افتتح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في 6 يناير 2019، دارين للعبادة، مسجداً وكنيسةً ضخمين في العاصمة الإدارية الجديدة التي لا تزال قيد الإنشاء (العاصمة الجديدة). ويُقال أن الكنيسة هي الأكبر على الإطلاق في الشرق الأوسط ويمكن أن تتسع لـ8200 مصلٍ.
وقال السيسي خلال الافتتاح “نحن شيء واحد وسنبقى شيئاً واحداً،” في إشارةٍ إلى التنوع الديني في مصر حيث يُشكل المسلمون 90% والمسيحيون 10% من السكان.
وقد رحب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي زار مصر بعد بضعة أيام، بافتتاح الكنيسة، وكتب على تويتر أن ذلك أظهر “التزام السيسي بتعزيز الحرية الدينية والتسامح بين الأديان.” وعلق الرئيس ترمب أيضاً على وسيلة التواصل الاجتماعي المفضلة لديه، مشيراً إلى أن “الرئيس السيسي ينقل بلاده إلى مستقبل أكثر شمولاً!”.
ولكن، بعيداً عن الأنظار، أظهرت الأحداث التي حصلت في صعيد مصر بعد أسبوعٍ من إفتتاح الكنيسة صورةً مغايرة تماماً، فقد أظهرت لقطاتٌ مصورة قرويين في منشية زعفرانة، جنوب المنيا، يحتجون على وجود كنيسةٍ صغيرة في قريتهم. ردت الشرطة بإغلاق دار العبادة المرتجل وطرد اثنين من القساوسة من القرية، العمل الذي قوبل بالاحتفالات.
وفي رد فعله على الحادثة، قال الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا، “نحن دائماً نسعى للسلام والتهدئة، ولكننا نرفض الذلّ والهوان والذمّية والتنازل عن الحقوق.” يُشير مصطلح “الذميّة” إلى المفهوم الذي كان مطبقاً خلال الأيام الأولى للتوسع الإسلامي، عندما كان المسيحيون واليهود يخضعون للحكم الإسلامي مقابل الحماية من الحاكم.
كما كتب الأنبا مكاريوس عدداً من التغريدات شديدة اللهجة التي تنتقد غياب العدالة، حيث لم يتم ملاحقة الجناة بعد، فضلاً عن فشل الدولة في التدخل في الأحداث.
وخلافاً لكلمات الأنبا مكاريوس، قوبلت الحادثة بصمتٍ من زعيم الكنيسة القبطية المصرية. فعادةً ما يمتنع البابا تواضروس الثاني عن التعليق على الحوادث الطائفية، باستثناء الهجمات الكبيرة من قبل ما يسمى بالدولة الإسلامية “داعش،” والتي استهدفت مسيحيين عدة مرات منذ عام 2016.
وبما أن حادثة المنيا ليست بمعزلٍ عن الحوادث الأخرى، انتقد المعلقون الثناء على افتتاح الكنيسة في العاصمة الإدارية الجديدة، إذ قالوا أن الخدمة الحقيقية التي يمكن تقديمها للأقباط هي أن يواجهوا قيوداً أقل في حال أرادوا افتتاح كنائس في أماكن أخرى. وقال المحلل السياسي تيموثي كالداس على تويتر: “يكافح المسيحيون في جميع أنحاء مصر لفتح الكنائس حيث يعيشون بالفعل، وذلك بفضل قانون بناء الكنيسة المتعصب الذي تم تمريره في ظل حكم السيسي.”
ففي سبتمبر 2016، أقرت إدارة السيسي قانوناً جديداً لبناء الكنائس يضمن حقوقاً متساوية للأقباط في بناء الكنائس. ففي مدينة القاهرة، التي تشهد توسعاً كبيراً، وما حولها، يمكن للمرء أن يرى بالفعل العديد من الكنائس الجديدة تحت الإنشاء. أما في المناطق الريفية في صعيد مصر، فإن الواقع مختلف.
وبموجب القانون، تستطيع السلطات منع بناء كنيسةٍ جديدة أو الترخيص لأحد الكنائس الموجودة في حال كان الأمن العام “في خطر.” وقد نتج عن ذلك العشرات من الحوادث التي احتج فيها مسلمون على بناء أو ترخيص كنيسةٍ في قريتهم، حيث تقوم السلطات في وقتٍ لاحق بإغلاق الكنيسة.
فقد أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تقريراً في نوفمبر 2018 يوثق 15 حالة من العنف الطائفي حول إضفاء الشرعية على الكنائس، مما أدى إلى إغلاقٍ دائم لـ11 من هذه الكنائس خلال فترة أكتوبر 2017-2018.
وفي كل مرة، يتكرر النمط نفسه: قرويون مسلمون يجتمعون للاحتجاج ضد أو مهاجمة الكنيسة؛ بينما تقف قوات الأمن دون تدخل؛ ليتم حل الأمور من خلال جلسات المصالحة المحلية. غالباً ما تؤدي هذه الجلسات إلى إغلاق الكنيسة، بينما يتجنب المهاجمون الملاحقة القضائية. وأحياناً تتعرض منازل أو متاجر الأقباط للهجوم بشكلٍ مباشر، إذ يحصل هذا على سبيل المثال عندما تنتشر شائعاتٌ في قريةٍ ما حول علاقةٍ جنسية بين مسيحي/ مسيحية بمسلمة/ مسلم، أو عندما يشاع أن قبطي قد أهان النبي محمد. في مثل هذه الحالات، غالباً ما يتم طرد الأقباط من القرية.
“الظروف في القرى تسمح بحدوث ذلك، بحسب ما قال لنا في فَنَك صموئيل تادرس، زميل معهد هدسون في واشنطن. وأضاف “في القرى، تكون القدرة على التعبئة بناءً على الشائعات أعلى بكثير [من المدن] بسبب تماسك المجتمع هناك.”
تتجلى المشكلة بشكلٍ رئيسي في صعيد مصر، حيث أن عدد المسيحيين هناك، على سبيل المثال، أعلى بكثير مما هو الحال عليه في القرى الريفية في دلتا النيل في مصر.
تُظهر عمليات إغلاق الكنائس أن المشاكل الطائفية في مصر أعمق بكثير من هجمات داعش وحدها. فقد رصدنا في فَنَك العديد من آراء المصريين المسلمين حول أغرب الشائعات التي تنتشر بين تلاميذ المدارس، منها على سبيل المثال أن رائحة المسيحيين كريهة، أو أن الخمر في الكنيسة هو في الواقع بول القس، أو أن على الفتاة أولاً قبل الزواج ممارسة الجنس مع القس.
وقال تادرس “لا يتم شن الهجمات من قِبل أعضاء الجماعات الإسلامية، بل إنهم أشخاصٌ عاديون، من الجيران أو الزملاء في العمل. أصبح التعصب منتشراً في هذا الجزء من البلاد بحيث أصبح يشكل اليوم مشكلةً بالنسبة للمسيحيين.”
كما ألقت امرأة من إحدى قرى دلتا النيل، والتي تحدثت معنا في فَنَك شريطة عدم الكشف عن هويتها، الضوء على انتشار الخطاب الطائفي في المجتمعات الريفية. فقد أخبرتنا أنها إلى أن أنهت دراستها الثانوية وانتقلت إلى القاهرة، كانت تعتقد أن المسيحيين مختلفين “لهم أنوفٌ أكبر أو ما شابه ذلك،” على حد قولها، إذ قالت “يتحدث الناس بشكلٍ سيء للغاية عن المسيحيين ولا يفهمون لماذا تبني الحكومة عدداً كبيراً من الكنائس عندما يكون عدد المسيحيين قليل.”
وأوضحت أن الناس في قريتها يشعرون أنه إذا ما تواجد المسيحيون في السلطة، سيعاني المسلمون، كما أن هناك خوفٌ أنه في حال عدم تتدين المسلمين بما يكفي، فسيقعون عرضةً للتخلي عن دينهم من قبل المسيحيين. أي بعبارةٍ أخرى، سيصبح المسيحيون “أكبر عدداً” من المسلمين. وقالت: “إنها عقلية ‘نحن -ضدهم‘،” المدفوعة جزئياً بنظرية المؤامرة بأن كل شخص يشن حرباً على الإسلام، وبالتالي فإن كل شخص غير مسلم هو عدو.
يحدد الباحث إسحاق إبراهيم من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية الأسباب الجذرية لهذه التوترات الطائفية: أولاً، يعتقد بعض المواطنين أن مصر دولةٌ إسلامية ويجب ألا تسمح للمسيحيين ببناء الكنائس. وقال لفَنَك، “إنهم يشعرون بالمسؤولية لفرض هذا الأمر.”
وثانياً، ترسل الدولة رسالةً سلبية بعدم تطبيق القانون عندما يتم مهاجمة الكنائس، إذ قال إبراهيم: “يخبر هذا المتطرفين بأنهم سيفلتون من العقاب، ويُشعر المسيحيين بأنهم غير متساويين معهم.”
يؤكد تادرس هذا: “يمكنك مهاجمة المسيحيين والإفلات من العقاب، مما يخلق ثقافة التشجيع. وعلاوةً على ذلك، تستسلم جلسات المصالحة في الواقع لمطالب الغوغاء.”
بالنسبة له، يمكن للسلطات معالجة المشكلة من خلال “تطبيق القوانين الأساسية،” إذ يقول: “إذا قام شخص بحرق منزلٍ ما، فينبغي معاقبته.” ويشرح أن الدولة تمتنع عن القيام بذلك لأنهم يشعرون بأن مقاضاة الجناة سيثير الاضطراب وهم (الدولة) يفتقرون إلى الحوافز لاتخاذ التدابير.
وقال تادرس: “تدعم قيادة الكنيسة النظام على أي حال وتحصل على ردود فعلٍ جيدة من الصحافة الدولية،” في إشارة إلى تغريدة ترمب الإيجابية عن الكنيسة الجديدة في العاصمة الإدارية، “إذاً، لماذا تتهم بالأمر؟” على حد تعبيره.
ولكن بينما يتواصل الدعم الكامل لقيادة الكنيسة للنظام، يرى تادرس ديناميكيةً متغيرة داخل المجتمع القبطي نفسه، والذي بدأ يصبح أكثر انتقاداً.
فقد قال إبراهيم، الذي ينحدر من المنيا، إنه عندما يرى الأقباط حوادث طائفية تحدث دون محاسبة، فإنهم يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية وأن الدولة لا تدعم حقوقهم. “يجب على الدولة حماية الحق في الصلاة لجميع المصريين، على قدم المساواة،” بحسب قوله.
فعلى سبيل المثال، انفجر الأقباط غضباً على العلن في ديسمبر 2018، عندما قتل ضابط شرطة يحرس كنيسةً في المنيا، أباً وابنه من الأقباط بعد نزاعٍ واضح. احتج مئات الأقباط في جنازتهم مطالبين بحمايةٍ أفضل. كما أدلى الأنبا مكاريوس ببيانٍ قوي رداً على الحادثة. “يبدأ الأمر بالاعتراف بحجم المشكلة،” بحسب إبراهيم.
وفي ما قد يكون الخطوة الأولى نحو هذا الاعتراف، شكّل السيسي لجنةً في أواخر ديسمبر 2018 تتكون من ممثلين من عدة وكالاتٍ أمنية لمكافحة الطائفية. كما عيّن اثنين من الأقباط في منصب محافظ في أغسطس الماضي.
إلا أن الشكوك لا تزال تساور تادرس، الذي قال “لا يوجد ما يدل على أن اللجنة الجديدة تمثل أي شيء مختلف. يجب على الرئيس شخصياً وضع القضية على رأس قائمة الأولويات.”
وبحسب تادرس، ربما يكون حافز النظام لتقديم دعمٍ أفضل لحقوق الأقباط اقتصادياً، إذ قال “الأقباط بشكلٍ عام أفضل تعليماً وأفضل تمثيلاً في القطاع الخاص، بسبب التمييز ضدهم في القطاع العام والقوات المسلحة.” ويرى اليوم موجة “تسونامي” لهجرة الأقباط، مما يضر بمصر اقتصادياً ويمكن أن يوفر حافزاً للدولة لحثها على معالجة القضية بشكلٍ أقوى. وختم بالقول: “إذا كنت تريد التقدم لمصر، فعليك أن تعالج قضية الاضطهاد الديني.”