وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عن محدودية اليسار الإسرائيلي وأفوله

محدودية اليسار الإسرائيلي
صورة تم التقاطها يوم ٢٠ أكتوبر ٢٠١٧ لمستوطن إسرائيلي أثناء جداله مع متظاهرين من اليسار الإسرائيلي وسط مدينة الخليل التي انقسمت أثناء احتجاج دعت إليه منظمة “السلام الآن” الأهلية لإدانة المستوطنات في الضفة الغربية. وصادقت السلطات الإسرائيلية على حزمة أخرى من الخطط لبناء بيوت استيطانية جديدة في المناطق التي تحتلها إسرائيل من الضفة الغربية خلال ذلك الأسبوع، ليصل إجمالي عدد البيوت المصادق على بنائها خلال أسبوع ما يزيد عن ٢٦٠٠ بيت، بحسب ما ذكرته منظمة “السلام الآن” الحقوقية. المصدر: HAZEM BADER / AFP.

ماجد كيالي

السؤال عن اليسار الإسرائيلي، حجمه، حقيقته، ولاسيما هويته السياسية والاجتماعية والثقافية، صعب ومعقد ويتضمن إشكاليات عديدة. فالأمر في إسرائيل، يختلف عنه في مكان أخر، حيث تتحدد ملامح اليسار بهويته السياسية والاجتماعية، التي تقارب الحريات العامة والخاصة، وتنحاز لمصالح الطبقات الفقيرة، وتكافح في سبيل عالم تسوده العدالة الاجتماعية، وقيم الديمقراطية والحداثة والتقدم.

ولطالما كانت صورة اليسار في إسرائيل غاية في الضبابية، وملتبسة، حيث يعتبر حزب العمل، مثلا، حزبا يساريا، على خلفية احتضانه للتجارب الاشتراكية (القرى التعاونية) في بدايات إقامة إسرائيل (الكيبوتزات والموشاف)، وإنشائه منظمة «الهستدروت» للدفاع عن مصالح العمال اليهود، وانتمائه للاشتراكية الدولية. لكن هذا الحزب نحا قبل عدة عقود نحو الليبرالية الاقتصادية، وتخلى عن هويته الاجتماعية الأساسية، التي كان تشكل على أساسها، في نظر المستوطنين اليهود. من جهة أخرى، فإن هذا الحزب يتبنى على الصعيد الثقافي وجهة نظر يمينية بشأن هوية الدولة، باعتبارها دولة يهودية (دينية)، وهو لم يفعل شيئا للفصل بين الدين والدولة في إسرائيل بالنظر لتبنيه الأيديولوجية الصهيونية، التي تماهي بين اليهودية كدين والهوية القومية (وهي مفهوم حديث ويتضمن العلمانية)، باعتبارها اليهود، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الأثنية، بمثابة شعب يتمتع بميزات “قومية”، في استثناء صارخ، إذ لا يمكن النظر إلى المنتمين إلى الديانة المسيحية أو إلى الديانة الإسلامية، في أصقاع الأرض، ومن مختلف الإثنيات، على أساس قومي.

وإضافة إلى ما تقدم فإن حزب العمل كان في الحقيقة هو المسؤول عن إقامة إسرائيل، ونكبة الفلسطينيين، وفي عهده شنت إسرائيل عدداً من حروبها ضد بعض البلدان العربية، وضمنها حرب حزيران (1967). وهذا الحزب هو المسؤول عن التأسيس للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، وعن تهويد القدس، وهو المسؤول أيضا عن التلاعب باتفاق أوسلو (1993)، إبان رئاسة ايهود باراك للحكومة الإسرائيلية (1999ـ2001)، وكذا عن اندلاع الانتفاضة الثانية (2000).

على ذلك يمكن الاستنتاج بأن حزب العمل إنما هو حزب وسطي، في حقيقة الأمر، وهذه المكانة بات يزاحمه عليها عدة أحزاب من حزب يش عيتيد أو حزب ازرق ـ أبيض؛ ما يفسر تراجع مكانة حزب العمل في الخريطة السياسية الإسرائيلية لصالح أحزاب اليمين، أو لصالح أحزاب وسطية اخرى.

يبقى ضمن الخارطة الحزبية اليسارية الإسرائيلية حزب ميريتس، وهو حزب يساري، يتبنى مسألة فصل الدين عن الدولة، ويناهض الليبرالية الاقتصادية، ويدعو لتقليل الفوارق والفجوات في العيش في المجتمع الإسرائيلي، كما يدعو لتأسيس علاقات سلام، خالية من الاحتلال مع الشعب الفلسطيني. هكذا فإن هذا الحزب يمكن اعتباره الحزب اليهودي الوحيد الذي يمكن التعاطي معه كحزب يساري، في المجالات الاجتماعية (تقليل الفجوات في العيش) والثقافية (الدفاع عن علمانية الدولة)، لكنه حزب صغير، وغير مؤثر.

وما ينبغي لفت الانتباه إليه هو أن مصطلح اليمين واليسار في إسرائيل بات يرتبط بشكل أكبر، أيضا، بمسألة الموقف من الاحتلال، والسيطرة على الشعب الفلسطيني، وبكيفية التعاطي مع عملية التسوية.

والمعضلة هنا أن اليسار الإسرائيلي (مع استثناءات محدودة) لا يتعاطى مع القضية الفلسطينية من جذورها، وإنما ينطلق أساسا في موقفه مما يعتبره حق اليهود في أرض فلسطين (أو ارض الآباء والأجداد بتعبيراتهم!). وهو يسار يقبل الايديولوجيا الصهيونية، وأسطورة «ارض بلا شعب لشعب بلا ارض». وفي أفضل حالاته فإن هذا اليسار يعتبر أن الصراع الجاري على فلسطين هو صراع بين شعبين وبين حقين وروايتين. هكذا فإن هذا اليسار متصالح مع الصهيونية، ومع واقعة قيام إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، وهو فقط يؤسس روايته «اليسارية» للقضية الفلسطينية انطلاقا من رفضه للاحتلال الحاصل عام 1967. وهو عندما يتحدث عن الطابع الكولونيالي لإسرائيل فهو إنما يتحدث عن احتلال 1967، في حين انه يرفض فتح ملف القضية الفلسطينية منذ العام 1948؛ وهذا ما يفسر اختزال التسوية بمجرد مقولة «الأرض مقابل السلام»، أو بمجرد إقامة دولة فلسطينية (محدودة) في الضفة والقطاع، واعتبار ذلك نهاية لمطالب الفلسطينيين.

المعضلة الأخرى أن اليسار الإسرائيلي، على ما فيه من تناقضات وإشكاليات، يعاني أيضا من تراجع كبير، كغيره من التيارات اليسارية في العالم، حيث بات اليمين، واليمين المتطرف، الديني والقومي، في إسرائيل، يسيطر على الكنيست مثلما يسيطر على الشارع، بحكم هيمنة الايديولوجيا الصهيونية والدينية على مختلف نواحي الحياة في إسرائيل، وهي ايديولوجيا لم يعمل اليسار الإسرائيلي في الحقيقة شيئا حيالها، لأنها تشكل جزءا من شرعيته وروايته، كما من شرعية الكيان الإسرائيلي.

من يتذكر اليوم مثلا يساريين من مثل يوسي بيلين ويوسي ساريد وشولاميت ألوني وغيرهم؟ ومن يتذكر المؤرخين الجدد، وتيار ما بعد الصهيونية؟ معنى ذلك أن اسرائيل باتت اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في قبضة زعماء المستوطنين ومع صقور اليمين القومي والديني، لذا فإذا كانت اسرائيل لم تقدم شيئا للفلسطينيين في ظل «اليسار» خاصتها، فما الذي ستقدمه حقا في ظل يمينها؟!

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.