أسامة العوابدي
تماماً مثل الحبّ والكره والفرح والعواطف الأخرى، يتجذّر الخوف في التجربة الإنسانية، لِيُشكل جزءً لا يتجزأ من الشخصية بأبعادها النفسية والاجتماعية.
بداية الحكاية
منذ عقود من الزمن انتشرت فروع الأمن والمخابرات في المحافظات السورية بشكل مُنظم، انتشارٌ ضَمِن تركُّز نسبة متساوية من الأدرينالين في دماء الشعب السوري بأسره، جراء الخوف من عنصر الأمن أو المخابرات، ذلك العنصر الذرّي الذي يتَّحد وبشكل تعسّفي (اعتباطي) مع كينونتك ليصيبها بالعطب والضرر، رغم خساسته وهشاشته النفسية والخلُقية.
فوبيا خاصة ومتفردة في ذاتها
تتألف أجهزة الأمن والمخابرات السورية من أربع إدارات مختلفة ومستقلّة عن بعضها البعض، ما يجمعها هو عامل الخوف الذي تبثه بين الناس، وأكثر ما يُعززُه ويجعله متفرداً وخاصاً هو استقلال هذه الفروع عن بعضها في عملها، فلكلٍ منها قيادته الخاصة والحكيمة، بحيث إن باغتتك فكرة متمردة ضد النظام، واستسلمت لعذوبة البوح بحرية، ستستيقظ بين أحضان عزرائيل، وتتعرف شخصياً على كافة أشكال الخوف، بدءاً من التشوه والضرر الجسدي حتى الفناء والانقراض. إلى أن يتداخل الخوف بتكوينك الجينيّ الخاص، لتصبح حارسه الأمين ووكيل نِعَمه وكوارثه للأبد، فتكون طُولةُ اللسان سِمَتك الاجتماعية الجديدة، فبعد الجلوس لساعاتٍ غير محددة في غرفةٍ يسكنها صمت عدائي وضوء أصفر خافت، يُمسي الانتظار شكلاً واضحاً للموت، إلى أن يأتي عنصر الأمن الذّرّي ليخبرك بتهمتك الميتافيزيقية الغيبية الجاهزة (إضعاف الروح القومية والوطنية).
يبحث عنك أهلك بنوع من العبث والعجز والخوف، فلا أحد يعرف إلى أي إدارة مخابرات تمّت دعوتك على فنجان قهوة. ويكمن العجز بأن كل إدارة تدّعي بأنك غير موجود عندها. ومن بديهية الخوف المُتَفوّق على شكك، فلن تجرؤ على تَكذيب أيّاً منها.
عنصر الأمن موظف حكوميّ
تنهي دراستك الجامعية وتحصل على وظيفة ما في مؤسسة أو وزارة تحسبها مدنية، لكنك وبعد وقتٍ قصير تكتشف أنها تابعة بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة لفرع أو إدارة أمنية!
الصدمة الوجدانية تتجسّد عندما تكتشف أن عنصر الأمن موظفٌ مثلك تماماً، أنت تدرك الفرق الإجتماعي الواضح بينكما في السلطة والحرية، إلا أن إدراكك يعزّز من جديد خوفك، ويترافق هذه المرة بالدونية ويغور في أعمق أعماق النفس، ليكتسح الوعي على شكل فصامٍ فكريٍ مقبول مُجتمعياً. أما عنصر الأمن فهو ذلك الآخر الذي يملك دِيناً وميولاً واتجاهاً لا يمكن التعرف عليها، وإن قابلته بمحض الصدفة، ستتقوّض ذاتك، لِينتشر صمت متزمّت بينكما، يشبه تماماً الصمت الذي تملكك عندما كنت في ضيافتهم في المقر الأمني.
تماماً إنه موظف مثلك، لكنه يتقاضى راتبه من خوفك الخاص والأزلي، بعد أن يضمن توقيعك على معاهدة توريث ذلك الخوف لابنك من بعدكَ، أضف أنه من العسير التعرف عليه، فقد يكون جارك، أو البقال، أو صديقك في العمل، لذلك تجلّى المعارض للنظام كبطل مغوار في اللاوعي لدى عموم الشعب، رغم نعته علانيةً بالأهبل.
عقدة المعلم
جميع العقد النفسية في المجتمع العربي يُعاد تدويرها، إلّا “عقدة المعلم لا تستطيع العثور عليها إلا في القاموس السوري.
المعلم الأول هو السيّد الأول أو الرئيس، تماماً مثل مقولة السيدة الأولى. ويَتفرع منه عدد غير محدد من “المعلمين” بدرجاتٍ أقل، يتقاسمهم السواد الأعظم من الشعب السوري.
“المعلم” حين يكون عنصر أمن، يحمل مقوِّمات المعلم الأول لكونه انعكاسه الشرعي على أرض الواقع. وما يضفي على الخوف منه مزيد من التعقيد هو بديهية السلطة التي يمتلكها، فقوته وطاقته، المستمدة من المعلم الأول، تُمكنه من رفس كل الأبواب المغلقة بقدمه، والحصول على ما يريد!
عندما يكون السوري صاحب شركة أو مطعم، تجد جميع العمال يلقبونه بـ”المعلم”، فيحصل على نشوة السلطة، رغم كونه ليس معلماً بالمعنى المخابراتي للصفة.
إن أراد السوري رفع قيمة أحد أثناء محادثته، ترتمي على لسانه عفوياً كلمة “معلم”، لِتكون صلة الاتصال النموذجية مع الآخر.
هذا طبعاً بالإضافة للحماية النفسية التي تمنحها لك كلمة “معلم” في سوريا، فمثلاً عندما تدخل إلى مكان ما لغرضٍ ما وتجده مكاناً عدائياً، يكفيك أن تقول إن المعلم هو الذي أرسلني، ليغرق الآخر بدوامة خوفه الأزلية، محاولاً استدراك الموقف بالإستجابة السريعة، خوفاً من تقرير مخابراتي يُكتب بحقه، فيمسي ضيفاً دائماً لدى الفروع الأمنية على اختلاف طعم ورائحة القهوة المُقدّمة له.
لا حاجة لطرح الأمثلة، فالحكاية السورية، قبل وبعد الحرب، زاخرة بقصص أصبحت عبرة عن سوريين تَطاولوا على المعلم أو أجهزته، وهو تطاول لا يتجاوز الشهوة للحرية أو حلم التخلص من ذلك الخوف القرين. وتبقى رواية الكاتب مصطفى خليفة “القوقعة”، المثال الأبرز بما تحمله من تراجيديا، تبدأ بإطلاقه نكتة عن “المعلم” أثناء إقامته في فرنسا، لتنتهي به سجيناً تحت التعذيب لثلاثة عشر عاماً!
محمد الماغوط أنموذج الخوف السريالي السوري
“الخوف هو فقدان الحرية، وكل ما سمعتُ قرع باب بيتي أخاف”، هذا ما قاله الماغوط في مقابلته مع محطة “العربية” في برنامج “أدب السجون”. يضيف: “وكالجرافة حفر الخوف بداخلي، بعد أن تم سحبي إلى فرع الأمن للتحقيق معي، فكانت تلك الصفعة التي لثمت وجهي، بمثابة القطيعة بيني وبين العالم، ليمسي الخوف كالبترول الذي لا ينضب، ورغم تكريم الدولة لي وحمايتي وصرف راتب شهري لي مدة الحياة، ما زلت ذلك الطفل الذي ترتجف ركبتيه من الخوف، عندما يُقرع باب بيتي”.
لقد كان الخوف والجوع والإهانة، ثلاثية الماغوط الحقوقية، وشعار ثورته الأدبية والفكرية ضد النظام السوري، صاحب العناصر المخابراتية الذريّة.
هل كانت الثورة السورية ثورة من أجل الحقوق أم ثورة على الخوف؟!
قلت لصديقي بداية المظاهرات والمطالبات الشعبية، إن شعلة الثورة ستنطفئ باكراً، لأن التاريخ الفعلي للخوف متربصٌ داخل الكيان السوري، وفي حال زواله سيتعرض الوعي للفراغ والإرباك، فالحيز النفسي للنظر نحو أفق جديد معطل، لذلك ستكون الرؤية ضبابية، وسيبحث الناس عن بديل يُبقي الخوف في مكانه، مع الحصول على النذر اليسير من الحقوق: “حرية الرأي والتعبير، العبادة، والتحرر من العوز والخوف”، وبتعبير آيديولوجي أكثر دقة، إن الوعي للثورة وما بعدها هو الحامل الأساسي لاستمرارها ونجاحها.
فأجاب صديقي بعبارة للماغوط: (أمنية واحدة تكفي)، فشعور العجز الذي استحوذ على أجهزة الأمن والمخابرات، كان التعويض النفسي المُقنع، الذي حرر الطاقة الكامنة لشعب عانى من القهر والكبت والخوف خلال عقود من الزمن.
بين اليقين والفكاهة تقاسم السوري الخوف
من المُمكن علاج الخوف سلوكياً ومعرفياً ونفسياً عن طريق المواجهة أو بالدواء، في حال كان مُسبب الخوف طبيعياً، أما في حالة السوريين ولأن مصدر الخوف ليس طبيعياً، فقد لجأوا للفكاهة والتهكم في تناول حياتهم وحوادث أصدقائهم في أجهزة الأمن، وأنا شخصياً يتلازم الآن القلق مع الخوف في رأسي ويتزاحم، فذلك العنصر الأمني الذري غذّى وحَرس الخوف داخلي سنوات عديدة، إنه جلادي الذي مَنع انتحاري، والذي حَملتهُ وسأحمِلهُ معي، لن نتقابل ولن نفترق، وسنتقاسم معاً ما تبقى من الوطن بين اليقين والفكاهة لنتفرد بكوننا السوريون الذين ترعرعوا في جمهورية الخوف.
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.