ليبيا الثورة تحت حكم معمر القذافي

المقدمة

بحلول نهاية الستينيات، حمّلت الاحتجاجات الشعبية الحكومة الليبية مسؤولية العديد من الإخفاقات، مثل انتشار الفساد وسوء الإدارة والتفاوتات الاجتماعية. وقد رأى الناس أن سبب ذلك يرجع إلى العجز عن توزيع عائدات النفط توزيعاً عادلاً، وأرجع الليبيون ذلك الفشل إلى اعتماد الدولة الاقتصادي على شركات النفط الأجنبية وخضوعها السياسي للقوى الغربية.

وتوقّع كثير من الأجانب والليبيين وقوع انقلاب في البلاد. وهذا ما حدث، لكنه جاء من مصدر غير متوقع. إذ قدّمت الاشتراكية الناصرية القومية بديلاً أيديولوجياً جذاباً للنظام القائم، وأجرى الرئيس المصري جمال عبد الناصر اتصالات مع مجموعة من كبار الضباط.

ومع ذلك، كان الرجال الذين استولوا على السلطة في سبتمبر عام 1969 كلهم من الضباط الصغار. لكنهم تأثروا بعبد الناصر تأثراً شديداً، وكان منهجهم وتفكيرهم يسير على خطاه في البداية.

ولقد كان معمر القذافي أحد أولئك الضباط الذين خططوا للانقلاب.

معمر القذافي (1942 – 2011)

وُلد معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي بن قبيلة القذاذفة في السابع من يونيو 1942 في خيمة بالصحراء قرب مدينة سرت. ولا ينحدر القذافي من طبقة مرموقة شأنه شأن معظم الضباط المتمردين. ولم تكن العائلات البدوية الأمّيّة تحتفظ بسجلات توّثق تواريخ الميلاد، ولذلك لا نعرف تاريخ ميلاد القذافي على وجه الدقة. وفي عام 1952، دخل المدرسة الابتدائية في سرت، ثم انتقل إلى مدرسة إعدادية في سبها عام 1959، والتحق بعد ذلك بالمدرسة الثانوية في مصراتة عام 1961. وفي عام 1963، دخل الأكاديمية العسكرية الملكية في بنغازي.

ورُسمت لاحقاً صورة متكاملة ومفصّلة عن سيرة القذافي، وكانت لها أغراض دعائية إلى حد ما. وركزت سيرَه الذاتية التي سمحت السلطة بنشرها على ثلاثة أشياء: خلفيته الصحراوية، ووطنية عائلته، واهتمامه بالسياسة منذ صغره. وكانت عائلة القذافي فقيرة، وهو أول من تعلم القراءة والكتابة من بين أفراد أسرته. وكان يزور عائلته في عطلة نهاية الأسبوع فقط في أثناء دراسته في المدرسة الابتدائية، وينام في المسجد خلال أيام الأسبوع. وزُعم أن القذافي طُرد من مدرسته الإعدادية في سبها بسبب أنشطته السياسية، وأنه نظّم مظاهرة في مدرسته الثانوية في سرت ضد سوريا احتجاجاً على إنهاء الوحدة مع مصر.

وقد استمرت بعض صداقات القذافي طويلاً في حياته، إذ أن عدداً من رجال مجلس قيادة الثورة الذي حكم ليبيا بعد انقلاب سبتمبر عام 1969 كانوا زملاءه في المدرسة. تعرّف القذافي في سبها على مصطفى الخروبي الذي تولى المخابرات العسكرية لاحقاً، وتعرّف على عبد السلام جلود الذي كان صديقاً مقرباً من القذافي وأصبح أول من يتولى منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ثم أصبح بعد ذلك وزيراً المالية.

كما التقى القذافي بصديق آخر في سبها هو محمد الزاوي، آخر من تولى منصب أمين مؤتمر الشعب العام في ليبيا وهو ما يعني أنه رئيس الدولة نظرياً من عام 2010 حتى عام 2011. وفي المدرسة الثانوية، التقى القذافي عمر المحيشي الذي صار في ما بعد عضواً في مجلس قيادة الثورة وقاد انقلاباً بنفسه. ولكن غالبية أعضاء مجلس قيادة الثورة التقوا القذافي في الأكاديمية العسكرية في بنغازي، ومنهم أبو بكر يونس جابر الذي تولى منصب وزير الدفاع منذ عام 1970 وحتى الحرب الأهلية عام 2011، وخويلدي الحميدي الذي تولى منصب وزير الداخلية لفترة طويلة وزوّج ابنته من الساعدي القذافي.

“الثورة الجماهيرية” (1969 – 1977)

في الأول من سبتمبر عام 1969، نفذ 12 رجلاً من صغار الضباط انقلاباً عسكرياً سلمياً واستولوا على السلطة. ولمّا وقع ذلك الانقلاب في اليوم الأول من الشهر أو مفتتح الشهر، سُميّ “ثورة الفاتح”. وعُرف عن الضباط ميلهم للتيار الناصري واستخدموا خطابه، وسمّوا أنفسهم “حركة الضباط الأحرار” وأسسوا مجلس قيادة الثورة ليحكموا البلاد من خلاله. ورغم أن أسماء أعضاء المجلس لم تُعرف إلا في يناير 1970، كان واضحاً أن قائد هذا المجلس هو الملازم أول معمر القذافي الذي ترقى إلى رتبة عقيد في اليوم الذي تلا الانقلاب. ومثل القذافي، كان معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة أبناء قبائل مغمورة في سرت.

وفي غضون شهر، عيّن مجلس قيادة الثورة حكومة مدنية، ولكن ظلّ الأمر بيد المجلس، أي بيد القذافي نفسه. وأقدم القذافي عام 1971 على إنشاء الاتحاد الاشتراكي العربي لحشد الدعم الجماهيري، مستهلماً ما كان يجري آنذاك في التجربة الناصرية. وبعد ذلك حُظرت كل الأحزاب الأخرى والنقابات العمالية. ولم يكن للاتحاد الاشتراكي العربي شعبية ولم يستطع حشد الدعم اللازم لقرارات النظام الثورية.

لكن لم تكن للقومية الليبية معالم واضحة، وعادةً ما كانت تعرّف نفسها بمصطلحات المقاومة للاستعمار. وأخذ مجلس قيادة الثورة يتحدث في خطابه عن القومية العربية على غرار جمال عبد الناصر. وكانت السياسات في تلك الفترة تركز على طرد القواعد الغربية وإعادة ترتيب العلاقات مع شركات النفط وتجريد البيروقراطية القديمة من السلطة. فشرع المجلس في تأميم البنوك والمستشفيات والمؤسسات التجارية وشركات التأمين. وتسبب العداء لإسرائيل في طرد بقايا الجالية اليهودية في البلاد. لكن النظام الجديد تجاوز حدود الناصرية، إذ أخذ يعمل على تعريب المجتمع حتى إنه لم يسمح بوجود لافتات في الشوارع إلا إذا كانت بالعربية.

الكتاب الأخضر

في 15 أبريل 1973، ألقى القذافي خطابه الشهير في زوارة بعد فترة تأمل قضاها في الصحراء، وأعلن فيه عن نظام سياسي جديد يضع خطة واضحة “للثورة الجماهيرية” ويهجر النموذج المصري. وأعاد تشكيل هيكل الدولة وفق نظرية عالمية ثالثة تمزج بين الاشتراكية والإسلامية وتنأى بنفسها عن الرأسمالية والشيوعية.

وبعد عام 1975، لم تعد لمجلس قيادة الثورة أهمية تُذكر، ولكنه ظل قائماً بخمسة أعضاء هم القذافي وجلود ومصطفى الخروبي وأبو بكر يونس جابر والخويلدي الحميدي. ووضع القذافي نظاماً جديداً للحكومة في ثلاثة فصول صغيرة من الكتاب الأخضر. وفي تلك الفصول، ورد ذكر برنامج إصلاح جذري للهياكل السياسية والاقتصادية الليبية، ليتشكل مجتمع بلا طبقات أو تسلسلات هرمية ويدعى كل الناس لإدارة شؤونهم.

واختار النظام اللون الأخضر لوناً قومياً لليبيا لأنه يرمز إلى الإسلام. وغيّر اسم الساحة المطلّة على البحر في طرابلس والتي عُرفت باسم “ميدان إيطاليا” في الحقبة الاستعمارية و”ميدان الاستقلال” في الحقبة الملكية ليصبح اسمها “الساحة الخضراء”. وفي عام 1977، غيّر النظام علم البلاد ليكون علماً أخضر دون أي شعارات.

وحدد الكتاب الأخضر في فصوله الثلاثة هيكل النظرية السياسية الشعبوية. كما ذكر الكتاب أن الثورة ستُشكل لجاناً شعبية تنبثق منها مؤسسات الدولة والمجالس المحلية والشركات والمدارس والجامعات وكلها تحكم بأمر الطبقة العاملة في نمط ديمقراطي تشاركي وليس نيابياً. وقد وردت هذه الأفكار في الفصل الأول: حل مشكلة الديمقراطية “سلطة الشعب”.

وستحل الديمقراطية المباشرة محل الهياكل التقليدية مثل البرلمان والأحزاب السياسية والاستفتاءات. وورد في الكتاب الأخضر أن البرلمان هو شكل من أشكال الديكتاتورية لأن النواب يأخذون السلطة من الشعب حين يتحدثون نيابةً عنه بدلاً من ترك المجال للشعب ليعبّر عن نفسه. كما أن الأحزاب السياسية تساهم في عملية اغتراب الشعب عن السلطة ولذلك لا بد من إلغائها.

وأكد الكتاب على أن “الديمقراطية الحقيقية لا تقوم إلا بوجود الشعب نفسه لا بوجود نواب عنه”.

وفي الفصل الثاني “حل المشكل الاقتصادي – الاشتراكية”، وردت بعض الشعارات مثل “الاعتراف بالربح هو اعتراف بالاستغلال” و”شركاء لا أجراء”.

وفي الفصل الثالث “الركن الاجتماعي للنظرية العالمية الثالثية”، عرض القذافي بعض الإشكاليات الثقافية مثل العلاقة بين الذكور والإناث، وشؤون الأسرة والرياضة. وورد فيه على سبيل المثال أن “النوع الثاني [من الرياضة] يهمّ كل الشعب. يمارسه كله ولا يتركه لأحد يمارسه بالنيابة عنه” وربما يبدو في ذلك ميل إلى حظر الرياضات الجماعية.

وقد جرى الترويج لهذا الكتاب على نطاق واسع، فكان التلاميذ في المدارس يحفظون الكتاب عن ظهر قلب، وترُجم الكتاب إلى 84 لغة ومنهم العبرية. وكانت مهمة المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر توزيع الكتاب والترويج له، وكان الزوار الأجانب يتسلمون نسخة منه.

وكانت النتائج العملية لتنظير الكتاب الأخضر تمثلاً لأحد الشعارات الشعبوية التي انتشرت آنذاك وهو شعار “اللجان في كل مكان”. فكانت اللجان الشعبية المحلية والمجالس والنقابات العمالية والمنظمات المهنية ترسل ممثلين عنها إلى اللجان الأعلى والمؤتمرات الشعبية ثم ترسل تلك الهيئات ممثلين إلى مؤتمر الشعب العام المكوّن من نحو ألف عضو. وبعد ذلك، يختار المؤتمر أمناء (وهم بمثابة وزراء) لمؤتمر الشعب العام وكان له سلطات مجلس وزراء. وكان الأمين العام لمؤتمر الشعب العام يماثل رئيس الوزراء. وقد سمح ذلك للقذافي باستبدال الكوادر السياسية بقادة جدد من الطبقات الاجتماعية الأدنى وإطاحة المعارضين (الشيوعيين والبعثيين والإخوان المسلمين).

وكان العيب النظري في طرح القذافي ممثلاً في غياب التفسير عن أوجه الاختلاف بين ذلك النظام والنظام النيابي الذي يزعم استبداله. كما أن بعض الهيئات والوزارات المهمة مثل الدفاع والنفط والخارجية كانت خارج سلطة اللجان.

الجماهيرية

وفي مارس 1977، أعلن القذافي إلغاء مجلس قيادة الثورة وبداية “حقبة الجماهيرية”، فصارت ليبيا تسمى “الجماهيرية”. وقام في الشهر التالي بتطهير القوات المسلحة. وفي عام 1980، أعلن القذافي إلغاء المعاملات الخاصة في التجارة والبيع والتوزيع وحيازة الأراضي. واستبدل العملة بعملات جديدة، واستبدل المتاجر الخاصة بمتاجر حكومية ضخمة.

ورغم أن القذافي شجع الشعب على تولي الأمور بنفسه، لم تلق دعواته صدى عند الناس. وسرعان ما أصبح دور النظام الجديد ضعيفاً لا يُذكر وكان القذافي يرفض قراراته. ولذلك شرع القذافي في تدشين مؤسسات موازية ليضمن تأدية الأدوار السياسية اللازمة على النحو الذي يقبله.

ونظّم القذافي مجلساً من بين تلك المؤسسات الموازية، وكان تجمعاً يضم مؤيدين للقذافي وأغلبهم زملاء دراسة للقذافي ومعلميه. ومثّل ذلك التجمع مصدراً لشغل الوظائف المدنية المختلفة مثل الدبلوماسيين والإداريين وأساتذة الجامعات.

وكانت اللجان الثورية من ضمن المؤسسات الموازية التي أنشأها القذافي عام 1977 بعيداً عن السلطة السياسية للشعب. وتألفت تلك اللجان من مؤيدي سياسات القذافي الثورية، واستخدمت القوة لضمان التأثير وإجبار اللجان الشعبية على اتباع الخط السياسي العام للنظام. كان من المفترض أن تقتصر مهمة اللجان الثورية على نشر الوعي السياسي، لكن سرعان ما تحوّلت إلى حركة استبدادية واستبدلت النظام نفسه وحلّت المحاكم الثورية محل النظام القضائي القائم، وكان نشاطها الأساسي منصبّ على الجامعات.

وفي مارس 1979، انسحب القذافي علناً وبقية أعضاء مجلس قيادة الثورة من مؤتمر الشعب العام وتركوه يتولى زمام الأمور. ورأى القذافي أن وجود اللجان الثورية سيحافظ على أيديولوجيته، فلم يعد له منصب رسمي في الدولة وأطلق على نفسه لقب “قائد الثورة” أو “الأخ القائد”.

وبسبب كل ذلك، ضاق مجال الحرية السياسية في البلاد، فوجد الناس مجالاً بديلاً في المساجد والنشاط الديني.