قيس بن رجب
احتفلت تونس في 14 يناير 2021 بالذكرى العاشرة للثورة، إلا أن هذا لم يكن وقتاً مناسباً للاحتفال، إذ أعلنت الحكومة آنذاك عن قرارٍ ينطوي على المخاطرة بإغلاقٍ تام لمدة أربعة أيام، مبررةً ذلك بجائحة فيروس كورونا، إلا أن الهدف الحقيقي من وراء ذلك كان كبح جماح أي مظاهراتٍ عامة محتملة.
في الواقع، بعد مرور عشر سنواتٍ على الثورة، بات النظام السياسي غارقاً في الخلافات المشتعلة بين الرئيس ورئيس الوزراء والبرلمان في ظل ركودٍ اقتصادي.
وبينما يؤمن بعض التونسيين بما جنوه من ثمار الثورة، شجب البعض الآخر التآكل الملموس في الحريات التي كفلتها الديمقراطية.
بالنسبة للبعض، أعاد المناخ المحموم إلى الأذهان الاستقطاب السياسي بعد أن اغتال متشددٌ مشتبه به الناشط العلماني والمحامي شكري بلعيد في فبراير 2013، حيث أثار ذلك آنذاك موجةً من الاحتجاجات في تونس أدت إلى صفقة كبيرة بين الأحزاب السياسية الإسلامية والعلمانية الرئيسية لإيقاف انحدار البلاد نحو العنف.
ولسوء الحظ، تعتبر التدابير الصحية اليوم على رأس قائمة أولويات البلاد، وتونس، كحال غيرها من البلدان، ما تزال تخوض حرباً شرسة ضد فيروس كوفيد-19. وهذا يدفعنا للتساؤل، ما الوضع الصحي الحالي في تونس؟
في شهر ديسمبر من عام 2019، وبينما كانت مدينة ووهان حديث العالم، أعلنت وسائل إعلامٍ تونسية محلية أن الأزمة لن تؤثر قط على افريقيا، ومع ذلك، في 2 مارس 2020، أعلنت تونس عن أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا لرجلٍ تونسي يبلغ من العمر 40 عاماً من قفصة وذلك بعد عودته من إيطاليا.
ما بين الخوف والتردد
في مارس 2020، وفي أعقاب اجتماعٍ لمجلس الأمن القومي بإشرافٍ من الرئيس قيس سعيّد، تم الإعلان عن التدابير التالية: تقليص جميع الرحلات بين تونس وإيطاليا، وتعليق التدريس في جميع المدارس والجامعات، ومن ثم الانتقال إلى المرحلة الثانية بإغلاق جميع المقاهي والمطاعم والمراقص من الساعة 4 مساءً، وتعليق الصلوات الجماعية وإلغاء المؤتمرات والفعاليات الثقافية، إلى جانب إقامة المنافسات الرياضية خلف الأبواب المغلقة. علاوةً على ذلك، أغلقت الحدود البحرية والجوية بين تونس وإيطاليا واختصار عدد الرحلات بين البلاد وفرنسا ومصر واسبانيا والمملكة المتحدة وألمانيا، فضلاً عن حجرٍ إلزامي لكل شخص يدخل البلاد لمدة 14 يوماً.
بيد أن هذه التدابير لم تكن كافية، إذ استمر تصاعد حالات الإصابة بالفيروس أضعافاً مضاعفة.
وعليه، أصدر قيس سعيّد مرسوماً باحتواءٍ تام، حيث مُنع التنقل بين المدن وفرض حظر تجولٍ في جميع أنحاء البلاد، إذ تم نشر الجنود ورجال الشرطة الآليين الذين كانوا يقومون بجولاتٍ في وسط المدن، بنيّةٍ واضحة لحكومة سعيّد: فرض سلطاتها.
حتى ذلك الوقت، كانت الأوضاع تبدو تحت السيطرة، وبحلول نهاية مارس 2020 كانت تونس واحدةً من البلدان التي سجلت أقل عدد حالات ووفيات بالفيروس مقارنةً بجيرانها في شمال افريقيا. بل وصل الحد إلى امتداح إدارة تونس للأزمة.
ومع حلول بداية مايو 2020، لم تسجل أي حالات، لتعم السعادة أوساط الشعب.
ومن هناك، بدأت أول مرحلةٍ من ثلاث مراحل للتفكيك التدريجي لتدابير الحكومة، بهدف إعادة إنعاش الاقتصاد تدريجياً وفقاً لتطور الوباء في البلاد، حيث تم إنشاء المستشفيات الميدانية وإجراء فحوصاتٍ سريعة في جميع أنحاء البلاد.
هدوء ما قبل العاصفة
حل فصل الصيف وبدأ القلق يتراجع شيئاً فشيء وأطلق التونسيون العنان لأنفسهم، مما شهد حالةً من التراخي في اتباع التدابير الصحية، وبالرغم من نداءات الاستغاثة العديدة التي أطلقها العلماء، لم يتم فعل شيءٍ حيال ذلك.
وكما توقع الكثيرون، واجهت تونس موجة شتوية أكثر عدوى وفتكاً، وبالفعل، باتت الأرقام مرعبةً.
وفي أكتوبر 2020، أعلنت حكومة المشيشي عن تدابير جديدة لكبح جماح الانتشار السريع للفيروس في البلاد، بما في ذلك فرض حظرٍ على مستوى البلاد، وإغلاق المقاهي والمطاعم منذ الساعة 4 مساءً، وتعليق جميع الفعاليات الخاصة والعامة والتجمعات، وإيقاف المدارس والكليات والمدارس الثانوية والجامعة، ومنع الصلاة في المساجد.
كما قررت وزارة الصحة في يناير فرض إجراءات احتواء عامة لمدة أربعة أيام للحد من انتشار الوباء الذي وصل إلى مستويات قياسية، ما أدى إلى وضع “خطيرٍ للغاية.”
نظام رعاية صحي بالٍ
حُذر التونسيون من الوباء منذ بداياته، فقوى العالم الكبرى لم تتمكن من إدارة الأزمة، ولكن ما الخطوات الأفضل التي اتبعتها تونس؟
قدرت منظمة الصحة العالمية معدل إدخال المرضى كوفيد-19 إلى المستشفيات بنسبة 20%، والتي تصل إلى ما نسبته 5% وفقاً للسلطات التونسية.
تتمثل القضية الرئيسية لهذا الوباء في قدرة الأنظمة الصحية على إعالة نفسها والتعامل مع التدفق الكبير للمرضى في نفس الوقت. وبشكلٍ عام، يميل المرضى الذين يدخلون المستشفى بسبب كوفيد-19 إلى طلب العناية المركزة للمساعدة التنفسية. لذلك، يعتبر توفر المعدات الطبية مثل أجهزة التنفس الصناعي أيضاً مصدر قلق، حيث سرعان ما اكتظت وحدات العناية المركزة.
ومع ذلك، لم تقدم وزارة الصحة أرقاماً دقيقة عن سعة المرافق الصحية في تونس، حيث تشير تصريحاتٌ مختلفة لمسؤولين – بمن فيهم وزير الصحة عبد اللطيف المكي – لوسائل الإعلام إلى وجود 1000 سرير للعناية المركزة مجهزة بين القطاعين العام والخاص، إذ تجدر الإشارة إلى أن هذه الأسرة غير مخصصة جميعها لمرضى كوفيد -19.
قد يكون هذا الرقم التقديري عرضة للتغيير أيضاً حيث ذكرت السلطات أنه يمكن زيادة قدرة المستشفيات والمراكز الأخرى المخصصة لعلاج الحالات. وتُظهر البيانات المتاحة أيضاً تباينات كبيرة داخل الخدمات العامة للبلاد، لا سيما فيما يتعلق بالتوزيع الإقليمي لمعدات العناية المركزة والأسرة.
التعبئة العامة
أثار هذا التفاوت ووضع المستشفيات حالةً من القلق، وعليه بدأت حملة تضامنٍ لحشد التونسيين. فبالإضافة إلى التبرعات المالية والمادية الأجنبية، ضاعف التونسيون والمغتربون منهم التبرعات.
فقد أعلن وزير الصحي عبد اللطيف المكي أن قيمة التبرعات من المواطنين دعماً لمكافحة فيروس كورونا وصلت إلى 250 مليون دينار تونسي (92 مليون دولار). وبالرغم من البداية الجيدة، إلا أن أرقام اليوم تُثير القلق، فضلاً عن كون تونس ترزح تحت ضغوطاتٍ بسبب الجائحة، فخدمات الاستشفاء في البلاد مشبعة والنظام الصحي يشهد انهياراً.
تعتبر تونس بلداً يعاني الأمرين اقتصادياً، بيد أنه في طريقه لوقوف مجدداً على قدميه، فالأزمة الاقتصادية عالمية إلا أنها تأتي في أسوأ الأوقات بالنسبة للبلد المتوسطي الصغير.
وفي ظل الإضرابات وتوقف إنتاج الفوسفات وهجر المستثمرين الأجانب وتراجع السياحة، تضاعف تونس من جهودها لتنمية أصولها. فقد سبق وأعلن رئيس الوزراء السابق، إلياس الفخفاخ، في يونيو 2020، عبر التلفزيون التونسي عن خطةٍ للنهوض بالاقتصاد. وعليه، خصصت الدولة ثلاثة مليار دينار (أي ما يقارب مليار يورو) لتمويل خطةٍ لدعم الأعمال التجارية والفقراء. بيد أن هذه الإجراءات لم تكن كافيةً، لا سيما للفقراء وعمال القطاع غير الرسمي الذين يعتمدون في قوت يومهم على العمل يومياً. وفي بعض المدن، وبالرغم من الحظر، تظاهر المواطنون ضد السلطات منددين بنقص الغذاء. في حين أعلن وزير السياحة، محمد علي التومي، عن اعتماد ائتماني بقيمة 500 مليون دينار(184 مليون دولار) لتمكين المنشآت الفندقية من دفع رواتب موظفيها.
وبالرغم من الكلمات المنمقة والنية الحسنة، إلا أن الأرقام لا تكذب. فقد أعلن رئيس بورصة تونس، مراد بن شعبان، تراجع مؤشر البورصة بنسبة 14,2%، حيث أنهى المؤشر الرئيسي لبورصة تونس تراجعاً بنسبة 7,3% عند 6138.82 نقطة.
وبحسب البنك المركزي التونسي، تجاوزت خسائر أحد أهم القطاعات للاقتصاد التونسي، أي قطاع السياحة، 4 مليارات دينار تونسي (1457 مليون دولار). بينما صرح وزير المالية نزار يعيش، تأثر 2390 شركة بأزمة كوفيد -19.
واليوم، ووفقاً لإحدى الدراسات، تم فقدان 430 ألف وظيفة مؤقتاً أثناء أزمة فيروس كورونا، كما أشارت الدراسة نفسها إلى أنه من المتوقع أن تتسبب الأزمة في تراجع الناتج المحلي الإجمالي التونسي بنسبة 46,4% خلال الربع الثاني من عام 2020.
علاوةً على ذلك، أدى تدهور الوضع الاقتصادي إلى زيادة الهجرة غير الشرعية: فقد وصل 7890 مهاجر تونسي غير نظامي إلى الساحل الإيطالي منذ يناير إلى نهاية أغسطس 2020، مقابل 1347 خلال نفس الفترة من عام 2019. كما أن هناك تزايداً في النزاعات الاجتماعية حول الوصول إلى المياه والتوظيف ودفع الأجور. وبحسب نزار يعيش، يقدر تأثير الوباء على المالية العامة بخمسة مليار دينار تونسي.
وعلى الرغم من مواردها المحدودة، إلا أن تونس أصبحت نموذجاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من خلال إدارتها للأزمة، وبالرغم من كونها دولةً في مرحلةٍ انتقالية، بيد أنها نجحت في الحد من الضرر.