وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

غزة تحترق وإسرائيل تفلت من العقاب

غزة تحترق
فلسطيني يصرخ بعد انتشال جثة طفل من أسفل أنقاض مبنى سكني مدمر في حي الرمال السكني بمدينة غزة، 16 مايو 2021، حيث لم يتم تحذير السكان قبل القصف الإسرائيلي لمبانيهم. (Photo by MAHMUD HAMS / AFP)

مات ناشد

يستشهد زعماء العالم بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس لتبرير قتلها العشوائي للمدنيين الفلسطينيين في غزة.

فقد أعقبت المذبحة الأخيرة أسابيع من عنف الدولة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية. ففي 2 مايو 2021، أمرت المحكمة العليا الإسرائيلية بإخلاء ست عائلات فلسطينية منازلهم في الحي، مما أثار ضجة بين الفلسطينيين في إسرائيل والأراضي المحتلة وفي المنفى. وأشار العديد من الفلسطينيين إلى أن عمليات الإخلاء كانت أحدث محاولةٍ إسرائيلية لطرد الفلسطينيين من منازلهم.

وعليه، حذرت الأمم المتحدة، التي فزعت من مشاهد حي الشيخ جراح، من أن مصادرة منازل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وتسليمها للمستوطنين الإسرائيليين، يمكن أن يُشكّل جريمة حرب. تبعتها حماس، حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية في غزة، بتحذيرٍ من جانبها، حيث تعهدت الجماعة بفرض “ثمن باهظ” على إسرائيل إذا تابعت عمليات الإخلاء في حي الشيخ جراح. ووفقاً لمجموعة الأزمات الدولية، كانت هذه هي المرة الأولى التي تصدر فيها حماس مطالب تتعلق بمدينة القدس بدلاً من غزة.

وبذلك، حاولت حماس اتخاذ خطوةٍ استباقية على حساب السلطة الفلسطينية، التي انتقدها العديد من الفلسطينيين لفشلها في الدفاع عن القدس وتأجيل الانتخابات التشريعية في الأراضي المحتلة لأجلٍ غير مسمى.

غزة تحترق
إسرائيليون يستجمون على الشاطئ يندفعون نحو الملاجئ في وسط مدينة تل أبيب، في 15 مايو 2021، بعد إطلاق صواريخ من قطاع غزة، تجاه إسرائيل. (Photo by Gideon MARKOWICZ / AFP)

بدورها، لم تكن حماس تعتمد بذلك أسلوب المراوغة والخداع، بل صدقت القول وأمطرت إسرائيل بعشرات الصواريخ في العاشر من مايو، التي اعترض معظمها نظام القبة الحديدية الدفاعي الإسرائيلي. ومع ذلك، أسفر وابل الصواريخ عن مقتل عشرة إسرائيليين، من بينهم طفل، في الأسبوع الماضي.

بيد أن أعداد القتلى في غزة أعلى بكثير بسبب الحملة الانتقامية الشرسة التي تشنها آلة الحرب الإسرائيلية على القطاع، إذ حتى الآن قتل في غزة أكثر من 200 فلسطيني من بينهم 59 طفلاً.

وخلافاً للمواطنين الإسرائيليين، لا يملك الفلسطينيون في غزة مكاناً للاختباء فيه، إذ لا تتوفر لديهم ملاجئ من القنابل وأنظمة الدفاع الجوي ولا حتى سبيلاً للفرار وإيجاد ملاذِ آمن. ففي عام 2007، فرضت إسرائيل حصاراً برياً وبحرياً وجوياً على غزة، مما أدى فعلياً إلى حبس أكثر من مليوني شخص داخل سجن في الهواء الطلق. نتيجة لذلك، أصبحت غزة واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، وهذا يعني أن جميع الفلسطينيين في غزة يعاقبون عندما تنتقم إسرائيل من حماس.

ولكن مع استمرار المجازر في غزة، ترفض واشنطن إدانة استخدام إسرائيل للقوة العشوائية وغير المتكافئة. فقد امتنع الرئيس جو بايدن عن الإدلاء بأي تصريحاتٍ علنية، باستثناء التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وعليه، أدى الافتقار إلى الاستعجال بضمان وقفٍ لإطلاق النار إلى انقسام الديمقراطيين.

علاوةً على ذلك، يقوض صمت بايدن وعود حملته الانتخابية بإعادة إدراج حقوق الإنسان في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إذ بات يصفه العديد من المعلقين بالمنافق بعد أن انتقد قرار الرئيس السابق دونالد ترمب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، فضلاً عن انتقاده جاريد كوشنر لافتقاره إلى المؤهلات اللازمة لصياغة مُقترح سلام.

آنذاك، أطلق ترمب على اقتراح كوشنر لقب “صفقة القرن،” بيد أنه لم يحقق أي إنجازٍ يذكر. فقد أيّد المخطط بشكلٍ فعال حل الدولتين الذي كان من شأنه أن يجبر الفلسطينيين على العيش على قطع من الأرض تشبه البانتوستانات من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

من جانبه، لم ينبس بايدن ببِنت شفة ضد خطة إسرائيل لتوسيع المستوطنات ولا استخدامها للقوة الوحشية ضد الفلسطينيين المُحتَلين. وبدلاً من ذلك، عززت إدارته دعمها لإسرائيل، فقبل يومين فحسب، ومع تساقط وابل الصواريخ على القطاع، وافق بايدن على بيع أسلحةٍ بقيمة 735 مليون دولار لإسرائيل.

وبالمثل، كانت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي متحيزةً تجاه إسرائيل، فقد رفعت النمسا علم إسرائيل على مبانيها الحكومية الرسمية معربةً عن تضامنها، بينما حظرت فرنسا احتجاجاً مؤيداً للفلسطينيين. ومن جهتها، انضمت ألمانيا أيضاً إلى الجوقة المرددة لنغمة إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها.

بيد أن جماعاتٍ حقوقية تقول إن إسرائيل تنتهك قوانين الحرب. ففي يوم الأحد الماضي، أطلق الجيش الإسرائيلي صاروخاً على شقةٍ مما أسفر عن مقتل ثمانية أطفال وامرأتين في غزة، حيث زعم الجيش الإسرائيلي، كما يفعل في كثيرٍ من الأحيان، أن المبنى كان يأوي قائداً بارزاً في حماس.

كما انتقد الصحفيون ودعاة الصحافة الحرة إسرائيل بشدة لاستهدافها برجاً مكوناً من 12 طابقاً يضم مكاتب وكالة أسوشيتد برس وقناة الجزيرة في غزة، حيث تم تحذير المدنيين بإخلاء المبنى قبل ساعةٍ من تدميره. ومرةً أخرى، زعم الجيش الإسرائيلي أن حماس خزنت معداتٍ استخباراتية عسكرية داخل البرج، لكن المسؤولين الإسرائيليين لم يقدموا أي دليلٍ على ذلك. ومع ذلك، لم تضغط الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي على إسرائيل لتقديم أي أدلة، مما منح تل أبيب الضوء الأخضر فعلياً لقصف غزة مع الإفلات من العقاب.

بل إن الدول العربية أكثر انقساماً في رد فعلها على إراقة الدماء في غزة، فقد نأى أولئك الذين وقعوا اتفاقات إبراهيم العام الماضي بنفسهم عن توجيه أي انتقاداتٍ قاسية لحليفهم الجديد.

وبدلاً من ذلك، تحاول الأنظمة الملكية في الخليج ثني شعوبها عن التضامن مع الفلسطينيين. وفيما يبدو أنه رد فعلٍ برعاية الدولة على قصف غزة، تم تداول وسم “فلسطين ليست قضيتي” عبر تويتر في الإمارات والبحرين نهاية الأسبوع الماضي. كما اعترف السياسي الإماراتي، عبد الخالق عبد الله، لاحقاً بأن قصف إسرائيل لغزة يضع الإمارات في موقفٍ صعب ومربك.

من جهتها، كانت لهجة دولٍ عربية أخرى مختلفة، ففي مصر على سبيل المثال، أرسلت سيارات الإسعاف إلى غزة وأعادت مصر فتح معبر رفح الحدودي لتوفير ملجأ للطلاب الفلسطينيين وأولئك الذين يحتاجون إلى العلاج الطبي.

ففي الماضي، كانت القاهرة تسعد برؤية قصف إسرائيل لحماس، التي كانت تعتبرها فرعاً أكثر تقدماً للإخوان المسلمين، بيد أن الرئيس عبد الفتاح السيسي بات اليوم يتبنى نهجاً أكثر براغماتية، إذ يدرك تماماً أن معاناة الفلسطينيين يمكن أن تولد احتجاجاتٍ في بلاده قد تجبره على حث واشنطن على الضغط على تل أبيب لوقف تصعيد العنف.

وعلى صعيدٍ متصل، أدان وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود بشدة “انتهاكات إسرائيل الصارخة” لحقوق الفلسطينيين. وأضاف خلال تصريحاته التلفزيونية، أن إسرائيل انتهكت حرمة المقدسات الإسلامية في القدس الشرقية، وأدان طرد العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح. وخلص إلى أن الحل الوحيد طويل الأمد هو أن يقوم المجتمع الدولي بإحياء المحادثات من أجل حل الدولتين.

ومع ذلك، فإن احتمال قيام دولةٍ فلسطينية محكومٌ عليه بالإعدام ما لم يتحرك المجتمع الدولي لوقف وإلغاء بناء المستوطنات الإسرائيلية. وإدراكاً للحقيقة وبعيداً عن أي أوهام، تواصل القاهرة والرياض اتباع تقليدٍ طويل في التظاهر باهتمامهم بحياة الفلسطينيين.

وللأسف، تتمثل الحقيقة المُرة في كون الأنظمة العربية قاطبة لا تهتم سوى ببقائها.