إلى أنّ الحريري نفسه دخل الحياة السياسيّة في تلك المرحلة أيضاً، آتياً من عالم المقاولات والتعهّدات والمشاريع العقاريّة في المملكة العربيّة السعوديّة، وحاملاً مشروعه الاقتصادي لمرحلة ما بعد الحرب الأهليّة التي انتهت عام 1990.
هكذا، تكامل مشروع الدولة الاقتصادي الذي أشرف على تصميمه رفيق الحريري، مع التنظيمات المصرفيّة والسياسات النقديّة التي عمل على تكريسها رياض سلامة، وتلازم إسم الرجلين معاً في مرحلة إعادة الإعمار في التسعينات. وفي النتيجة، امتزجت في تلك المرحلة بصمات الحريري وسلامة معاً: من طفرة المشاريع العقاريّة ، حتّى تلك التي جاءت على حساب نسيج المدينة الاجتماعي. ونمو القطاع المصرفي السريع، الذي نمت أرباحه عبر الإفراط في تسليف القطاع العام بفوائد خياليّة، ومن التسليفات المرتبطة بطفرة القطاع العقاري. أما القطاع العام، فتوسّع في الانفاق على المشاريع العمرانيّة التي غالباً ما انطوت على هدر كبير ، مع اعتماد قاعدة المحاصصة لتوزيع مغانم هذه المشاريع على الزعامات الطائفيّة في البلاد.
مهندس النظام المالي الذي يحتاجه الجميع
كانت الدولة تسير في اتجاه سياسة النمو السريع بعد نهاية الحرب، لكن باعتماد سياسات ريعيّة هشّة وخطرة على المدى البعيد، عبر تشجيع الربح السهل الذي تحققه المصارف والمضاربات العقارات و انتفاخة الدين العام ، على حساب الإجحاف الذي لحق بجميع القطاعات المنتجة كالزراعة والصناعة. ومن جهته، كان سلامة مهندس النظام المالي المثالي لجمهوريّة من هذا النوع، فأمعن في إفساح المجال للمصارف للتورّط في هذه المجازفات، عبر رفع نسبة استثماراتها في الدين العام اللبناني والتسليفات العقاريّة دون حسيب أو رقيب.
أما الإشكاليّة الكبرى، فكانت طَبع سلامة الميّال لهذا النوع من المجازفات المربحة، في حين أن دوره –كرقيب على النظام المصرفي- كان يقتضي الحفاظ على صرامة استثنائيّة لتحييد المصارف عن مغامرات السلطة السياسيّة في مرحلة النمو السريع.
في كل الحالات، لم يقتصر تكامل دور سلامة مع رؤية السلطة السياسيّة على التنظيمات المصرفيّة فقط، بل شمل هذا الانسجام حتّى السياسات النقديّة التي اعتمدها، والتي غذّت نفس نمط الاقتصاد الريعي والهش. فمعدلات الفوائد الباهضة ، دفعت المستثمرين إلى الابتعاد عن الاستثمار المنتج، والإكتفاء بمعدلات الفوائد التي يمنحها لهم إيداع أموالهم في المصارف. كما أدّى ذلك إلى رفع كلفة الاستدانة لتمويل المشاريع الإنتاجيّة، ما أبعد القطاعات الزراعيّة والصناعيّة عن الاستفادة من السيولة الموجودة في المصارف.
باختصار، لم تخدم سياسة الفوائد المرتفعة التي كرّسها سلامة سوى عمليّة اجتذاب الودائع لتضخيم القطاع المصرفي، وتسليف الدولة بكلفة عالية.
لكل هذه الأسباب، تمكّن سلامة من تكريس نفسه كمهندس ماكر للنظام المالي اللبناني، تماماً كما تحتاجه السلطة السياسيّة بمختلف تلاوينها وانقساماتها، وتعدد ولاءاتها الإقليميّة وانتماءاتها الطائفيّة. ورغم تبدّل الأطراف المهيمنة على المشهد السياسي طوال أكثر من 28 سنة، استطاع سلامة الحفاظ على موقعه وتجديد ولايته كل ست سنوات، لحاجة جميع الأطراف إلى الدور المالي الذي تمكّن من لعبه في حاكميّة المصرف المركزي. وحتّى بعد اغتيال رفيق الحريري سنة 2005، وانسحاب الجيش السوري من لبنان لاحقاً، لم يتبدّل موقع سلامة في المشهد اللبناني قيد أنملة.
أمّا أكثر ما استفاد منه الرجل، فكان العلاقة الوطيدة التي تمكّن من بنائها مع كبار المصرفيين والمستفيدين داخل النظام المالي، الذين لطالما استفادوا من كميّة الأرباح الضخمة التي ضخها لهم النظام الاقتصادي الذي هيمن بعد الحرب الأهليّة، والذي هندس جانبه النقدي والمالي رياض سلامة نفسه. وبسبب تقاطع مصالح المصرفيين والسياسيين، نظراً لانتماء جزء كبير من الطبقة السياسيّة لفئة كبار المودعين أو المساهمين في المصارف، كان قرب سلامة من أصحاب المصارف يزيد من نفوذه داخل المعادلة السياسيّة.
أخطر ما في النموذج المالي الذي قامت بتكريسه سياسات سلامة، كان ما انتجه من تركّز للثروة بيد قلّة صغيرة في المجتمع. فنحو نصف إيرادات الدولة اللبنانيّة، المتأتية من أموال دافعي الضرائب، ذهبت تاريخياً لسداد فوائد الدين العام. وبما أن المصارف مثّلت الطرف الرئيسي الذي سلّف الدولة منذ التسعينات، صبّت الغالبيّة الساحقة من هذه الفوائد في حسابات كبار المودعين والمساهمين في القطاع المصرفي.
ونتيجة هذه السياسات، بات نحو 2% فقط من أصحاب الحسابات المصرفيّة يملكون أكثر من 60% من الأموال المودعة داخل النظام المصرفي. ولفهم ضخامة أثر الدين العام على تركّز الثروة، تكفي الإشارة إلى أن هناك أكثر من 87 مليار دولار من الفوائد التي ترتّبت على الدولة اللبنانيّة منذ 1993، نتيجة تضخّم الدين العام، وهي كلفة دفع ثمنها في المحصّلة دافعو الضرائب.
المعالجات المشبوهة والملتبسة
حين دخل النظام المالي اللبناني مرحلة شح التحويلات الخارجيّة، بين 2011 و2019، كانت الأزمة مناسبة ممتازة لإعادة النظر بالنموذج القائم بأسره، خصوصاً بالنظر إلى ضرره على إنتاجيّة الاقتصاد، وعدالة توزّع الثروة، ناهيك عن حجم الانهيار المتوقّع لاحقاً (والذي حصل بالفعل سنة 2019). لكن سلامة قرّر المغامرة والذهاب بعيداً في الدفاع عن النموذج نفسه، وبالأدوات نفسها. ففي تلك المرحلة، وتحديداً في العام 2016، أطلق حاكم مصرف لبنان ما عُرف بالهندسات الماليّة، وهي عمليّات غامضة وملتبسة قامت على ضخ كميات ضخمة من الأرباح بالعملة المحليّة للمصارف التجاريّة، مقابل نقل المزيد من أموال المودعين بالعملة الصعبة إلى حساباتها لدى المصرف المركزي.
سوّق رياض سلامة هذه العمليات بوصفها إنجازًا شخصيا له، لكونها ساهمت بزيادة احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة، وهو ما يسمح له بالاستمرار بإنفاقها لتمويل التحويلات إلى الخارج والحفاظ على سعر صرف الليرة. لكنّ الخبراء والمؤسسات الدوليّة وصندوق النقد حذّروا في تلك المرحلة من هذه العمليّات، التي ساهمت بزيادة قيمة أموال المودعين المبددة داخل المصرف المركزي، فيما استفادت المصارف في ذلك الوقت من الأرباح الاستثنائيّة مقابل توظيف أموال المودعين في حساباتها لدى المصرف المركزي. مرّة جديدة، كان سلامة يذهب بعيداً في مجازفاته، بعقليّة المقامر.
سلامة عقبة أمام الإصلاحات
ما إن حصل الإنهيار عام 2019، حتّى أخذ حاكم مصرف لبنان موقع المعارض لجميع الإصلاحات التي احتاجها لبنان للخروج من الأزمة. في ملف التدقيق الجنائي في ميزانيّات المصرف المركزي، عرقل سلامة هذا التدقيق الذي يفترض أن يحدد مسؤوليّات الإنهيار، ولم يوافق على التعاون مع الشركة المفوّضة بإجراء التدقيق إلّا بعد أكثر من سنة ونصف من تكليفها بهذه المهمّة من قبل الحكومة. في ملف تحديد خسائر المصارف والمصرف المركزي، قاوم حتّى اليوم فكرة تحديد هذه الخسائر بشكل عقلاني، لمعالجتها وإعادة الانتظام إلى القطاع المصرفي. وعلى هذا النحو، وقف الرجل في مواجهة الخطط الإصلاحيّة في جميع الملفّات، مستفيداً من حصانته القانونيّة كحاكم لمصرف لبنان، ومن الإستقلاليّة التي يمنحه إياها القانون.
في كل الحالات، سرعان ما بدأت الدول الأوروبيّة بفتح مسارات قضائيّة تحقق في ارتكاباته السابقة، التي حصلت بين عامي 2002 و2015. وهذه التحقيقات تتركّز اليوم على البحث عن مصدر أكثر من 330 مليون دولار من الأموال التي دخلت المصارف السويسريّة، قبل أن تتوزّع على أصول واستثمارات في سائر أنحاء أوروبا. عمليّاً، يبدو أن توقيت فتح هذه الملفّات يرتبط بسعي الدول الأوروبيّة إلى الضغط على سلامة للتنحّي، بعد أن تنامت التباينات بين رؤية هذه الدول للحل الاقتصادي في لبنان، ومصالح المصرفيين التي يريد سلامة الدفاع عنها.
وهكذا سيكون على سلامة أن يمضي باقي فترة ولايته في حاكميّة المصرف المركزي محاصراً بالدعاوى القضائيّة في الخارج.