خالد محمود
بينما أنظار العالم تتابع عن كثب تطورات الوضع السياسي المأزوم في ليبيا على خلفية أزمة جديدة بين مختلف الفرقاء السياسيين، تولي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن نظرها صوب ملف الاقتصاد الليبي، عبر استدعاء الصديق الكبير محافظ مصرف ليبيا المركزي.
وليس أدل على أهمية الكبير بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية من طبيعة الاجتماعات التي عقدها خلال زيارته إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، حيث ناقش مع مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية عودة الشركات الأمريكية لاستئناف عملها مجددا في ليبيا. كما تم التطرّق لملف إدارة الأصول الليبية المجمدة بالخارج.
وناقش الكبير مع مكتب مكافحة تمويل الإرهاب والجرائم المالية بوزارة الخزانة الأمريكية مشاريع المصرف لتطوير وحدة المعلومات المالية، بالإضافة إلى جهود المصرف في تحقيق الاستقرار المالي والنقدي في ليبيا.
وبحث الكبير مع المدير التنفيذي بالبنك الدولي حسن ميرزا دعم جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة الليبية، بالإضافة إلى تكثيف برامج الدعم الفني للبنك الدولي بالتعاون مع المؤسسات الليبية المعنية.
الحفاوة الأمريكية بالكبير لم تكن سرا، فقد التقاه قبل سفره إلى واشنطن ريتشارد نورلاند، السفير الأمريكي لدى ليبيا لمرتين خلال أقل من أسبوع واحد.
في البيان الرسمي الذي وزعته السفارة الأمريكية، لم يتوانَ نورلاند عن كيل المديح والثناء لضيفه الذي التقاه في تونس. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن نورلاند والكبير يمارسان عمليا مهام عملهما من تونس نظرا للاضطراب الأمني المستمر في العاصمة الليبية طرابلس منذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2013.
الملف المسكوت عنه في الاحتفاء الأمريكي بالكبير هو الأموال الليبية لدى الولايات المتحدة، التي مر عليها نحو 11 عاما منذ سقوط نظام القذافي، دون أن يتم الإفراج عنها، بدعوى عدم وجود حكومة مركزية قوية وفاعلة في ليبيا.
وظهر الملف مجددا بشكل عرضي، في اجتماع الكبير مع البنك الفيدرالي الأمريكي، حيث قال في بيان مبهم أنهما بحثا “تعزيز العلاقة الاستراتيجية بين المؤسستين وإدارة الأصول، واستمرار التعاون في تدعيم عمليات المدفوعات الخارجية”.
وبحسب المعلومات، فقد جمدت حكومات أجنبية في عام 2011 أموالا سيادية ليبية بنحو 150 مليار دولار ولدى البنك المركزي الليبي 144 طنا من الذهب. وتزيد قيمة الأموال الليبية المجمدة لدى الولايات المتحدة على 34 مليار دولار. وفي تلك الفترة، كان لدى هيئة الاستثمار الليبي 32 مليار دولار في عدد من البنوك الأمريكية، حيث كان يدير كل منها ما يصل 500 مليون دولار.
وجاء تجميد الأموال الليبية في إطار حزمة عقوبات فرضها مجلس الأمن الدولي بهدف الضغط على نظام القذافي. وعلى الرغم من مرور سنوات سقوط هذا النظام، فقد بقيت ثروة ليبيا بالخارج عرضة للكثير من عمليات الاحتيال والفساد والنهب.
فساد محتمل
في أكتوبر 2021، طالب 13 من أعضاء مجلس النواب رئيسه عقيلة صالح بإيقاف الصديق الكبير، وإحالته للتحقيق بتهمة إهدار مليار ونصف مليار دولار من أموال المصرف.
تقرير لديوان المحاسبة تحدث في أكثر من تقرير عن إهدار المال العام في المصرف المركزي، وطالب بإحالة الكبير إلى النائب العام لقيامه بتصرفات أضرت باقتصاد الدولة، وتسببت في انخفاض قيمة الدينار الليبي، وارتفاع الأسعار.
في مراجعته الأخيرة للقطاع المالي في ليبيا، يخلص البنك الدولي إلى أن “صعود المليشيات، التي تسيطر على أجزاء كبيرة من العاصمة الليبية، يشكل مبعث قلق شديد لأنها تحولت إلى شبكة إجرامية تمكنت من اختراق مجالات مؤسسات الأعمال والسياسة والإدارة”.
ولفت التقرير الصادر في فبراير 2020، الى أنه “ومع بدء تراجع التمويل الحكومي للجماعات المسلحة، تحَّولت المليشيات القوية إلى البحث عن مصادر أخرى للإيرادات مثل الابتزاز والخطف وفرض أتاوات وضرائب بالأسواق والاحتيال المالي”. وبحسب التقرير، فإن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة أدت بعد ذلك “إلى تغلغل هذه الجماعات في النظام المالي. كما أدى النفوذ المتنامي للمليشيات على القطاع المصرفي، مع انتشار شائعات عن تواطؤ موظفين بالبنوك لتقديم معلومات عن المودعين إلى الجماعات المسلحة، إلى زيادة تراجع ثقة المستهلكين في هذا القطاع”.
في فبراير 2021، كشف بحث أجرته منظمة غلوبال ويتنس الدولية غير الحكومية عن استمرار ليبيا في خسارة ملايين الدولارات سنويًا من خلال الاستخدام الاحتيالي لنظام خطابات الاعتماد (LC) الذي يديره مصرف ليبيا المركزي.
وبحسب البحث، فإن إصدار خطاب الاعتماد الضخم إلى جانب شهادات المصدر “يشير إلى الجريمة المالية المستمرة في نظام خطاب الاعتماد الليبي، بتكلفة كبيرة للمالية العامة الليبية، حيث تجاوز معدل إصدار خطاب الاعتماد من إبريل إلى يوليو 2020 الطلب التاريخي على سلع معينة. وعلى سبيل المثال، تجاوزت خطابات الاعتماد الخاصة باللحوم لأكثر من 13 أسبوعًا قيمة واردات اللحوم المسجلة في ليبيا طوال المدة الكاملة لكل من 2016 و2017 و2018.
كما تم الكشف شغل كبار المسؤولين في مصرف ليبيا المركزي لمناصب مجالس إدارة في بنوك تجارية مملوكة لليبيين في الخارج، وهو تضاربٌ واضح في المصالح.
ويمتلك مصرف ليبيا المركزي شبكة من “البنوك المراسلة” التجارية الممتدة عبر القارات الخمس، لكن الوسيط الرئيسي لخطابات الاعتماد هو بنك ABC، وهو مملوكٌ بشكل غير مباشر لمصرف ليبيا المركزي ومقره لندن، ورئيسه ليس أي شخص آخر، إنه هو محافظ البنك المركزي صادق الكبير نفسه.
وأشار تقرير نقلته وسائل إعلام محلية عن صحيفة واشنطن تايمز الأمريكية، إلى أن الفساد داخل النظام المالي الليبي لا يزال يمثّل حجر عثرة رئيسًا، والشركات والمواطنون غير قادرين على تنفيذ المعاملات المالية الأساسية، وأن الصديق الكبير وحلفاءه أنشأوا شبكةً من رجال الأعمال الذين يستغلون السوق السوداء واقتصاد الظل لتحقيق أرباح غير مشروعة.
وذهب التقرير إلى أبعد من ذلك، حيث أورد أن الكبير وشركائه يُقوّضون معًا اقتصاد ليبيا، ويُوجّهون الأموال إلى تشكيلات مسلحة وصفها بـ “السرية”، تعمل على إثارة الاضطرابات في البلاد.
السفير المستشار
يعد بيتر ميليت، السفير البريطاني الأسبق لدى ليبيا، خير مثال على الفساد الإداري والمالي الذي يعتري المصرف الرئيسي في ليبيا. ويصل احتياطي المصرف من النقد إلى 71 مليار دينار ليبي، بينما قيمة الأصول الأجنبية تبلغ 120 مليار دولار أمريكي.
وعمد الكبير الى الاستعانة بخدمات ميليت بعدما اتهمه الأخير خلال شهادته أمام برلمان بلاده بخصوص التطورات في ليبيا المتعلقة بتشكيل حكومة الوفاق السابقة، بأن المصرف المركزي يساهم في تمويل الحرب الأهلية في ليبيا، عبر دفع المرتبات للمليشيات المسلحة، المنتشرة في المنطقة الغربية على وجه الخصوص.
وتم تعيين ميليت مستشارًا للكبير بمرتب شهري قيمته 16500 جنيه إسترليني، أي ما يعادل 109 ألف دينار ليبي شهرياً.
ووفقا لإحصائية قدمتها وسائل إعلام ليبية محلية، فإن قرار تعيين ميليت مستشاراً لمحافظ المصرف المركزي تم في مطلع عام 2019، ما يعني أنه حصل على راتب يقدر بحوالي 4 مليون دينار ليبي حتى الآن.
وأظهرت الوثائق أن الهدف من هذا القرار هو تعطيل توحيد المصرف المركزي المنقسم على نفسه بين فرعه الرئيسي في العاصمة طرابلس والفرع الموازي في المنطقة الشرقية.
وبينما ثمة ضغوط محلية ودولية لتوحيد المؤسسات النقدية والمصرفية في ليبيا، فإن الكبير صرح في السابق بحاجته إلى ستة أشهر لإتمام عملية دمج المصرف المركزي مجددا، وهو ما اعتبره مراقبون بمثابة ذريعة للمماطلة، لاستمرار الكبير على رأس المصرف المركزي.
وقبل أيام من وصول الكبير الى العاصمة الأمريكية واشنطن، أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن قرارا بتمديد حالة الطوارئ الأمريكية فيما يتعلق بليبيا.
ويستند القرار إلى حجج أمريكية واهية من بينها أن “هناك خطر جسيم يتمثل في اختلاس أصول الدولة الليبية من قبل القذافي أو أعضاء حكومته أو أفراد أسرته أو شركائه المقربين إذا لم تتم حماية هذه الأصول”.
كما يشير إلى “العنف المستمر في ليبيا، بما في ذلك هجمات الجماعات المسلحة ضد منشآت الدولة الليبية، والبعثات الأجنبية في ليبيا، والبنية التحتية الحيوية، وكذلك انتهاكات حقوق الإنسان، وانتهاكات حظر الأسلحة المفروض بموجب قرار مجلس الأمن الدولي، واختلاس الموارد الطبيعية الليبية”. وبحسب التقرير، فإن كل ما سبق “يهدّد السلام والأمن والاستقرار والسيادة والتحول الديمقراطي، كما يهدد وحدة أراضي ليبيا، ويشكل بالتالي “تهديدًا غيرَ عاديٍ للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة”.
من وجهة النظر الأمريكية تلك، فإن “هناك حاجة إلى تدابير للحماية من تحويل الأصول أو غيرها من الانتهاكات التي يرتكبها أفراد عائلة القذافي وشركائهم وغيرهم من الأشخاص لإعاقة المصالحة الوطنية الليبية”.
وهكذا، فإنه وبعد مرور 11 عاما على الإطاحة بنظام القذافي لا زالت إدارة بايدن ترى في أفعاله السابقة خطرا على الأمن القومي الأمريكي، على الرغم من أن ليبيا ليست من دول الجوار الجغرافي للولايات المتحدة.
قصة الإقالة المتعثرة
وكان مجلس النواب الليبي قد أقال الصديق الكبير محافظ المصرف المركزي من منصبه في سبتمبر من العام 2014، وعين نائبه علي الحبري للمنصب مؤقتا، وافتتح مقرا له في شرق البلاد، لكنه لم يلق اعترافا من قبل المجتمع الدولي بدعوى ضرورة تجنيب المؤسسات السيادية الانقسام للحفاظ عليها من الانهيار الكامل.
ولم يُطبق قرار إقالة الكبير حتى اليوم، إذ استمر يواصل عمله، ورفض تسليم منصبه، بدعوى أن الاتفاق السياسي الموقع نهاية عام 2015 في منتجع الصخيرات بالمغرب، ينص على ضرورة اختيار محافظ جديد بالشراكة مع المجلس الأعلى للدولة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد انتخب البرلمان الليبي لاحقا في 19 ديسمبر 2017، محمد عبد السلام الشكري محافظا جديدا للمصرف المركزي، الذي تذهب إليه إيرادات النفط. بيد أن الشكري لم يحظى باعتراف المجتمع الدولي الذي ظل قاصرا على الكبير.
ماذا صنع الحداد بين باشاغا والكبير؟
لن يكون مستقبل العلاقات بين الكبير ورئيس الوزراء المكلف فتحي باشاغا الذي منحه مجلس النواب مؤخرا الثقة إيذانا بتدشين حكومة جديدة تحمل اسم حكومة الاستقرار الوطني، مشرقا على الأرجح. فبين الاثنين ما صنع الحداد. ففي ديسمبر 2020، أصدر فتحي باشاغا، باعتباره وزير الداخلية آنذاك بحكومة الوفاق السابقة، قرارا بمنع الكبير من السفر في مهمة رسمية بحجة تنفيذ الإجراءات التنظيمية لسفر المسؤولين، ما دفع الأخير إلى اتهامه “بإجراءات تعسفية خارجة عن القانون وتجاوز لصلاحياته”.
كما اعتبر القرار مساساً بمؤسسة سيادية تتبع السلطة التشريعية – البرلمان – وقد صدر التصرف من وزير الداخلية الذي كان حرياً به احترام دولة القانون والمؤسسات”.
سعى باشاغا لفرض الرقابة على حركة المسؤولين الذين يتقلدون مهام رسمية للدولة، بدعوى وجود فوضى إدارية وأمنية في إجراءات السفر إلى الخارج دون الالتزام بالضوابط.
وآنذاك أيضا اتهم باشاغا الكبير بالتعالي ورفض الامتثال والرضوخ للقانون، وضرورة استيفائه لشروط السفر.
ورغم محاولة باشاغا، الذي تعكس حكومته الكبيرة المؤلفة من 35 وزيرا، المفاوضات المطولة والوعود بالمناصب اللازمة لضمان دعم الأغلبية في البرلمان والمصالح المختلفة التي تمثلها، لطمأنة الليبيين بأن تسليما سلميا للسلطة سيتم بدون أي مشكلات، فثمة مخاوف من عودة الانقسام في ليبيا بين حكومتي الدبيبة وباشاغا، يعززها احتمال أن تتوقف مجددا صادرات النفط التي تبلغ 1.3 مليون برميل يوميا.
وخلال سنوات الانقسام السابقة، كان المصرف المركزي ومؤسسة النفط مرتبطين بالحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس لكنهما عملا عبر خطوط القتال.
وقال محللون إن حكومة واحدة فقط ستسيطر على المصرف المركزي، الذي يعتبر محافظه حليفا للدبيبة.
ووسط مخاطر حقيقية من نشوب قتال بين الفصائل المسلحة أو تقسيم الأراضي بين إدارتين متنافستين، احتشدت جماعات مسلحة متناحرة في العاصمة طرابلس خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعضها يعارض تنصيب باشاغا المدعوم من المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني المتمركز في شرق البلاد.
وتجنبت الأمم المتحدة والدول الأجنبية التي أيدت حكومة الدبيبة المؤقتة عندما شُكلت قبل عام الإفصاح بشكل علني عن أي موقف من الحكومتين الحاليتين، لكنها ظلت دائما مؤيدة لبقاء الصديق الكبير في منصبه كمحافظ لمصرف ليبيا المركزي.
في كل الأحوال، ظلّ الكبير في موقعه على مدى السنوات الماضية، متحديا عوامل الزمن وتغيير الحكومات، رغم كل الاتهامات والشكوك التي تحوم حوله، بيد أنه أظهر يقينا أنّه أحد صانعي الملوك في ليبيا، وأحد أهم اللاعبين في عملية صناعة قرارها السياسي والاقتصادي.