يوسف شرقاوي
الاعتماد على النبوغ الفردي لا يُحدث فارقاً
أبصرت دائرة المعارف العربية النور عام ١٨٧٦، في حركة النهضة، بجهد بطرس البستاني عن طريق دعمٍ مالي وفّره الخديوي إسماعيل، باشا مصر.
عرّف البستاني موسوعته في مقدّمة العدد الأول منها على أنها “قاموس عام للمعارف من جغرافية وتاريخية وعلمية وصناعية وسياسية وأدبية، يحتوي على كل ما تصبو إليه النفس، ويغني مقتنيه عن مكتبة كبيرة”.
لكنّ دائرة المعارف، كأغلب الإنجازات العربية الفردية التي يستند أصحابها في إنجازها إلى نبوغهم الذاتي، لم تستطع أن تُحدِث تغييراً نهضوياً. وذلك يرجع لأسباب كثيرة، أهمّها انعدام العمل الجماعي عند العرب، والفردانية ليست خاصة بالبستاني وحده، بل هي سمة يشاطرها مع كوكبة كبيرة من النوابغ العرب تبدأ بابن رشد، الذي توقفت مفاعيل منهجه النقدي مع رحيله، مروراً بابن خلدون الذي ماتت نظرية العمران البشري مع مماته، وصولاً إلى جميع أصحاب النظريات العرب الذين يتقوقعون على عبقريتهم الفردية ولا يقيمون وزناً للعمل الجماعي الذي يكفل وحده استمرارية المشروع العام.
كما أنّ غياب الخطة المسبقة لإنتاج هذه الموسوعة يثير الانتباه فيها. فاختيار مصطلح “المعارف” يشير إلى رغبة في التوسع، لكنه لا يشير إلى الاتجاه المنوي فيه التوسع. وهذا ما أعاد المشروع معرفياً إلى استنسابية صاحبه، واختياره المعارف التي يراها هو ضرورية ونافعة، من دون الاعتماد على فريق عمل أو على خطة منهجية محددة يشترك فيها آخرون. ذلك ما جعل الدائرة تتجه نحو البعد الاستعادي التعريفي، حيث أنّ صاحبها نقل عبر الترجمة معلومات جاهزة متوافرة في مراجع أجنبية. وفي ذلك يقول شربل داغر في “الكتاب والأفق” إنّ الدائرة “لا تعدو كونها تعريباً في قسم واسع من نبذاتها عن مواد أجنبية”.
على الطرف الآخر، ساد في الدائرة النَفَس الأدبي لأنها كانت لصيقة بشخصيّة مَن كتبها، وتقيّدت منذ البداية، بشكل غير مدرك، بالذهنية السائدة في عصرها، حيث الأديب كان يعني المثقف والمثقف يعني الأديب.
كما أنها، كمشروع نهضوي، لم تغادر سقف السلطة، ولم تحتمي تحت سقف جماعي يحرس فكرة التغيير النوعي في طرائق التفكير والتخطيط والتنفيذ ويرغب فعلاً في تغيير استراتيجي معرفي كبير. هذا لأنها مُوِّلَت من قبل جهة سياسية واحدة، هي الخديوي إسماعيل. وسمح التمويل للبستاني أن يغطّي تكاليف الأجزاء الخمسة الأولى، فكانت نهضة مشروعه بعيدة كل البعد عن السياسة، ولم تنادي بالتغيير الكلّي، إنما بقيت في طور النهضة الثقافية التي لا مندرجات تطبيقية ملزمة لها.
ولغياب الخطة أو العمل الجماعي آثار سلبية كثيرة، منها أنّ الموسوعة تخلو من المعرفة غير الأدبية، سوى بشكل اعتراضي وتعريفي، ولم يتعامل البستاني مع العلوم والصنائع على نحو يشير إلى رغبة في نقلها للعقل العربي، حيث إنه لخّص المعلومات المتعلقة بهذه الحقول ونقلها كأديب، لا كعالم رياضيات أو فيزياء أو كيمياء، الأمر الذي سمح لغير المطّلع على هذه العلوم بالتعرّف إليها بشكل أولي، وليس على نحو وظيفي وعملي، لذلك يمكن أن نستخلص من الدائرة أنّ الثقافة الأدبية بقيت على طغيانها، وأنّ عدم إبداء الرغبة في الانتقال من الإحساس والتعبير الأدبيين في التعامل مع مجمل المعارف والبقاء الطوعي في الموروث التفكيري أبقى الفكر حيث كان، أي في تقليديته ومحافظته.
المعلّم بطرس البستاني، إذن، لم يرغب فعلاً بالاستعانة بفرق بحثية تساعده في تقديم مادّة متخصصة ومعمّقة، مكتفياً ببذل قصارى جهده في الترجمة والنقل. وهو لم يكن يؤمن بالجماعية، بل اقتصر إيمانه على نفسه ونبوغه. لذا، صارت الموسوعة بعد وفاته عائلية. انتقلت إلى امتداداته البيولوجية، أبنائه، لعدم تكوينه فريقاً يُكمل المشروع من بعده، فبقي فردياً، مسبوكاً في ذهنيّة أدبية تقليدية، منفتحة على المعرفة العالمية، لكن ليس على مندرجاتها التجريبية والعملية. ومشروع النهضة المسبوك في هذا القالب القديم لم يكن بمقدوره موضوعياً، لا على يد البستاني ولا على يد سواه من نوابغ النهضة العربية، أن يُحدِث خرقاً نوعياً مثل الذي أحدثته موسوعات مختلفة، أُنتِجَت بشكلٍ جماعي ومنظّم.
استطاع البستاني أخيراً تحقيق بعض أهدافه من الدائرة، بعصاميّة ومثابرة على تحقيق مشروعه النهضوي، إذ كانت هواجسه تدور حول تبسيط المعارف وتعميمها ومكافحة الجهل، وإعلاء شأن اللغة العربية وجعلها مواكبة للعصر في إنتاجها الثقافي، وثالث هواجسه ردم الهوّة الفكرية بين العرب والعالم الغربي. ولولا جهوده المتواصلة لما وجدت الموسوعة طريقها إلى الحياة، فقد قام شخصياً بكتابة جميع المواد نقلاً عن قراءاته لموضوعات منشورة بلغات أجنبية، لأنّ همّه الأكبر كان “تجنيبه القارئ العادي اقتناء عدد كبير من الكتب كشرط للدخول إلى المعارف العالمية والعصرية”، ويمكن القول إنّ البستاني نجح في مساعيه هذه.
المصادر:
مثقفو الإنسكلوبيديا الفرنسية ومثقف دائرة المعارف العربية، فريدريك معتوق، العدد ١٣، المجلد الرابع، ٢٠١٥، تبيّن للدراسات الفكرية والثقافية، الدوحة، قطر.
الكتاب والأفق، شربل داغر، ١٩٩٨، عصر النهضة: مقدمات ليبرالية للحداثة، الجامعة الأمريكية، بيروت، لبنان.
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.