يتردّد اسم سهير القلماوي في مصر كأول امرأة حققت العديد من الإنجازات الأكاديمية والمهنية في وقتٍ كانت ما تزال المرأة المصرية فيه تعاني التهميش.
يوسف شرقاوي
يتردّد اسم سهير القلماوي في مصر، كأول امرأة تمكنت من كسر أرقام قياسية عبر تحقيقها العديد من الإنجازات الأكاديمية والمهنية. ويزداد الأمر أهميةً عندما نعلم أن القلماوي قامت بذلك في وقتٍ كانت ما تزال المرأة المصرية فيه تعاني التهميش علمياً وأكاديمياً وحياتياً.
يقف اسم القلماوي، بالنسبة للنقاد، كتلميذة عميد الأدب العربي طه حسين. كما أنها كانت مدرِّسة المثقف التنويري جابر عصفور، الذي قدّم رسالتي الماجستير والدكتوراه “الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب” تحت إشرافها. وعدا أنها ألهمت العديد من النساء المصريات والعربيات، تُعَد القلماوي موسوعةً معرفية وأدبية بسبب ما قدّمته.
المرأة الجديدة
ولدت سهير القلماوي في 20 يوليو 1911 في القاهرة، وعاشت هناك طوال حياتها. واستفادت من مكتبة أبيها، الذي كان يعمل طبيباً في طنطا. ونشأت خلال طفولتها أثناء ثورة 1919، وسط تأثير الناشطات المصريات. ففي تلك الفترة، نشطت فيها النسوية هدى الشعراوي. وبرزت الشخصية القومية صفية زغلول. وركزت الناشطات النسويات حينذاك على نقل المناظرة النسوية للشوارع لإنشاء حركة بعيدة المدى.
تخرجت القلماوي عام 1928 من الكلية الأمريكية للفتيات. وعندما أرادت دراسة الطب كوالدها في جامعة القاهرة، فوجئت برفض تسجيلها في كلية الطب “لأنها فتاة”. حينذاك، شجعها أبوها على التخصص في الأدب العربي. وأصبحت أول فتاة شابة ترتاد جامعة القاهرة وهي لا تتقن العربية.
يقول رشاد كامل: “لتتقن اللغة العربية، حرص والدها الجراح صاحب أشهر عيادة على أن يقرأ معها القرآن وكتب التفاسير. كما أحضر لها عدداً من المدرسين ليشرحوا لها كل ما يتعلق باللغة العربية من قواعد وبلاغة وأدب”.
وعلى هذا الأساس، باتت سهير القلماوي واحدةً من أول أربع فتيات يلتحقن بكلية الآداب في الجامعة المصرية عام 1929، كما يقول محمود علي في كتابه “سهير قلماوي، أيقونة النقد العربي”.
وكانت القلماوي الطالبة الوحيدة في قسم اللغة العربية ومعها 13 طالباً هم كل الدفعة.
ويكتب إيهاب الملاح عن الالتحاق بالجامعة على نحوٍ مختلف: “ذهب والدها الطبيب الشهير إلى طه حسين ليعينه على حلِّ مشكلة ابنته. ولكن طه حسين صرف نظر الطالبة عن كلية الطب، وأقنعها بالالتحاق بكلية الآداب، والدراسة في قسم اللغة العربية الذي كان أشهر أساتذته.
ويبدو أن شخصية طه حسين الساحرة جذبت الفتاة سهير القلماوي إليه، فتعلقت به، واتخذته أباً ثانياً، وأستاذاً، ومشرفاً، ورائداً، ومثلاً أعلى في الحياة. وأجلّها الأستاذ وأعجب بها. ووجد فيها نموذجاً للمرأة الجديدة التي كان المثقفون المصريون يحلمون بها منذ أن كتب قاسم أمين كتاب (المرأة الجديدة) ونشره سنة 1900 من مفتتح القرن الماضي”.
تخرجت القلماوي من قسم اللغة العربية وكانت الأولى على دفعتها. وأثناء دراستها نشرت لها مجلات “اللطائف المصورة” و”العروسة والهلال” و”أبوللو” و”الرسالة”. كما عيّنها طه حسين مساعدةً لرئيس تحرير مجلة جامعة القاهرة عام 1932. وكانت أول امرأة تحصل على تصريح بممارسة الصحافة في مصر.
عند افتتاح الإذاعة المصرية 1934، اختيرت القلماوي لإلقاء بعض الأحاديث كلّ ثلاثاء. كما أنها أشرفت على بعض صفحات مجلة الراديو مقابل مئة وخمسين قرشاً في الشهر. وكان هذا أول أجر تتلقاه في حياتها. وكلفها طه حسين بالإشراف على صفحة الأدب وصفحة المرأة مجاناً في جريدة الوادي التي اشتراها. أما المفكر المعروف أحمد أمين، فعرض عليها كتابة ثلاث مقالات في مجلة الرسالة مقابل خمس جنيهات، لكنها رفضت، لأنها كما قالت: “لا أريد أن أكتب بأجر إلا فيما بعد”.
وأصبحت سهير القلماوي أول امرأة مصرية تحصل على الماجستير. وكانت رسالتها عن أدب الخوارج في العصر الأموي. وقبل ذلك، كانت أول مُحاضِرة في جامعة القاهرة عام 1936.
في 1941، كانت القلماوي أول امرأة تحصل على الجائزة الأولى من مجمع اللغة العربية، وأول امرأة تحصل على الدكتوراه، من خلال دراستها “ألف ليلة وليلة“. وقدّم طه حسين لهذه الرسالة بما يلي:
“هذه رسالةٌ بارعة من رسائل الدكتوراه التي ميزتها كلية الآداب في جامعة القاهرة. وبراعتها تأتي من مؤلفتها أولاً، فهي السيدة سهير القلماوي، وما أظن الناس في حاجة إلى أن تعرف إليهم سهير القلماوي، فهي قد عرفت نفسها إليهم بأحاديث جدتي، وبما نشرت في الصحف من فصول، وبما تحدثت إليهم به في الراديو من مختلف الحديث”.
لا يتوقف الأمر هنا، إذ استمرت القلماوي في مسيرتها، وأصبحت رئيس قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة من 1958 إلى 1967. وأصبحت رئيسة أول اجتماع للفنون الشعبية عام 1961، وشكلت لجنة للإشراف على جامعة الفتيات الفلسطينيات للحديث عن اهتمامها بالقضية الفلسطينية.
وأصبحت القلماوي في عام 1967 أول امرأة ترأس الهيئة المصرية العامة للكتاب. وفي نفس العام، تولت رئاسة الاتحاد النسوي المصري والهيئة المصرية العامة للسينما والمسرح والموسيقى. كما أنها نشرت أول دواوين أحمد فؤاد نجم “صور من الحياة والسجن”، ولأكثر من خمسين من الشبان الواعدين آنذاك. وكان ذلك عبر إصدارها لسلاسل أدبية سمّتها “مؤلفات جديدة”.
وفي عام 1968، باتت رئيسة مجتمع ثقافة الطفل. كما أنها أسست أول معرض كتاب في الشرق الأوسط وهو “معرض القاهرة الدولي للكتاب“. وبين عامي 1982 و1985، تولت رئاسة هيئة الرقابة.
أحاديث القلماوي
نشرت سهير القلماوي “أحاديث جدتي” عام 1935. وتقول عنه:
“كنت قد كتبت في جريدة الوادي عام 1935 قصة أدبية عن (أمة كريمة والحمام) فيها ذكريات أيام جدي. ولما توفى والدي، نصحني أستاذي طه حسين أن أدفن أحزاني في الكتابة، وقال: لماذا لا تؤلفين قصصاً أخرى وتنشرينها كتاباً؟ وكان هذا كتاب أحاديث جدتي، يعبر عن عمق الفجوة بين جيلي ومن سبقه من أجيال. طبعت الكتاب على حسابي الخاص في لجنة التأليف والترجمة والنشر. وطبعت أربعة آلاف نسخة. قال أستاذي.. أنتِ مجنونة، أنا طه حسين أطبع ثلاثة آلاف! قلتُ: أنت مقروء لأنك أديب ممتاز، وأنا أديبة ممتازة، زائد أني امرأة، وهذا في حد ذاته طرافة تجذب القارئ. ولم يبع من الكتاب إلا تسعمائة نسخة، وقامت الحرب، فاختفى من المخزن لأنّ غلافه كان مهماً لصناعة البلوك نوتات، فهذا الورق المقوَّى لم يكن متوافراً في السوق وكان هو غلافي الأنيق”.
تحلل القلماوي في أحاديث جدتي الدور الاجتماعي للإناث باعتباره الحافظ والمجدد لتأريخ المجتمع عبر السرد الشفوي بهذا العمل. ويتألف هذا العمل الأدبي من قصة جدة تحكي ذكريات الماضي لحفيدتها. وطورت خط هذه القصة بداخل النقد الاجتماعي ومنظور المدنيين الذين لزموا بيوتهم في زمن الحرب، وفقاً لمحمد عبد الرحمن. ويُعَد الكتاب أول عمل من نوعه تنشره امرأة في مصر.
ثم توالت مؤلفاتها: “الشياطين تلهو”، “ثم غربت الشمس”، “في النقد الأدبي”، “المحاكاة في الأدب”، “العالم بين دفتي كتاب”. وترجمت العديد من الكتب، منها: “قصص صينية لبيرل بك”، “عزيزتي أنتونيّا”، “رسالة أبون لأفلاطون”، وعشر مسرحيات لشكسبير، إضافة لعشرين كتاباً في مشروع الألف كتاب. ومن أبحاثها: “المرأة عند الطهطاوي”، و”أزمة الشعر”.
التراث النقدي
أعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب نشر طبعات جديدة من الأعمال الكاملة للقلماوي، هي: “عن النقد الأدبي” و”نظرية الأدب، المحاكاة”. الأول، كما يقول إيهاب الملاح، يضم محاضراتها القيمة عن النقد الأدبي من منظور مدرسة النقد الجديد إحدى مدارس وتيارات النقد الشهيرة في القرن العشرين. وركزت تلك المدرسة على النص وجمالياته في مقابل المدارس والتيارات التي اهتمت بمضمونه ومغزاه الاجتماعي.
وعالج الكتاب الثاني أقدم النظريات الأدبية والنقدية وأعرقها في تاريخ الفلسفات الفنية وعلم الجمال وهي نظرية “المحاكاة” الأرسطية الشهيرة. وكان كتاب القلماوي الذي صدر للمرة الأولى عام 1953 من أهم ما كُتب بالعربية عن هذه النظرية، وأسسها، ودعائمها الفلسفية والفكرية، وأثرها عبر القرون في تطورات المدارس الأدبية والنقدية من الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى الواقعية، وما بعدها.
وكانت سهير تقول: “إن الناقد لا يكون ناقداً بحق إلا إذا كان ما يحسنه من التراث في وزن ما يحسنه من علوم العصر، وما يتقنه من معارف العرب لا يقل عما يتقنه من معارف غير العرب من علوم العصر ومناهج درسه الحديثة”.
وكانت القلماوي أستاذة لمشاهير الكتّاب المصريين، منهم صلاح عبد الصبور وعبد المنعم تليمة ورجاء النقاش وجابر عصفور. كما امتد عملها إلى الإذاعة، وكذلك السياسة، إذ أصبحت نائباً في البرلمان عام ١٩٧٩، ونالت الكثير من الجوائز التقديرية. وتُعَد علامة أدبية وسياسية بارزة مصرية وهي من شكلت الكتابة والثقافة العربية من خلال كتابتها ومساهمتها في الحركة النسوية التي برزت آنذاك.
قضايا المرأة والفكر والسياسة
أثرت القلماوي بالكاتبة المصرية نوال السعداوي على نحوٍ خاص. وكتبت عنها في كتبها: «كنت طفلة في المدرسة الابتدائية حين سمعت صوتها في الراديو، صوتٌ قوي ممتلئ، يشبه صوت أم كلثوم، إلا أنها لا تغني، لكن تتحدث في الأدب والثقافة وتعليم المرأة… حين دخلت الجامعة سألتُ عنها، قالوا إنها في كلية الآداب، وكنت أنا في كلية الطب، لم أعرف الطريق إليها، كانت أستاذة كبيرة معروفة وأنا في أول الشباب، تخرجت طبيبة وبدأت أكتب الأدب، نشرت بعض القصص القصيرة، وأول رواية طويلة «مذكرات طبيبة» ظهرت على حلقات في مجلة روز اليوسف. في يوم دقَّ جرس التليفون في بيتي، جاءني الصوت القوي الممتلئ الذي سمعته في الراديو منذ عشرين عاماً: أنا سهير القلماوي، قرأت روايتك في مجلة «روزا» وأعجبتني، واصلي الكتابة يا نوال».
مهدت القلماوي الطريق للنساء المصريات للدفاع عن الحق في التعليم والتدريس وحقوقهن الأساسية في الحياة.
مع ذلك، ما تزال حتى اليوم الحركة الثقافية النسائية هامشية في مصر، كما تقول السعداوي: «فهي حركةٌ يغلب عليها الرجال بحكم التاريخ والقوة السياسية، تغلب عليها الصراعات الحزبية، تميل إلى التضحية بقضية المرأة من أجل القضايا الأخرى؛ لهذا السبب اندثرت أعمال الكثيرات من الرائدات المصريات، في حياتهن وبعد موتهن».
وأضافت: «لا يزال تاريخ سهير القلماوي وأعمالها مجهولة عند الأجيال الجديدة في بلادنا، أخشى أن تندثر تماماً بوفاتها كما حدث لنساء غيرها؛ فالضربات لا تزال توجَّه إلى الحركة النسائية تحت أسماء ومسميات دينية أو سياسية، ولا يزال عدد المؤرِّخات من النساء قليلاً يُعَد على الأصابع، تنشغل معظمهن بالكتابة عن الرواد من الرجال».