وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الصراع التركي-اليوناني في شرق البحر المتوسط هو فراغٌ خلفه ترامب أكثر منه نزاعٌ على الغاز

Oruc Reis
صورة لسفينة الأبحاث الزلزالية Oruc Reis التابعة للمديرية العامة التركية لأبحاث المعادن والاستكشاف (MTA) ، والتي تبحث عن احتياطيات الهيدروكربون والنفط والغاز الطبيعي والفحم في البحر. المصدر: AFP

نشر موقع “The Conversation” مقالا يسلط الضوء على الصراع التركي-اليوناني حول موارد الغاز في البحر المتوسط. ويقوم كليمنس هوفمان، وهو محاضرٌ مختص في شؤون السياسات الدولية لدى جامعة ستيرلينغ، بالإجابة على التساؤلات المتعلقة بالجدوى الاقتصادية للتنقيب عن الغاز في الوقت الراهن، فضلاً عن التحالفات السياسية والموقف الإقليمي والدولي من هذه الأزمة.

ويبدو أن الأزمة المتردية في شرقي البحر المتوسط، والتي توصف كثيراً بصراع الغاز، باتت تتخذ زخماً بمرور الوقت. وقد يبدو غريباً ظهور هذا الصراع على الغاز في وقتٍ لا تزال فيه أسعاره متهاوية بسبب ضعف الطلب وانسحاب المستثمرين. فما الذي يفسر تصاعد الصراع بين تركيا، واليونان، وقبرص ومصر، وهو صراعٌ يورط أيضاً قوى أخرى إقليمية وأوروبية؟

منذ عقدٍ من الزمن، شهدت المنطقة اكتشاف احتياطات من النفط والغاز. وتوفر هذه الاحتياطات إيرادات للدول المحيطة بها، تقدر بتريليونات الدولارات حتى في ظل أسعار النفط الحالية.

وحذّر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في 13 أغسطس الجاري من الثمن الباهظ الذي ستدفعه أية جهة تفكر باستهداف سفينة الحفر التركية Oruç Reis، علماً بأن هذه السفينة تنقب عن النفط والغاز في منطقة مائية تتنازع عليها تركيا واليونان.

جاء هذا بعد وقوع صدامٍ بين فرقاطات تابعة للبحرية التركية ونظيرتها اليونانية، ما خلف قلقاً شديداً لدى الأطراف الفاعلة دولياً.

وتعهدت فرنسا على الفور بتقديم الدعم العسكري لليونان، في الوقت الذي أفادت فيه تقارير عن دعوة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رئيسي اليونان وتركيا إلى تخفيف حدة التوتر بين البلدين. وعلى هذا النحو، فإن الدولتين التي تتنافسان منذ القدم على بحر إيجه على أهبة الاستعداد للدخول في صراعٍ مفتوح وبصورةٍ مماثلة لما كان عليه الحال خلال أزمة غزو تركيا لقبرص في عام 1974.

شرقي البحر المتوسط

ارتبط الصراع التركي-اليوناني حول النفط والغاز ارتباطاً لصيقاً بأزمة قبرص حتى وقت قريب: إذ كانت تركيا تحفر قبالة ساحل شمالي قبرص الخاضعة للاحتلال التركي، وهي دولةٌ لا يعترف بها بقية المجتمع الدولي. غير أن انسداد أفق الأزمة الحالية حوَّل الصراع، على نحوٍ جذري، إلى البحر المفتوح.

وتطالب تركيا بحقوق استغلال ضمن منطقةٍ، تدعي أنها جرفٌ قاري. في المقابل، تدعي اليونان بأن كل جزرها المأهولة بالسكان محاطةٌ بمنطقةٍ اقتصادية حصرية على مسافة 200 ميل وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي لا تشترك فيها تركيا. ويؤدي التطبيق الصارم لهذه القواعد إلى “حصر” حقوق تركيا في استغلال هذه الموارد في ركنٍ صغير حول خليج أنطاليا.

واكتسبت مطالب الدولتين صفةً رسميةً عبر إبرام اتفاقات ثنائية مع دول أخرى في المنطقة. فقد وقعت تركيا اتفاق منطقة اقتصادية حصرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في طرابلس أواخر عام 2019، في الوقت الذي وقعت فيه اليونان مؤخراً اتفاقاً مماثلاً مع مصر.

ويقضي الاتفاق الليبي-التركي بأن حتى أكبر الجزر اليونانية، جزيرة كريت، ليس لديها جرف قاري -ناهيك عن جزيرة كاستيلوريزو، الأصغر بكثير والواقعة قبالة ساحل ليسيان التركي. وهذا موقف شائكٌ قانونياً، لكن ألمانيا، على وجه الخصوص، تبدو متفهمة لمطالب تركيا بالحصول على حصةٍ في الموارد النفطية البحرية. ولم يتفق قادة الاتحاد الأوروبي على فرض عقوباتٍ جديدة على تركيا، لتضاف إلى العقوبات، التي تم فرضها سابقاً عليها رداً على الحفر قبالة سواحل قبرص -على الأقل في الوقت الراهن. وبحسب تقارير، فقد تعهد أردوغان لميركل بأن تخفف تركيا من حدة موقفها في الأزمة خلال الأيام المقبلة.

ثروة غاز؟

في ظل الانخفاض الشديد لأسعار الغاز، يتبادر في الأذهان تساؤلٌ حول ما إذا كان استخراج هذه الموارد حالياً أمراً مربحاً -ناهيك عن خطة إسرائيل، واليونان، وقبرص لبناء خط أنابيب شرقي البحر المتوسط لبيع الغاز للاتحاد الأوروبي (وهي خطةٌ تُقصي تركيا وأي فكرة عن شمالي قبرص الخاضعة للاحتلال التركي).

غير أن انهيار الليرة التركية يفوق تهاوي أسعار الغاز. وتركيا متعطشةٌ لنموٍ اقتصادي يعتمد على الموارد النفطية، وتحتاج، على نحوٍ عاجل، إلى عملات أجنبية لدعم عملتها المحلية بعد أن كانت تعتمد مؤخراً على الاحتياطات الدولارية القادمة من قطر. وفي هذا السياق، يبدو السعي وراء الثروة النفطية بديهياً.

غير أن هذا ليس واقع الحال. فالتنقيب عن الغاز وإنتاجه، خاصةً من قاع البحر، يتطلب استثمارات ضخمة مقدماً -هذا بخلاف التكلفة الجيوسياسية. وليس مفاجئاً أن تفضّل إسرائيل حالياً الطاقة الشمسية على محطات الطاقة، التي تعمل بالغاز في الوقت الذي تم فيه إيقاف جميع أنشطة الحفر (القانونية) قبالة سواحل قبرص.

لكن هذه العوامل لم تردع تركيا وهي تدعي بأن موقفها في الأزمة دفاعيٌ أكثر منه توسعيٌ، لكن بعض المعلقين أشاروا إلى الإستراتيجية التركية المسماة “مافي فاتان”، والتي تعني “الوطن الأزرق”، في شرقي البحر المتوسط. في أفضل الظروف، يتعلق الأمر بفرص هيمنة بحرية في المنطقة. وفي أسوأ الظروف، يتضمن موقف أنقرة مراجعة الحدود المتفق عليها في معاهدة لوزان عام 1923. ويُنظر إلى الالتزام التركي المتواصل بدعم شمالي قبرص الخاضع للاحتلال التركي بالإضافة إلى تقديم الليرة التركية إلى بعض المناطق في شمالي سوريا، التي تُسيطر عليها أنقرة، كدليل واضح على موقفها. لكن في ظل إقصاء تركيا من مشروع خط أنابيب شرقي البحر المتوسط ومعظم اتفاقات “المنطقة الاقتصادية الحصرية” في المنطقة، قد يكون تصميم أردوغان على موقفه بهدف حجز مقعد على طاولة المفاوضات أكثر منه السيطرة على أراضٍ أو موارد نفطية.

تحالفات إقليمية

رغم هذا، أثار الإصرار التركي، تلقائياً، خصوماً محتملين -بما فيهم اليونان، وقبرص، ومصر، وفرنسا، وأيضاً العراق، حيث تنفذ قوات تركية عمليةً كبيرة ضد حزب العمل الكردستاني، فضلاً عن إثارة خصومة الإمارات، التي تمثل رأس حربة في هذا التحالف.

وتواجه ملكيات الخليج ومصر تهديداً بسبب موقف قطر وتركيا الداعم لجماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى اتفاقات التعاون العسكري بينهما -كان آخرها تدشين منشأة بحرية في مدينة مصراتة، التي تعد معقلاً للثوار الليبيين. وتتدخل الإمارات أيضاً في الصراع الليبي، إذ أعلنت صراحةً مسؤوليتها عن هجومٍ أخير ضد قاعدة جوية في غربي ليبيا، إذ تقوم طائرات بدون طيار تركية بتنفيذ عمليات هناك دعماً لحكومة الوفاق الوطني. ويُظهر هذا، بالإضافة إلى الاتفاق الليبي- التركي الخاص بالمنطقة الاقتصادية الحصرية، أن صراع الغاز مرتبط بالحرب الأهلية في ليبيا ارتباطاً لصيقاً.

ويمكن رؤية اتفاقية السلام بين الإمارات وإسرائيل في ضوء هذا التوسع التركي -الذي تلتزم القدس بالصمت حياله بشكلٍ واضح. لكن إذا كانت إسرائيل تدعم هذا التحالف ضمنياً، فإن الموقف الأكثر حزماً يأتي من قوة أخرى في منطقة البحر المتوسط، يتزعمها رئيسٌ أعلن في عام 2019 أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) “مات دماغياً”، في إشارةٍ جزئياً إلى الغزو التركي لشمالي سوريا.

لم تكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت مصادفةً بأي حال من الأحول مثل الانفجار، الذي دمر العاصمة اللبنانية. وتعهد ماكرون والإمارات بتمويل إصلاح مرفأ بيروت، في محاولةٍ لاستباق العرض التركي. ولدى فرنسا حالياً اتفاقات عسكرية مع الإمارات، واليونان، وقبرص، ومصر، وجميعها تهدف إلى تحجيم أنشطة دولة عضو في حلف الناتو ومرشحة للحصول على عضوية في الاتحاد الأوروبي.

وبينما تحاول برلين الوصول إلى اتفاق متوازن في المواجهة بين تركيا واليونان، بقيت واشنطن، التي كانت ضامناً تقليدياً للسلام بين خصمي بحر إيجه، العضوين في حلف الناتو، صامتةً تماماً حيال الأزمة. وهناك شعور بأن كل الأطراف تريد الاستفادة من هذا الموقف، داخلياً وخارجياً، قبل انعقاد الانتخابات الأمريكية. والغريب أن هذا الفراغ، وليس الوقود الأحفوري هو ما يشعل الصراع بين الخصوم الإقليميين. وللأسف، يبدو أن الوضع الحالي سيشهد مزيداً من عدم الاستقرار في ظل الانسحاب الأمريكي، واستمرار موسكو في انتهاج سياسة حافة الهاوية الغامضة، وانقسام الاتحاد الأوروبي بشأن موقفه من تركيا.

“الآراء الواردة في هذه المقالة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر فنك”.