على الرغم من أن فرنسا تحاول فرض ثقافتها ولغتها، إلا أنها لا تسهل على الناس الانضمام إلى "الأسرة الفرنكوفونية" المزعومة.
علي نور الدين
منذ العام 1986، تحرص المنظمة الدوليّة للفرنكوفونيّة على عقد قمّتها بمعدّل مرّة كل عامين، على مستوى رؤساء الدول والحكومات الناطقة باللّغة الفرنسيّة، والمنضوية في المنظمة. لكن هذه السّنة، وعلى هامش قمّة المنظمة التي انعقدت في تونس خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2022، اختار الرئيس الفرنسي إمانيول ماكرون مصارحة الرأي العام، بالإعلان عن توجّسه من تراجع حضور الثقافة الفرنكوفونيّة في منطقة دول المغرب العربي، معلنًا عن مشروع لاستعادة موقعها في هذه الدول.
ومنذ إطلاقه لتلك التصريحات، أثار ماكرون زوبعة من النقاشات الإعلاميّة، حول أبعاد اهتمام فرنسا الشديد بالفرنكوفونيّة كرابطة تحمل طابعا لغويا وثقافيا شكلًا، لكنّها تنطوي على أدوار سياسيّة وإستراتيجيّة، تتصل بنفوذ فرنسا وهيمنتها في مستعمراتها السابقة.
كما فتحت التصريحات باب البحث عن أسباب تراجع الثقافة الفرنسيّة في هذه الدول، ومدى ارتباطها بأبعاد سياسيّة وتحوّلات ثقافيّة لدى بعض النخب هناك. وفي النتيجة، يمكن السؤال عن أثر كل هذه التحوّلات على دور المنظمة الدوليّة الفرنكوفونيّة، التي يفترض أن تمثّل المؤسسة الدوليّة الناظمة لتضامن الدول الناطقة باللّغة الفرنسيّة.
المنظمة الدوليّة للفرنكوفونيّة: فضاء ثقافي بأهدافٍ سياسيّة
عرف العالم مصطلح الفرنكوفونيّة لأوّل مرّة عام 1880، إثر استعماله من قبل الجغرافي الفرنسي أونسيم روكولو في ذلك الوقت، لوصف “الفضاء الجغرافي الجامع بين الناطقين بالفرنسيّة في العالم”، في إشارة إلى فرنسا والمستعمرات التابعة لها في مختلف أنحاء العالم. ومع ذلك، ظلّ المصطلح بعيدًا عن الاستخدام في الحياة السياسيّة طوال العقود التالية، ربما لعدم الحاجة إليه كرابط سياسيّ جامع خلال حقبة الاستعمار، التي فرضت خضوع المستعمرات لسلطة فرنسا بحكم الأمر الواقع.
بعد نيل المستعمرات السّابقة استقلالها تباعًا، وتحت وطأة الحاجة لتأطيرها ضمن مؤسسة جامعة مع فرنسا، تم إعادة إحياء المصطلح في أوّل مؤتمر رسمي للدول الفرنكوفونيّة عام 1960. في تلك المرحلة تم تبنّي الفرنكوفونيّة “على المستوى النظري” كرابط ما بين فرنسا وهذه الدول، التي حافظت على قاعدة كبيرة من الناطقين باللّغة الفرنسيّة بعد استقلالها.
ولعلّ توقيت هذا المؤتمر، بعد مرحلة استقلال هذه الدول مباشرةً، مثّل أولى الدلالات على الأبعاد السياسيّة لهذا الرابط، والتي تجاوزت حكمًا طابعه الثقافي المعلن. مع الإشارة إلى أنّ فرنسا كانت تحرص من خلال استقطاب مستعمراتها السابقة، بعد استقلالها، على الحؤول دون انجذاب هذه الدول باتجاه معسكر الدول الشرقيّة، الذي قاده في ذلك الوقت الاتحاد السوفياتي.
وعلى مدى العقد التالي، تم تأسيس اتحاد لجامعات هذه الدول، ومنظمة للبرلمانيين فيها، وفيدراليّة دوليّة للمعلمين الفرنكوفونيين، بالإضافة إلى مجلس دولي للغة الفرنسيّة. وفي النهاية، تم تتويج كل هذا المسار بتأسيس المنظّمة الجامعة بشكل رسمي سنة 1970، وذلك قبل أن يتم البدء بعقد القمم على مستوى الرؤساء ورؤساء الحكومات سنة 1986.
لاحقًا، وخلال حقبة التسعينات التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي، بدأت المنظمة الدوليّة للفرنكوفونيّة تلعب أدوارًا سياسيّة أعمق، بفعل خوف الحكومات الفرنسيّة المتعاقبة من تمدد النفوذ الأميركي دون ضوابط في كافة أرجاء العالم، بما في ذلك أفريقيا. ولهذا السبب، توسّعت عضويّة المنظمة تدريجيًّا لتشمل 54 عضوًا و7 شركاء و27 عضوًا مراقبًا، بعد أن اقتصرت عضويّتها في البداية على 21 دولة. ثم أخذت قمم المنظمة المتتالية بالتوسّع و التركيز على القضايا السياسيّة التي تهم فرنسا، محاولة تعميق العلاقات الإستراتيجيّة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة. وهذا تحديدًا ما جعل البعض يصف المنظمة اليوم كنادٍ سياسيّ يهدف إلى المحافظة على نفوذ فرنسا الدولي.
الفرنكوفونيّة كأداة نفوذ فرنسيّة في دول المغرب العربي
على مدى العقود الماضية، حافظت اللّغة الفرنسيّة على مكانة متقدمة في جميع دول المغرب العربي، بما فيها الجزائر التي رفضت حتّى اليوم الإنضمام إلى منظمة الدول الفرنكوفونيّة، وتونس والمغرب وموريتانيا المنتسبين للمنظمة. ومن خلال هيمنة لغتها، تحوّلت فرنسا إلى الفضاء الثقافي الذي تتنفّس من خلاله هذه الدول، والتي ظلّت الكثير من نخبها الفكريّة تعتمد على الفرنكوفونيّة كبوابة للإطلال على العالم.
ولهذا السبب تحديدًا بات الإعلام والأدب الفرنسيين يملكان تأثيرًا استثنائيًا على الحياة العامّة في تلك الدول، مقارنة بسائر اللّغات، بما فيها الإنكليزيّة الأكثر انتشارًا على مستوى العالم. باختصار، ثمّة أجيال من العرب في شمال أفريقيا من الذين تعايشوا مع الفرنسيّة، ليتكوّن عبرها وعيهم الثقافي والأكاديمي والمهني، حتى أصبحت الفرنكوفونيّة عنصرًا مؤسسًا في ثقافتهم.
في تقرير لمرصد اللّغة الفرنسيّة التابع للمنظمة الدوليّة الفرنكوفونيّة، أشار 52% من التونسيين إلى أنّهم يستخدمون اللّغة الفرنسيّة كلغة تواصل يومي، في مقابل 35% من المغاربة و33% من الجزائريين. وبهذا المعنى، لم تهيمن اللّغة الفرنسيّة على الحياة الثقافيّة في هذه البلدان فحسب، بل بلغت حد التأثير على لغة التواصل اليوميّة للمواطنين فيها. وعمليًّا، تدرك فرنسا أن الهيمنة على لغة التواصل، تعني في الوقت نفسه الهيمنة على وسائط تلقي الأفراد للمعلومات، ما يعطيها تأثيرًا استثنائيًا على الرأي العام في هذه البلدان.
إلا أنّ أهم ما في الموضوع، هو سطوة اللّغة الفرنسيّة كلغة للأعمال وتدريس العلوم والتواصل الدبلوماسي والإدارة العامّة وإدارة الشركات، وهو ما يعطي تلقائيًا المؤسسات الفرنسية الاقتصاديّة والسياسيّة أفضليّة استثنائيّة في علاقاتها مع دول وشعوب منطقة المغرب العربي. كما يعطي فرنسا أفضليّة استقطاب الأدمغة وأصحاب المهارات من هذه البلدان إلى فرنسا عند الحاجة إليها، في ظل إلمام أصحابها أساسًا باللّغة الفرنسيّة.
ومن هنا بالتحديد، يمكن فهم هواجس ماكرون المتعلّقة بتراجع حضور اللّغة الفرنسيّة في دول المغرب العربي. ومن هنا أيضًا، يمكن فهم حرص وزير الخارجيّة الفرنسيّة كارين كولونا وسفير الاتحاد الأوروبي ماركيس كورنارو، على توقيع مذكرة تفاهم مع وزير التربية التونسي فتحي السلاوتي، على هامش مؤتمر المنظمة الدوليّة للفرنكوفونيّة، بهدف تنفيذ برنامج “دعم المكتسبات اللّغويّة للتلاميذ”. فهذا البرنامج، الذي وافقت عليه تونس تحت وطأة حاجتها لقرض فرنسي بقيمة 200 مليون يورو، سيسمح بتكريس تدريس اللّغة الفرنسيّة كلغة أساسيّة في المدارس التونسيّة، وضمن معايير متفق عليها، بما يعالج هواجس ماكرون.
مع الإشارة إلى أنّ فرنسا تسعى منذ العام 2019 إلى تنفيذ إصلاح شامل لمنظومتها الخاصّة بنشر الفرنسيّة، عبر مضاعفة عدد التلاميذ الذين يرتادون أكثر من 500 مؤسسة تعليميّة فرنسيّة قبل العام 2030. كما تسعى فرنسا في الوقت نفسه إلى زيادة عدد فروع الجامعات الفرنسيّة في الخارج، للتمكن من منافسة الجامعات الأميركيّة المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، وتقديم خيار متابعة التعليم الجامعي باللغة الفرنسية للطلاب الفرنكوفونيين في المستعمرات الفرنسيّة السابقة.
أسباب تراجع الفرنكوفونيّة في دول المغرب العربي
مؤخّرًا، شهدت الفرنكوفونيّة تراجعًا ملحوظًا في دول المغرب العربي، دون أن تفقد هيمنتها المتقدمة، وهو ما أشار إليه ماكرون مؤخّرًا. وأسباب هذا التراجع، تبدأ بالتطلّعات البراغماتيّة لشريحة واسعة من الشباب، الساعين لمواكبة انتشار اللغة الإنكليزيّة كلغة عالميّة في مجالات العلوم والصّناعة والتكنولوجيا، وهو ما يدفعهم إلى استبدال الفرنسيّة بالإنكليزيّة في دراساتهم الأكاديميّة.
وفي الوقت نفسه، ساهم التباعد ما بين فرنسا وشعوب شمال أفريقيا، وسياسات التضييق على طالبي الهجرة أو تأشيرات الدخول من دول المغرب العربي، في زيادة نفور بعض أبناء هذه الدول من هيمنة اللغة الفرنسية على الحياة العامّة لديهم.
بصورة أوضح، كان هؤلاء يشعرون بأن فرنسا تريد تصدير ثقافتها ولغتها إليهم، دون أن تكون مستعدة لاستقبالهم كجزء من “العائلة الفرنكوفونيّة” المزعومة. وكان تصاعد الخطاب اليميني داخل فرنسا نفسها، وانشغال الأحزاب الفرنسية بالنقاشات حول الهويّة والهجرة والإسلام السياسي، عاملًا ضاغطًا بهذا الاتجاه أيضًا.
في النتيجة، لن تؤدّي هذه التطوّرات حتمًا إلى إضعاف دور المنظمة الدوليّة للفرنكوفونيّة على المدى القصير، إلا أنّها ستؤثر على هيمنة الفرنكوفونيّة داخل بعض دول المنظمة على المدى الطويل. وهذا التطوّر سيقلل حتمًا من سطوة فرنسا على هذه الدول، خصوصًا أن جزءا أساسيا من هذه السطوة يقوم على تأثير الثقافة الفرنكوفونيّة.
ولهذا السبب، على فرنسا أن تعيد النظر في علاقاتها مع شعوب دول المنظمة، بما يسمح ببناء تحالفات قائمة على المصالح المتبادلة، لا الهيمنة الثقافيّة وحدها.