منذ عقد مؤتمر مدريد أواخر عام 1991، حصلت تغيرات كبيرة في مبنى الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
ماجد كيالي
منذ عقد مؤتمر مدريد أواخر عام 1991، حصلت تغيرات كبيرة في مبنى الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أو في مبنى العلاقات العربية ـ الإسرائيلية. هذه التغييرات تجلت بشكلٍ واضح في مجالاتٍ متعددة.
أولا، تصدعت أو أفلت مقولة إنّ “فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية”. وظهر جليا أن تلك المقولة العاطفية تأتي ضمن جملة الشعارات التي أشهرتها النظم الاستبدادية العربية لإسكات مطالب مجتمعاتها بالحرية والتنمية والعدالة. كما أن هذه الأنظمة استخدمت تلك المقولة لتبرير تسلطها وهيمنتها على الموارد.
ثانيا، بيّنت وقائع السنوات الماضية اختفاء فكرة أن فلسطين هي بوابة إسرائيل نحو العالم العربي. وذهبت العديد من الأنظمة العربية نحو تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. ووصلت بعض هذه الأنظمة إلى اتفاقات تزيد عن ذلك بكثير دون ربط تلك الاتفاقات بتلبية إسرائيل لأي جانب يتعلق بحقوق الفلسطينيين. وبطبيعة الحال، فإن تحركات تلك الأنظمة يعتبر التفافاً على المبادرة العربية للسلام والتي تنص على انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة مقابل تطبيع علاقات الدول العربية معها. ومن المعروف أن هذه المبادرة التي تم إقرارها في مؤتمر القمة العربي في بيروت عام 2002 رفضتها إسرائيل جملة وتفصيلا.
ثالثا، عقدت عدة دول عربية اتفاقيات تجاوزت مستوى التطبيع بين دولتين عاديتين، كما في حالتي التطبيع في الموجة الأولى التي شملت مصر والأردن وعمان. ووصلت الاتفاقيات الجديدة إلى مستوى أقرب إلى التعاون أو التحالف.
ومن الأمثلة على هذا النوع الجديد من الاتفاقيات ما جرى في الفتح الجديد في علاقات إسرائيل مع كل من الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، والمملكة المغربية. وتتعلق هذه الاتفاقات بتشكيل منظومات تعاون اقتصادية وأمنية وسياسية مع إسرائيل. وجرى توقيع اتفاق إبراهيم (أو إبراهام) في صيف 2020 بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين برعاية إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
رابعا، قامت سلطة فلسطينية في جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 بحدود حكم ذاتي. وحافظت إسرائيل على سيطرتها على تلك الأراضي. كما أنها أصرّت على تعزيز وجودها الاستعماري في الضفة الغربية، وحالت دون قيام دولة فلسطينية مستقلة.
ومن أهم تجليات التطور الحاصل على هذا الصعيد انعقاد لقاء وزاري سداسي حضره وزيرا خارجية إسرائيل والولايات المتحدة إلى جانب وزراء خارجية الإمارات، والبحرين، والمغرب، ومصر.
ونظّمت إسرائيل هذا اللقاء في النقب، مع ذهاب تلك الدول إلى حد عقد اتفاقات تعاون اقتصادي وأمني مع إسرائيل. وسمح توقيع هذه الاتفاقيات لإسرائيل بأن تعزّز من مكانتها على المستويين الإقليمي والدولي. كما أن ذلك الوضع جعل الفلسطينيين مكشوفين أكثر من أية مرة في تاريخهم.
بعد كل تلك التطورات اللافتة، ومن تفحّص مواقف إسرائيل وسياساتها، يمكن ملاحظة أن تل أبيب تهتم لثلاثة عوامل استراتيجية. وتحكم هذه العوامل الثلاث رؤية إسرائيل لذاتها ولدورها ولتموضعها في المنطقة العربية وإزاء الأطراف الإقليمية الأخرى.
ويكمن العامل الأول في أمن إسرائيل الذاتي. ويندرج في إطار هذا العامل طمس قضية الفلسطينيين أو إزاحتها من جدول الأعمال الإقليمي والدولي. ويعني ذلك إبقاء الوضع الفلسطيني على حاله، وفقا لحكم ذاتي محدود، أو سلطة على شعبها فقط في الضفة وقطاع غزة.
أما العامل الاستراتيجي الثاني فيتمثل في أمن إسرائيل الإقليمي. ويندرج في إطار هذا العامل تعزيز علاقات إسرائيل مع الدول العربية والانخراط معها في منظومة أمنية واقتصادية وسياسية ما أمكن. كما أنه يشمل إزاحة القوى الإقليمية الأخرى أو تحجيمها، لا سيّما إيران، وهو الأمر الذي تتقاطع فيه إسرائيل مع الدول العربية الأخرى.
ويأتي في العامل الاستراتيجي الثالث دعم مكانة الولايات المتحدة في العالم، وفي الشرق الأوسط. ويشمل ذلك حفاظ إسرائيل على العلاقات الاستراتيجية التي تربطها بالولايات المتحدة، لما لذلك من علاقة بأمنها المتأتّي من تلك العلاقة، والقوة المضافة التي تضفيها عليها.
بيد إن كل تلك الأوضاع لا تعني أن الأمور تسير على نحو سلس بالنسبة لإسرائيل. وخلاصة القول أننا نتحدث عن منطقة قلقة ومعرّضة لتقلباتٍ واضطرابات شديدة، ومعقدة، على نحو ما شهدنا في السنوات الماضية.
كما لا بد وأن نأخذ بعين الاعتبار ما يطرأ على الوضع الدولي من تغيرات وتحولات كبيرة في كل المجالات. وقد تؤدي هذه التحوّلات إلى خلق اعتبارات جديدة على الصراع العربي ـ الإسرائيلي. ومن المحتمل ألّا تصب كلّ هذه التحولات في صالح إسرائيل، أو بحسب ما يتلاءم مع مصالحها.
الفكرة أننا في وضعٍ تاريخي بالغ السيولة على المستويات العربية والإقليمية والدولية. وبطبيعة الحال، فإن هذا الوضع مفتوحٌ على سيناريوهات عديدة. وبكلماتٍ أخرى، ستبقى إسرائيل عرضة لتقلبات السياسة والتاريخ والجغرافيا، طالما أنها بقيت على طبيعتها كدولة استعمارية وكدولة أبارتهايد تضطهد “الأغيار”، أو تميّز ضد مواطنيها على أساس الدين.
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.