إيهاب الجمل
في ليلة عيد الجمهورية التونسية الـ64، وبالرغم من المظاهرات المناهضة للحكومة في مختلف مدن البلاد الكبرى، لم يكن التونسيون مستعدون للزلزال السياسي المدوٍ الذي كان يوشك على الحدوث.
ففي خطوةٍ غير متوقعة، جمّد الرئيس قيس سعيّد البرلمان، ورفع الحصانة البرلمانية، وعزل رئيس الوزراء هشام المشيشي، وتولى السلطة التنفيذية والتشريعية وحتى القضائية من خلال رئاسة النيابة العامة. واستشهد الرئيس بالمادة 80 من دستور عام 2014، التي تنص على أن “لرئيس الجمهورية في حال الخطر الداهم الذي يهدد كيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، ويتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس ومجلس نواب الشعب.” وعليه، تسمح المادة، التي تحدد فترة هذه الإجراءات بـ 30 يوماً، للمحكمة الدستورية البت في استمرارية هذه الحالة الاستثنائية من عدمه، بيد أن المحكمة، التي كان من المفترض أن يتم إنشاؤها اعتباراً من عام 2015، لم تر النور قط بسبب الافتقار إلى الإجماع السياسي والأغلبية المعززة اللازمة لانتخاب أعضائها. وبالتالي، يضيف غيابها بُعداً آخر من انعدام اليقين بشأن الأحداث الجارية.
وفي خطابٍ متلفز، شهد ظهور قيس سعيّد محطاً بجنرالات الجيش ومسؤولين أمنيين، حذّر الرئيس أولئك من “يفكرون في اللجوء إلى السلاح… ومن يطلق رصاصة واحدة ستجابهه قواتنا المسلحة العسكرية والأمنية بوابل من الرصاص.”
وفي أعقاب الخطاب، نزل آلاف التونسيين إلى الشوارع في المدن الكبرى بالبلاد، وخاصة تونس العاصمة وسوسة ونابل للاحتفال بقرارات الرئيس على الرغم من حظر التجول المرتبط بتدابير فيروس كورونا. وسمعت أصوات أبواق السيارات والزغاريد والهتافات وحتى الألعاب النارية طوال الساعات الأولى التي أعقبت الإعلان. كما انضم قيس سعيّد بنفسه إلى حشود المحتفلين في شارع الحبيب بورقيبة ذو الرمزية الخاصة بتونس العاصمة، والذي يعدّ الأكبر في البلاد والذي شهد احتجاجات 14 يناير الكبرى التي أنهت حكم بن علي. ومع ذلك، لم تشكل هذه الاحتفالات مفاجأةً بالنظر إلى الشعور العام بعدم الثقة تجاه المشهد السياسي الحالي. وفي استطلاع أُجري خلال اليومين التاليين، تبيّن أن 87% من التونسيين يتفقون مع إجراءات الرئيس.
ومع ذلك، لم يكن هذا حال الجميع، فقد اتهم راشد الغنوشي، رئيس البرلمان، وزعيم حزب النهضة ذو الأغلبية، سعيّد بشن “انقلابٍ على الثورة والدستور،” واعتبر قراراته باطلة، وطلب من أنصاره الانضمام إليه في الدفاع عن الثورة. وعليه، تجمّع حشدٌ خجول أمام مبنى البرلمان ليفترق بعد بضع ساعاتٍ فحسب بعد أن مُنع الغنوشي نفسه وأعضاء آخرون في البرلمان من الدخول إلى المبنى.
يُشاطر بعض الشباب التونسي المنخرط في السياسة في البلاد هذا الرفض لخطوة الرئيس، إذ تعتبر مريم الهاني، الناشطة والمتحدثة الشابة في حملة الرئيس السابق منصف المرزوقي الرئاسية لعام 2014، القرارات “انتهاكاً للجوهر الأساسي للديمقراطية” “وتهديداً للبلاد واستقرار المنطقة.” وعلى الرغم من صدمتها بقرارات الرئيس، إلا أنها تعتقد أنها تتماشى مع “رفض الرئيس” الطويل للدستور و”هوسه بنظريات المؤامرة.” وبالفعل، فقد سبق واشتبك الرئيس الذي كان يُنظر إليه منذ فترة طويلة على أنه دخيلٌ سياسي مع رئيس الوزراء والبرلمان في أكثر من مناسبة، حيث بلغ ذلك ذروته أثناء المأزق السياسي عندما لم يسمح لوزراء المعينين من قِبل البرلمان بأداء اليمين، وبالتالي، تولى مناصبهم في فبراير 2021. علاوةً على ذلك، غالباً ما اتهم سعيّد الأحزاب السياسية بالفساد، والتآمر ضد الثورة، وحتى تهديد حياته.
واختتمت بالقول، “هذا انقلاب والرئيس يقود البلاد نحو مسارٍ خطيرٍ للغاية. ينبغي على جميع الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية أن توضح مواقفها وأن تقف ضد هذا الاستيلاء غير الدستوري على السلطة.”
في المقابل، يرى خليل عباس، الباحث في علم الاجتماع السياسي، وعضو الحملة الانتخابية الرئاسية الناجحة لقيس سعيّد عام 2019، ومؤلف كتاب “الديمقراطية الآن: تحليل لظاهرة قيس سعيّد” أن الإجراءات ضرورية “لتصحيح مسار الثورة.”
وهنا، يشير خليل إلى أن الرئيس منح المشهد السياسي الحالي فرصاً متعددة للعمل معاً لتحقيق أفضل مصالح البلاد، وهو ما لم ينتهزوه مطلقاً، وأن الرئيس عليه التزام أخلاقي ودستوري بالتدخل. في واقع الأمر، كانت البلاد تمر بالفعل بأزمةٍ سياسية واقتصادية واجتماعية. علاوةً على ذلك، شهدت تونس ارتفاعاً في عدد الحالات والوفيات المرتبطة بفيروس كورونا في الأسبوعين الماضيين، متجاوزة 18 ألف حالة وفاة، وفقاً لوزارة الصحة. وفي بلدٍ يبلغ تعداد سكانه 12 مليون نسمة، جعل هذا تونس من أكثر الدول تضرراً من الوباء. وعليه، تم إلقاء اللوم الشديد في هذا العدد المرتفع للوفيات على الحكومة التي فشلت في اتخاذ تدابير وقائية، فضلاً عن بطئها وفوضويتها في بعض الأحيان، في تنظيم حملات اللقاح. دفع ذلك برئيس الوزراء إلى إقالة وزير الصحة في 20 يوليو، في محاولةٍ لمعالجة إحباط الشعب.
وبحسب خليل، تعدّ “هذه خطوة إلى الوراء على المسار الثوري الذي بدأ في ديسمبر 2010،” ويضيف “الأحزاب السياسية خذلت التونسيين، وخذلت الثورة في السنوات العشر الماضية.” كما يعتقد أن الإجراءات، المؤقتة، ستركز على مكافحة شيوع الإفلات من العقاب، وإنعاش الاقتصاد الوطني وإصلاح النظام السياسي الهجين الذي “لم ولن يتمكن أبداً من تشكيل حكومة وطنية قوية.”
في الواقع، يستحيل تقريباً على أي حزبٍ أن يكسب أغلبيةً برلمانية مطلقة في ظل النظام الانتخابي التونسي، الذي جاء بعد أكثر من 50 عاماً من الديكتاتورية. ففي عام 2014، احتل نداء تونس المرتبة الأولى بحصوله على 86 مقعداً من أصل 217، وفي عام 2019، احتلت النهضة المرتبة الأولى في البرلمان، على الرغم من حصولها على 52 مقعداً فقط. وعلى حد تعبير خليل، “يسفر هذا عن تحالفاتٍ هجينة وغير طبيعية لتشكيل حكومة أغلبية. فقد سبق ورأينا تحالفاتٍ بين أحزاب كانت على طرفي نقيض من الطيف الأيديولوجي مثل نداء تونس والنهضة. هذه التحالفات هشة وغير قادرة على إحداث التغيير، وتعزز فقط الفساد والصفقات المستترة.”
ولطالما دعا سعيّد نفسه إلى تغيير القانون الانتخابي والنظام التنفيذي المزدوج الحالي الذي فشل في إنتاج حكوماتٍ دائمة، ففي السنوات العشر التي تلت الثورة، كان لدى تونس ثمانية رؤساء وزراء مختلفين وتعديلات وزارية لا حصر لها. وهنا، يختتم خليل قائلاً: “نعتقد أن قيس سعيّد سيمنح التونسيين الفرصة لاختيار نظام تمثيلي أفضل.”
وعلى صعيدٍ متصل، توخت معظم المنظمات غير الحكومية التونسية الحذر في تطرقها لإجراءات سعيّد. فقد أصدرت مجموعة من الفاعلين الرئيسيين في المجتمع المدني، وعلى رأسهم النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والاتحاد العام التونسي للشغل، والنقابة الوطنية للمحامين بتونس، والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وجمعية القضاة التونسيين، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بياناً صحفياً مشتركاً “يتبنى المطالب المشروعة للشعب التونسي،” و”يحذر من أي تمديد غير مشروع ومبرر لتعطيل مؤسسات الدولة،” ودعت رئيس الجمهورية إلى “ضبط خارطة طريق وفق رزنامة واضحة لا تتجاوز الثلاثين يوماً وبصفة تشاركية مع كل القوى المدنية.”
وهنا، يقول خيام الشّملي، عضو محامين بلا حدود ومنسق التحالف التونسي للدفاع عن العدالة الانتقالية، إن “المجتمع المدني التونسي يعرف أن هذه الإجراءات جاءت كنتيجة طبيعية لأشهر من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ومع ذلك، يحرصون كل الحرص في اختيار كيفية معالجتها.” وعليه، يدرك قيس سعيّد، الذي يألف تماماً المجتمع المدني، تماماً المخاوف الأولية هذه. فقد التقى في اجتماعاتٍ متتالية في 26 يناير، بممثلين مختلفين للنقابات الوطنية والمنظمات غير الحكومية لمنحهم الطمأنينة التي يسعون إليها. يختتم خيام القول بأنه “في ظل الغياب الحالي للمحكمة الدستورية وتجميد البرلمان، يبرز الافتقار إلى إطارٍ قانوني واضح حول ما ستؤول إليه الأمور. وفي الوقت الراهن، ينبغي علينا التحلي بالثقة، ولكن الأهم من ذلك، أن نظل يقظين.”
يبدو أن هذا هو الوضع العام في تونس، ذلك أن البلاد في وضع تأهب. فهل سيعيد قيس سعيّد الاستقرار السياسي الذي لطالما تمناه التونسيون، أم أن تحذير المعارضين من سيسي جديد بات قوسين أو أدنى من أن يصبح حقيقة.
وفي ظل جوٍ من عدم اليقين، يبدو أن خليل عباس على يقين من أنه لا توجد سوى نتيجة واحدة محتملة “لن تعود تونس للخلف أبداً. لدينا شبكة أمان مزدوجة، فأولاً، هناك قيس سعيّد نفسه، الذي عرفناه وعملنا معه لسنوات، والذي أثبت مراراً وتكراراً توافقه غير المشروط مع إرادة الشعب، والأهم من ذلك الشعب التونسي نفسه. لقد وصلنا إلى مستوى من الوعي السياسي يجعل من غير المعقول العودة إلى أي شكلٍ من أشكال الديكتاتورية أو الاستبداد.”
من أجل الديمقراطية في تونس، نأمل أن يكون خليل على حق. في غضون ذلك، فإن معظم التونسيين “سيتحلون بالثقة واليقظة على حد سواء.”