بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في يونيو 2014 على مساحات كبيرة من شمال العراق والموصل، ثاني أكبر المدن العراقية والتي تبعد 450 كم شمال العاصمة بغداد، دمرت الجماعة المتطرفة أقدم دير مسيحي في بلاد ما بين النهرين، دير مار إيليا، الذي يبلغ من القِدم أكثر من 1,400 عاماً وهو تابعٌ للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية. لم تكن هذه المرة الأولى التي تُدمر فيها جماعة “داعش” الإرهابية ديراً، فقد سبق وارتكبت أعمالاً مماثلة ودمرت عدداً من المباني التاريخية التي تعود للمسيحيين وغير المسيحيين، ذلك أنّ هذه المباني تعارض تفسيرهم للإسلام. وكانت بعثة الاتحاد الأوروبي إلى العراق قد أعلنت أنّ مسلحي “داعش” أحرقوا عدة كنائس في المدينة، بعد احتلال الموصل.
الطائفة المسيحية في العراق، وفي الموصل على وجه التحديد، من أقدم المجتمعات المسيحية ويعود تاريخ وجودهم إلى المراحل الأولى للمسيحية. فقد كان المسيحيون وحضارتهم في بلاد ما بين النهرين عُرضة للقتل والتدمير والتهجير على مر التاريخ. بدأت مأساة المسيحيين، الذين تجاوزت أعدادهم قبل سقوط صدام حسين ونظامه البعثي أكثر من مليون ونصف مسيحي، وفقاً للأرقام الصادرة عن منظمة حمورابي لحقوق الإنسان، في عام 2003 ووصلت ذروتها عندما استولى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مدينة الموصل.
فقد أعلن كامل زوزو رئيس المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري في خطابٍ له في الاتحاد الأوروبي عام 2013، أنّ أعداد المسيحيين في العراق قُدرت بحوالي 300,000 فقط. وأكدّ أنّ هذا الانخفاض في أعداد المسيحيين في العراق نتيجة الحملات المنظمة في العراق ضد الأقلية المسيحية.
اختتم الفصل الأخير من معاناة المسيحيين في العراق مع دخول “داعش” إلى محافظة نينوى في أوائل يونيو 2014، وشن هجماتٍ على الموصل. ومع مرور الأيام، وانهيار الجيش العراقي في أعقاب الهجمات المتتالية لداعش، استولى التنظيم على مدينة الموصل وغالبية المناطق التابعة لمحافظة نينوى في 10 يونيو 2014. وفي أعقاب ذلك، أعلن أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم، تأسيس الدولة الإسلامية ونصّب نفسه “خليفةً” في 4 يوليو 2014.
وفي بيانٍ وزع في الموصل، خيّر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” المسيحيين بين اعتناق الإسلام أو منحهم الحماية مقابل دفع الجزية (وهي نوعٌ من الضرائب يدفعه غير المسلمين)، وفي حال رفضهم أي من الخيارين، سينتهي بهم الأمر مقطوعي الرأس. وفي نفس البيان، دُعي المسيحيون إلى اجتماعٍ لمناقشة وضعهم، الأمر الذي رفضوه رفضاً قاطعاً. وبالتالي، أصدر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بياناً في يوم الجمعة الموافق 18 يوليو 2014، داعياً فيه المسيحيين “الذين يرفضون اعتناق الإسلام أو دفع الجزية إلى مغادرة مدينة الموصل ودولة الخلافة قبل ظهر يوم السبت بأنفسهم فقط، وإلا سيكون الخيار الوحيد تصفيه من يمتنع عن الخروج.”
بعد البيان الذي أصدره البغدادي، بدأ النزوح الجماعي للمسيحيين من مدينة الموصل والقرى المحيطة بها نحو المناطق الآمنة في إقليم كردستان. لم يسمح تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” للمسيحيين حمل أي ممتلكاتٍ شخصية، حيث نُصبت الحواجز وصودرت جميع الممتلكات التي حملها اللاجئون المسيحيون. وبالتالي، أصبحت الموصل خاليةً من المسيحيين، حيث أعلن لويس ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، أنه “لأول مرة في تاريخ العراق، باتت الموصل اليوم خاليةً من المسيحيين.” ومن الدلالات على خطورة الوضع، قال القس جوزيف فرنسيس، راعي اتحاد الكنائس المسيحية في بغداد، أن ما يحدث في الموصل “تطهيرٌ عرقي” ودعا إلى تأمين حمايةٍ دولية للمسيحيين.
ومع ذلك، لم تقتصر الأعمال العدائية لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ضد المسيحيين على طردهم من مدينتهم، بل استهدفت هجمات التنظيم أيضاً ممتلكاتهم الشخصية وأماكنهم المقدسة. ومع بداية الهجرة القسرية للأسر والأفراد، وضع تنظيم “داعش” حرف “ن” ]المقصود به نصارى[ على جدارن أيٍ من العقارات التي تملكها الأسر المسيحية، وإعلانها ممتلكاتٍ تابعةً للدولة الإسلامية. وكما أفادت بعض التقارير، وزّع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” هذه الممتلكات على عناصره بينما عُرض ما تبقى منها للبيع في المزاد.
كما هاجم مسلحو “داعش” الأماكن المقدسة المسيحية مثل الاستيلاء على مبنى الأبرشية الأرثوذكسية الآشورية في الموصل، ونزع صليب كنيسة مارافرام للسريان الارثوذكس في أواخر يونيو 2014. بالإضافة إلى دخول مسلحي “داعش” إلى الكنيسة الكلدانية في حي الشفاء بالموصل، وقاموا بهدم تمثال «مريمانة»، بالإضافة إلى ساعة الكنيسة، وتجريف مقبرة مسيحية في يوليو من نفس العام. بالإضافة إلى ذلك، فجرت جماعات المتطرفين في تنظيم “داعش” كنيسة مار كوركيس ودير للراهبات، في حي العربي شمال مدينة الموصل في 24 نوفمبر 2014. فقد كشفت وكالة اسوشيتد برس، من خلال استخدام صور الأقمار الصناعية عن ذلك في عام 2016، حيث تُشير التقديرات أن التدمير حصل في الفترة ما بين 27 أغسطس و28 سبتمبر 2014. كما دمرت الجماعة المتطرفة دير مار إيليا، وهو أقدم دير مسيحي في بلاد ما بين النهرين، والذي ينتمي إلى الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، ويعود بنائه إلى أكثر من 1400 سنة.
وفي تقرير صادر عن الأمم المتحدة بالتعاون مع بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أكدّ أن ممارسات “داعش” ضد الأقليات الدينية والعرقية، بما في ذلك المسيحيين، “سياسة منهجية واسعة النطاق،” تهدف إلى قمع وطرد الأقليات بشكلٍ دائم، حيث أن “داعش” يحرمهم من حقوقهم الأساسية ويعرضهم بشكلٍ متعمد لجميع أنواع الانتهاكات، في مخالفةٍ صريحة للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.”
ومن الدلائل الأخرى على سياسات التهجير والتطهير الديني التي تتبعها “داعش” في المناطق الخاضعة لسيطرتها، تصريح رعد جليل كجه جي، رئيس ديوان اوقاف الديانات المسيحية والايزيدية والصابئة المندائية، بقيام عناصر “داعش” بقصف بلدة قراقوش الصغيرة، مما أدى إلى تشريد الآلاف من المسيحيين أواخر عام 2014. كما حرم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” قرى تلكيف، وبرطلة، وبعشيقة، وسنجار من الخدمات الأساسية للماء والكهرباء، مما أجبر سكان هذه المناطق أيضاً على الفرار.
تأثير ممارسات “داعش” على الأقلية المسيحية
كان لاحتلال تنظيم الدولة الإسلامية والتضييق الذي مارسته تأثير كبير على الأقلية المسيحية وحياتهم. فمع نزوح العائلات المسيحية من أراضي الدولة الإسلامية في محافظة نينوى وانتقالهم إلى اقليم كردستان، فقدت هذه العائلات ممتلكاتهم وسبل العيش. كما ألقى ذلك بظلاله أيضاً على النسيج الاجتماعي للمسيحيين، إذ يعيش البعض منهم في مخيمات في المنطقة أو يعيشون في المباني التي لا تزال قيد الإنشاء، في حين هاجر آخرون إلى الدول الأوروبية. كما عانى الطلاب المسيحيون من مشاكل جمة فيما يتعلق بالمراحل الدراسية ومستويات المعيشة. فقد واجه الطلاب “عقبات تعليمية وإدارية خارجة عن إرادتهم” وتأثروا “بارتفاع أسعار احتياجاتهم الأساسية في إقليم كردستان بالمقارنة مع مستويات المعيشة في مناطقهم الأصلية،” وذلك وفقاً لتقرير نصف سنوي صادر عن منظمة حمورابي لحقوق الإنسان في عام 2015 حول الانتهاكات التي تتعرض لها مختلف الأقليات العراقية.
ولم يبقى سوى عدد قليل من العائلات في الموصل، وذلك لأسباب مختلفة مثل وجود المسنين أو أحد المرضى من أفراد العائلة، ومن أجل تجنب العقوبة المحتملة التي فرضتها “داعش،” إدعى البعض منهم اعتناقهم الإسلام أو هربوا للاختباء في مناطق مختلفة من المدينة وبدأوا في ممارسة شعائرهم الدينية سراً.