وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الحكم بالإعدام على السلام في ليبيا

Saif al-Islam Gaddafi and other members of Gaddafi's regime are being sentenced by the militias trials
سؤولون من عهد القذافي ينتظرون محاكمتهم في قفص السجن في طرابلس، ليبيا, 18 يوليو 2015. Photo

بعد الحكم بالإعدام على سيف الإسلام القذافي ومسؤولين آخرين من نظام والده في يوليو 2015، كانت سلطات الحكومة في طرابلس (بخلاف الحكومة في طبرق) توجه رسالة واضحة للمجتمع الدولي: نحن هنا للحرب وليس للسلام.

بنى معمر القذافي نظامه على مدى أكثر من أربعين عاماً، منذ عام 1969 إلى عام 2011. وخلال العقود التي قضاها في السلطة، شيّد المدارس والطرقات والمدن وأسس دولة تتمتع بالرفاه حيث كان يتم توزيع بعض عائدات النفط على الشعب، إلا أنه كان ديكتاتوراً وحشياً وغريب الأطوار. فقد كانت سجون القذافي من بين الأسوأ في العالم العربي، ويمكن أن يُفضي انتقاد نظامه إلى الموت. كان التعذيب منتشراً على نطاقٍ واسع، حيث فقد الآلاف حياتهم بعد ثورة سبتمبر. وأصبحت الدوائر المقربة منه ومن عائلته فاحشة الثراء وتتمتع بالقوة.

قاطع المجتمع الدولي وذم بالقذافي لسنوات، إلى أن غيّر قراراته وانضم إلى “الحرب على الإرهاب” عام 2004. استعاد بعد ذلك الاعتراف الدولي تدريجياً، الذي بلغ ذروته بالتقارب مع رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلسكوني، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير. حتى أن قوات فرنسية وإيطالية شاركت في العرض العسكري عام 2009 في طرابلس، لإحياء الذكرى الأربعين لصعوده إلى السلطة.

ومع ذلك، وفي ثورة عام 2011 انقلبت الأمور رأساً على عقب. فقد فاقم القمع الوحشي للمعارضة والتهديدات التي أطلقها هو وابنه سيف الإسلام ضد المتظاهرين الوضع سوءاً. ولم يكن الأمريكيون والأوروبيون، على الرغم من علاقتهم الجيدة به آنذاك، يعتبرونه قط جديراً بالثقة أو يعتبرون أن نظامه سيدوم، وقرروا الانضمام إلى بعض الدول العربية في الهجوم على ليبيا. كانت الجرائم التي ارتكبها القذافي في الفترة ما بين فبراير وأكتوبر 2011 موثقة بشكلٍ جيد سواء عبر الأفلام أو غيرها من الوسائل. فقد كانت دموية وقبيحة وقاسية، واتُهمت قوات القذافي بارتكاب جرائم حرب. وسرعان ما تدخلت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (ICC) بما يكفي من التهم لتقديمه للمحاكمة.

لم تكن الجماهرية اللليبية في عهد القذافي قائمة على رجلٍ واحد، بل كان نظاماً قائماً على المحسوبية، شبكة قائمة على المحسوبية. وبالنسبة لأولئك الذين وقفوا ضدهم، أي ضد المجموعة المحيطة بالقذافي- أولاً الموالين من الجيش والثوار الشباب ومن ثم أبنائه، وبينما اشتد عودهم إلى جانب عملائه- كانوا جميعاً مسؤولين عن الويلات التي ألمت بالبلاد. ويؤمن المجتمع الدولي إلى حدٍ كبير بوجهة النظر هذه.

قُتل القذافي وأحد أبنائه، المعتصم بالله، في 20 أكتوبر 2011. وفي الأسابيع التي سبقت اغتياله، فقدت شخصيات أخرى أرواحها أيضاً، في حين انشق العديد منهم ولم يصابوا بأي أذى يُذكر. ولكن ألقي القبض على العديد منهم من قِبل الثوار عامي 2011 و2012.

محاكمات غير عادلة

في البداية، كان يبدو أن الجميع يملكون عدواً واحداً: نظام القذافي. وبمجرد انهياره، برزت الصراعات، حيث رفضت ميليشيات الثوار حلها وتسليم السلاح، وبات الوضع في البلاد كتلة من اللهب تكبر بشكلٍ مستمر، إلى أن جرى تقسيم الأمة عام 2014.

مهما كانت الجرائم التي ارتكبتها القوات التابعة للقذافي، أصبح من الواضح منذ عام 2011 فصاعداً أنهم لن يحصلوا على محاكمة عادلة في ليبيا. ومنذ البداية، أشار مصير سجين واحد أنّ الأمور تسير باتجاهٍ خاطىء. سيف الإسلام، الإبن المفضل للقائد وخليفته المزعوم، اعتقل بعد أيام قليلة من وفاة والده بينما كان يحاول الفرار من البلاد. من ألقوا القبض عليه كانوا من ثوار منطقة الزنتان، الواقعة جنوب غرب ليبيا. عرضوا الأمير، الذي سقط بين أيديهم، أمام الكاميرات وجابوا به في الشوارع، وقيل أنهم قطعوا أصابعه لتعذيبه.

ولكن عندما طلبت حكومة طرابلس، الحكومة المركزية الوحيدة آنذاك، تسليمه إليهم، رفض ثوار زنتان ذلك. وحتى عندما طلبت المحكمة الجنائية الدولية ذلك، قوبل طلبهم بالرفض أيضاً. وفي وقتٍ لاحق، تم عرض أشرطة فيديو له في السجن، حيث بدى أكثر هدوءاً فضلاً عن احترامه من قِبل حراس السجن. ومع مرور السنوات، تحولت الزنتان من مدينة ثورية صامدة إلى معقل مؤيدي طبرق. وبعد تقسيم ليبيا على أرض الواقع عام 2014، أصبحت الزنتان مقاطعة طبرق في الغرب، في قلب منطقة نفوذ طرابلس، إذ تعتبر طبرق حكومة موالية للقذافي.

لذا، عندما حكمت محكمة طرابلس بالإعدام على سيف القذافي، تم ذلك غيابياً. فقد كان محمياً على أكمل وجه في “سجنه الذهبي” في الزنتان. وبالتالي كانت الإدانة رمزية. في الواقع، يفتقر القضاء في ليبيا، سواء في طبرق أو طرابلس على حد سواء، إلى الاستقلالية ويواجه ضغوطات مستمرة من المليشيات التي تحكم البلاد. وتتمثل الرسالة التي أرسلتها طرابلس إلى أعدائها وللمجتمع الدولي، أنهم غير مستعدين لتقديم أي تنازلات وسيمضون قدماً في تنفيذ الخطط التي تمت صياغتها.

وفي حين أن سيف الإسلام آمن نسبياً، إلا أن شخصيات أخرى رفيعة المستوى من نظام والده السابق ليست كذلك. ومن أبرز الشخصيات التي تقبع في سجون طرابلس، الجاسوس الليبي السابق عبد الله السنوسي، وآخر رئيس وزراء ليبي- البغدادي المحمودي، ونجل القذافي الأصغر- السعدي. ويقبع الرجلان العجوزان في الوقت الراهن خلف القضبان وينتظران تنفيذ الحكم، الذي من الممكن أن يتم في أي وقت. وفي أغسطس 2015، ظهر شريط فيديو للسعدي القذافي وهو يتعرض للتعذيب على أيدي سجانيه.

تنقسم ليبيا اليوم إلى قسمين، مع وجود العديد من المناطق خارج سيطرة أي دولة. وفي هذه الأثناء، تتمدد التنظيمات التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في البلاد، بينما ينهار اقتصاد البلاد. وواصل المجتمع الدولي، ممثلاً في الأمم المتحدة، بإجراء سلسلة من المحادثات في عدة بلدان مطالبةً مختلف الفرقاء، سواء في طبرق أو طرابلس، الجلوس على طاولة الحوار.

ومع ذلك، رفضت بعض الأطراف الإلتزام بعملية السلام وتعهدت بمواصلة القتال. فمن جهة حكومة طبرق، يقوم اللواء خليفة حفتر وميليشاته التي حولها إلى جيش بمواصلة القتال وقصف بنغازي والمناطق حول طرابلس. وأما من جهة طرابلس، يوجد بشكلٍ أساسي المقاتلين المتطرفين من مصراته الذين اتحدوا مع جبهة الصمود بقيادة العقيد صلاح بادي. هذا وتتناسب القرارات الأخيرة لمحكمة طرابلس مع مشاريع بادي ومؤيديه. وفي حال دخلت حيز التنفيذ، ستصب المزيد من الزيت على نار الحرب المستعرة بالفعل.

وهذا بالضبط ما ينتظره حفتر، وصقور طبرق، وتنظيم الدولة الإسلامية.

user placeholder
written by
veronica
المزيد veronica articles