في 21 ديسمبر 2019، صدّق البرلمان التركي على صفقةٍ لتوفير دعم عسكري غير مباشر للحكومة الليبية. ويمثل هذا الدخول الأكثر صراحةً لقوة إقليمية أو دولية أخرى إلى مصفوفة الجهات الفاعلة المعقدة في الدولة الغنية بالنفط. يتضمن التزام تركيا خيار قوة التدخل السريع التركية التي يمكن للحكومة الليبية طلبها، بيد أن الاتفاق غامض حول معنى ذلك بالضبط. وفي حين اعترض حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيسي في تركيا، على الإتفاق، إلا أن حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان قدمت دعمها الكامل للاتفاق الثنائي.
ولكن من أين أتى هذا التعاون وماذا سيسفر عنه؟
منذ عام 2014، تم تقسيم ليبيا إلى قسمين تقريباً، حيث سيطرت قوات المشير خليفة حفتر، وهو عسكري قوي أعلن نفسه معادياً للإسلاميين فضلاً عن تحالفه مع مصر والإمارات العربية المتحدة، على النصف الشرقي من ساحل البحر المتوسط بالبلاد. بينما تتولى حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، إلى حدٍ كبير، حُكم النصف الغربي الساحلي ذو الأهمية الاقتصادية للبلاد. ومن الجدير بالذكر أن حكومة الوفاق الوطني، برئاسة فايز السراج، لم تتمتع قط بقبضةٍ عسكرية قوية على المنطقة، بيد أنها تتمتع بشرعية الدعم الدولي.
بينما تُسيطر حكومة الوفاق الوطني على العاصمة طرابلس، تحرس قوات حفتر محطات النفط والمراكز التجارية في بنغازي ودرنة. يعدّ الحزام الساحلي الجزء الأكثر اكتظاظاً بالسكان في البلاد وشهد أعنف قتالٍ خلال الثورة ضد معمر القذافي في عام 2011. وخلال هذا الفصل الجديد من النزاع المدني في البلاد، لا تزال المنطقة الساحلية المكتظة بالسكان وموطن المدن الليبية الكبرى، المكسب الرئيسي في حين يستمر القتال للظفر بالعاصمة.
ومع ذلك، لم يكن الصراع في ليبيا شأناً داخلياً بحتاً، فقد اغتنمت القوى الإقليمية الفرصة لدعم الجهات الفاعلة المفضلة لديها وإقامة علاقاتٍ مواتية مع الحكومة المستقبلية لتاسع أكبر احتياطي للنفط في العالم. فمن جهة، كانت روسيا تدعم حفتر بصمت، حيث قامت بنشر قوات المرتزقة في البلاد، بينما يبدو أن عبد الفتاح السيسي، وهو لواء سابقٌ أيضاً في مصر، يرى في القائد العسكري حفتر صديقاً مقرباً. وعليه، قد يناشد زميل قوي سابق في الجيش أمثال موسكو والقاهرة، لتعزيز شبكة حلفائها الإقليميين.
وعلى الجبهة المقابلة، شهدت حكومة الوفاق الوطني دعماً من أمثال تركيا وقطر (كان دعم القوى الغربية دبلوماسياً إلى حدٍ كبير)، إذ جاءت المساعدة من هذين البلدين إلى حدٍ كبير على شكل أسلحةٍ وطائرات بدون طيار، وبالتالي فإن احتمال “نشر قواتٍ برية” وكذلك تبادل المعلومات الاستخبارية يشكل تصعيداً كبيراً. فقد سعت تركيا إلى بناء علاقاتٍ مع جماعات المعارضة في أعقاب وفاة القذافي، بيد أن الانقسامات التي دار رحاها في السنوات الأخيرة قدمت فرصاً جديدة لتركيا لمساعدة إحدى الجماعات في الوصول إلى السلطة.
وعلى كلا الجانبين، التفاصيل حول ما أوجبه هذا الدعم، بصرف النظر عن الأدلة على المساعدات العسكرية التي كشفت عنها التحقيقات، ضئيلة. أدى الوضع الأمني الذي كان سائداً في ليبيا إلى خنق الكثير من التقارير الأجنبية في البلاد، وسمحت قبضة حكم القانون العنيفة بانتشار مجموعة واسعة من النشاط الإجرامي أو غير المنظم، ليس أقلها تجارة المهاجرين الأفارقة الضعفاء الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا. ويبدو أن هناك احتمال ضئيل بتأجج الصراع بين القوى الكبرى على ليبيا. ففي نهاية المطاف، بالكاد أسفرت سنوات من الحروب بالوكالة في سوريا واليمن (التي تضم بعض القوى الأجنبية نفسها كما هو الحال في ليبيا) عن مواجهات دولية أقل ما يُقال عنها أنها نادرة. ويبدو أن تركيا استبقت مثل هذه التوترات من خلال معالجة مصالح تركيا المتضاربة مع روسيا في اتصال هاتفي مع الكرملين في ديسمبر. ومع ذلك، لا يبدو أن هناك أي قرارٍ يلوح في الأفق.
يُنظر إلى قوات حفتر، إلى حدٍ كبير، على أنها القوة العسكرية الأكثر قدرةً (وبالتأكيد الطموحة) من بين الجانبين. فقد قامت القوات الموالية لحفتر، بدعمٍ من القوة الجوية المصرية والإماراتية، وذلك بحسب الأمم المتحدة، بعدة محاولاتٍ متضافرة للاستيلاء على طرابلس، وبموجب السيطرة على العاصمة؛ السيطرة على البلاد أيضاً. ومع ذلك، تمكنت قوات حكومة الوفاق الوطني من صد هذه الهجمات، وذلك بمساعدةٍ كبيرة من الإمدادات العسكرية من الحلفاء الأجانب مثل تركيا. لم يكن هذا مجرد عكازٍ للإتكاء عليه في العالم الدبلوماسي فحسب، حيث كان الحلفاء مثل تركيا أكثر الأصدقاء صراحةً بدعم حكومة طرابلس، فقد قدمت هذه القوى الإقليمية مساعدة مادية أكثر بكثير والتي لربما ضمنت بقاء حكومة الوفاق الوطني في مواجهة العدوان المدعوم من روسيا. في الواقع، قد تلعب هذه الصفقة الأخيرة دوراً في هذه المعركة الدبلوماسية، محذرةً حفتر ومؤيديه من قوة إرادة حكومة الوفاق الوطني. وحتى لو لم ترسل تركيا قواتها قط، فلربما يكون هذا التهديد كافياً لجعل حفتر يفكر مرتين بينما تواصل قواته محاولة الاستيلاء على طرابلس.
بعد أيامٍ فقط من الوعد باستخدام “قدرات تركيا لمنع التآمر ضد الشعب الليبي،” في إشارة إلى محاولات حفتر للاستيلاء على السلطة، أرسلت تركيا سفينةً بشكلٍ مباشر إلى طرابلس، التي كانت محملةً بناقلات الجنود المدرعة تركية الصنع لإيصالها لقوات حكومة الوفاق الوطني. وعلى الرغم من أن إمدادات الأسلحة هذه تخرق حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا، بيد أنه يبدو أن تركيا وحكومة الوفاق الوطني لم تبذلا الكثير من الجهد لإخفاء عملية النقل. كما زودت تركيا الليبيين بطائرات بيرقدار المنتجة محلياً في ثلاث مراتٍ على الأقل في عام 2019. وفي حين يعدّ تزويد أنظمة الأسلحة هذه المنتجة محلياً لحلفاء أنقرة ملائماً لها، إلا أنه أيضاً يخدم أهدافها الثانوية المتمثلة في تعزيز صناعة الدفاعات التركية (التي نمت بشكل كبير في عهد الرئيس أردوغان) واختبار هذه التقنيات الجديدة على أرض المعركة للمساعدة في المبيعات المستقبلية في أي مكانٍ آخر، ومن المحتمل لحكومة وحدة وطنية ليبية مستقبلية، في حال انتصرت حكومة الوفاق الوطني.
كما عرض أردوغان أيضاً إمكانية إرسال قواتٍ تركية إلى ليبيا منذ أوائل ديسمبر. ونظراً لالتزامات الجيش التركي في شمال سوريا والعراق، فإن انتشار الجيش التركي مرةً أخرى ليس بالمهمة السهلة ويعكس تصميم أنقرة على رؤية انتصار الجانب المفضل لديها.
الآراء والفرص الغنية بالنفط
إن موقف تركيا حول السلطة الشرعية في ليبيا واضح – فهي ترى أن حكومة الوفاق الوطني هي القوة الشرعية الوحيدة وسلطة حفتر مجرد انقلابٍ عليها – ولم تحصر وجهات نظرها في القنوات الحكومية الرسمية. كما اتخذت وكالة أنباء الأناضول التي تديرها الدولة مساراً مماثلاً، ووصفت حفتر بـ”الجنرال المارق” الذي يهدف إلى إنشاء “ديكتاتورية عسكرية.” وفي حين أن العديد من وسائل الإعلام الأخرى قد وصفت الجنرال الليبي بأمير الحرب، إلا أن صياغة وكالة الأناضول أقوى بكثير من معظمها، مما يعكس بالتأكيد الموقف السياسي المهيمن تجاه ليبيا في تركيا.
وفي المقابلة التلفزيونية التي أعلن فيها عن الانتشار العسكري في ليبيا، أوضح أردوغان أن تركيا ستدفع جميع التكاليف المرتبطة بالمهمة. ومن الجدير بالذكر أنه نادراً ما يتم تقديم مثل هذا العرض القيم دون احتمال الحصول على تعويض نقدي حقيقي، بالنظر إلى تدهور الوضع الاقتصادي في تركيا. بدلاً من ذلك، يبدو أن هذه الخطوة العسكرية هي شكل من أشكال الضمان لإيمان تركيا باستقرار حكومة طرابلس وأيضاً تبادلٌ أساسي للجنود الأتراك مقابل حقوق النفط الليبية. ويبدو أن مذكرتي التفاهم حول التعاون في مجال النفط والشؤون العسكرية التي وقّعها القادة الليبيون والأتراك في أواخر عام 2019 كانت صفقةً شاملة. قد يؤدي ذلك إلى جر ليبيا إلى التوترات المتزايدة في منطقة البحر المتوسط حول مطاردة تركيا العدوانية للنفط والغاز تحت سطح البحر. فقد أعلنت اليونان بالفعل أن صفقة النفط التركية الليبية لاغية وباطلة، وأثبتت تركيا بالفعل استعدادها لاستخدام دبلوماسية مدافع الأسطول لحماية مصالحها. وفي حال أصبحت علاقاتها بالطاقة مع ليبيا أكثر ترسخاً، فقد ترى تركيا قيمة في إرسال قواتها البحرية لحماية البنية التحتية للنفط والشحن المرتبطة بحكومة الوفاق الوطني.
كان لتوقيع الصفقة بين الحكومتين الرسميتين في تركيا وليبيا بعض النتائج الفورية (وإن كانت خافتة نسبياً). فقد أوقفت قوات خفر السواحل الموالية لحفتر وفتشت سفينة ترفع العلم الكاريبي والتي كانت تحمل على متنها شحنة غير مشروعة من الأسلحة الصغيرة واحتجزت لفترةٍ وجيزة بعض أفراد طاقمها التركي. وعليه، أعلن كلا البلدين عن إجراء تحقيقاتٍ بالشحنة، لكن مع وجود معلومات مستقلةٍ عن نقصٍ بإمدادات الأسلحة، تلوح رائحة الحرب في أرجاء ليبيا، مما يعني إفلات الجهات الفاعلة المحلية والأجنبية من العقاب. ومع وجود قوة أخرى مثل تركيا ضمن هذا المزيج، لا يبدو أن ليبيا باتت تقترب من السلام في حقبة ما بعد القذافي.