وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إنكيدو مات ولم ينهض بسبب الموسيقى

التراث الثقافي في العراق
صورة تم التقاطها يوم ٢٤ أكتوبر لفرقة موسيقية إسبانية عزفت موسيقى الفلامنغو في حفل تم تنظيمه في جامعة الموصل لكشف الستار عن نسخ طبق الأصل من “لاماسو”، وهو آلهٌ آشيوري برأس إنسان وجسم أسد وأجنحة طير. المصدر: Zaid AL-OBEIDI / AFP.

يوسف شرقاوي

تأتي ملحمة جلجامش في حقبتين، هما السومرية والبابلية، تختلف فيهما طريقة موت إنكيدو، بالأولى تقتله آلتان موسيقيتان.

يكون الخلق الفنّي تحقيقاً للرغبة الجماليّة المتأصّلة في النفس والبيولوجيا الإنسانيّة من جهة، وتلبيةً لحاجة عمليّة منفعيّة آنيّة من جهة أخرى، وإطلالة على المشكل الإنساني من جهة ثالثة. نادراً ما استطاع عملٌ فنّي أن يتجاوز حدود الزمان والمكان كما فعلت “ملحمة جلجامش”. فبعد أربعة آلاف عام من تدوينها في بلاد الرافدين، ما زال البشر يعكفون على قراءتها من شتى الثقافات في أربعة أركان المعمورة اليوم وكأنها كُتبت خاتمة الأمس. أما جلجامش* كما يصفه أكثر الباحثين فهماً له، وهو السوريّ فراس السواح**، فرجلٌ قد قارع الآلهة ليجلب لنا سرّ الحياة ولغز الموت وسرّ العيش في هذا العمر الضيّق. مضى في سفرٍ طويل فوصل مغرب الشمس، وسار في باطن الأرض مسار الشمس إلى مشرقها، وعبر بحار الموت وارتاد أرض الآلهة، وهبط إلى أعماق الغمر العظيم ليأتينا بكنزٍ لا يفنى، كنز الأعماق الذي وضعه جلجامش بين أيدينا – والكلام ما يزال للسواح – ليس جواباً سهلاً على أصعب سؤال: سر الحياة ولغز الموت. لقد فني في سبيل الكنز وأراد لنا أن نكابد ما كابده ليفتح لنا صندوقه. لهذا بقيت الملحمة منذ اكتشاف كسرات ألواحها الأولى، أواسط القرن الماضي، الشغل الشاغل لعلماء اللغات البائدة ودارسي الميثولوجيا والآداب القديمة وعلماء الإنسانيات من شتّى الاتجاهات.

تأتي الملحمة في حقبتين: السومرية والبابلية. فقبل الملحمة البابلية كان جلجامش موضوعاً لعدد من النصوص الأدبية والأسطورية السومرية، ودُوِّنَت هذه النصوص خلال القرنين الأخيرين من الألف الثالثة قبل الميلاد، إبان الفترة التي دُوِّنت فيها معظم الأدبيات السومرية الأساسية، ولا شكّ – كما يؤكد الباحث فراس السواح – أنّ نصوص جلجامش السومرية قد اعتمدت تقاليد شفهية قديمة، أو أنها نسخ عن أصول قديمة ضائعة، وتقع في ست نصوص، الخامس منها يودي إلى حكاية الموسيقى، الموسيقى التي كانت في بلاد الرافدين قديماً عنصراً قدسياً، ترافق جميع الطقوس الدينية في المعبد وخارجه، وفي المناسبات كالاحتفالات والمراثي، وحتى في الحروب، كما كانت ضمن جداول إعداد الكهنة ورجال الدين، حيث دُرِّسَت في المعبد، كما تذكر النصوص المسمارية. وفي تتبّع مراحل تاريخ الحضارة الموسيقيّة لبلاد الرافدين، اتّضح أنّ جميع الآلات الموسيقية القديمة من وترية وهوائية وإيقاعية، وصرنا نعرفها، قد تم إيجادها خلال التنقيبات الأثرية التي جرت في مدن العراق القديمة مثل “أور، كيش، نمرود”.

وفي النصوص المسمارية ترد أسماء كثيرة للآلات الموسيقية والموسيقيين باللغتين السومرية والأكادية، كما يصرّح الباحث “كورت زاكس” في كتابه “تاريخ الآلات الموسيقية” ما يلي: “من الثابت أنّ جميع الآلات الموسيقية الأوروبية جاءتنا من الشرق، وبأكثر من طريقة، والآلة الوحيدة التي كنا نعتبرها من مبتكراتنا، وهي البيانو، ثبت أنها منحدرة من مصدر عربي أندلسي، وقد أوجدها العراقي زرياب”.

ليس عجيباً إذن أن يموت إنكيدو* رفيق جلجامش بسبب آلتين موسيقيتين، فالآدميّ الذي كان وحشاً، يموت في الملحمة السومرية القديمة بطريقة مختلفة عن الملحمة البابلية التي نعرفها، والتي تقول إنه مات بالإنابة عن جلجامش بعد قرار من مجمّع الآلهة. لم يكن هذا ما حدث في الملحمة السومرية، في النص الخامس “جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل”. تبدأ الحكاية أنّ جلجامش يخلّص الإلهة “إنانا”**، حيث كانت قبل ذلك قد زرعت شجرة في حديقتها المقدسة، وبمرور السنين كبرت الشجرة، إلا أنّ حيّة عملاقة جعلت من قاعدتها سكناً لها، وحط طائر عملاق اسمه “انزو” على قمّتها، بينما سكنت الشيطانة ليليث منتصفها. ذهبت “إنانا” إلى أخيها “أوتو” إله الشمس لتشكو، فسمع شكوتها جلجامش وهبّ إلى نجدتها. لبس درعه وحمل فأسه وأتى إلى الشجرة، قتل الأفعى فهرب الطائر وليليث، ثم قطع جلجامش الشجرة وقدّمها إلى الإلهة. مكافأةً على صنيعه صنعت له إنانا آلتين موسيقيتين، واحدة من قاعدة الشجرة اسمها “بكو”، وأخرى من قمتها اسمها “مكو”. نوع هاتين الآلتين ما يزال مجهولاً، وربما كانا طبلاً وعصاه.

في النص الخامس من الملحمة، تستمر الحكاية، حيث بعد زمن من حصول جلجامش على هديته، تسقط الآلتان الموسيقيتان منه في كوة مفتوحة إلى العالم الأسفل، فيحزن ويندب:

“أيا بكي من سيعيدك من العالم الأسفل
ويا مكي من سيرجع بك من العالم الأسفل؟”
هنا يسمعه إنكيدو ويعده أنّ آلتيه سترجعان إليه:
“لماذا يا سيدي تبكي وعلام يتوجع قلبك؟
بكك سآتيك به من العالم الأسفل
ومكك سأرجعه إليك من العالم الأسفل”.

قبل هبوط إنكيدو يزوّده جلجامش بمجموعة من النصائح والإرشادات عن كيفية السلوك في العالم الأسفل، مما يكفل عودته سالماً من هناك. لكن إنكيدو بعد نزوله إلى أرض الموات يتجاهل تعليمات جلجامش جميعها لتمسك به صرخة العالم الأسفل التي تسلب الروح. يبكيه جلجامش ويمضي طالباً عون الآلهة في استرجاع إنكيدو إلى الحياة، ويرق قلب الإله “إنكي” فيعينه على رؤية شبح إنكيدو فقط، وعندما يجتمع الصديقان يعانق جلجامش خيال إنكيدو ويطلب منه أن يخبره بأحوال أهل العالم الأسفل:

“حدّثني عن مسالك العالم الذي شهدت”.

ويردّ إنكيدو:

“إذا كان عليّ أن أخبرك بمسالك العالم الذي رأيته اجلس أولاً وابكِ”.

ويجيب على أسئلته واحداً تلو الآخر، وبعد أن ينتهي من وصف أحوال الموتى تتلاشى روحه عائدة إلى مقرّها الأبدي.

لقد مات إنكيدو إذن بسبب آلتين موسيقيتين قد تكونا طبلاً وعصاه، ويبدو هذا السبب وراء موته أكثر رهبةً مما يرد في الملحمة البابلية، فمن تلك البلاد انطلقت الموسيقى التي تقتل، الموسيقى التي كلّ مَن يسمعها يجد سبباً للبكاء، قد يكون على ذلك الآدمي الذي تلاشت روحه بسببها، وندعوه إنكيدو.

المصادر:
[1] قراءة في ملحمة جلجامش، فراس السواح.
[2] ملحمة جلجامش، ترجمة ودراسة: طه باقر.
[3] دور بلاد ما بين النهرين في صناعة الآلات الموسيقية، مجلة آفاق عربية.
[4] الحضارة الموسيقية لبلاد ما بين النهرين، مجلة آفاق عربية.
[5] سحر البدايات، خزعل الماجدي.
[6] تاريخ بابل وآشور، مجميل أفندي نخلة المدور.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.