وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حزب الله وداعش، ديكان في القفص اللبناني

داعش
مقاتلو داعش الذين اعتدوا على الجيش اللبناني والمدنيين في عرسال / Photo Arsal News

تعود أولى المواجهات المباشرة بين حزب الله اللبناني الشيعي والتنظيم السُني المتطرف الذي بات يعرف اليوم بدولة الإسلام في العراق والشام (داعش) إلى أواخر شهر أيار/ابريل من العام الحالي، حيث تمكن الأخير من السيطرة على بضع بلدات في منطقة القلمون السورية المحاذية للحدود اللبنانية. وقد دارت آنذاك معارك طاحنة بين الطرفين أفضت إلى تراجع داعش من المناطق التي كانت سيطرت عليها. وقد علق الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في ذلك الحين على انخراط حزبه في مواجهة داعش في سوريا قائلاً: “لو أننا لم نتدخل في سوريا في الوقت المناسب وفي الطريقة والكيفية المناسبتين.. لكان داعش الآن في بيروت”. ويعود تدخل حزب الله في سوريا لدعم نظام الأسد إلى عام 2012.

وإثر تلك المواجهات وضع حزب الله قواته وجهازه الاستخباري في حالة تأهب قصوى، فأقام الحواجز الأمنية على جميع مداخل الضاحية الجنوبية ـ معقل الشيعة والحزب في بيروت ـ تحسبا من قيام خلايا نائمة لداعش في لبنان بشن هجمات ضد الحزب، خاصة بعد موجة السيارات المفخخة التي ضربت مناطق الحزب في لبنان خلال الشهور الأخيرة وذهب كثيرون إلى الاعتقاد أن داعش كانت وراءها. وعلى مدى شهر تلى، ظلت المواجهة بين الطرفين محصورة في الأراضي السورية، خاصة تلك القريبة من الحدود مع لبنان.

لكن في شهر حزيران/يونيو الماضي، بثت داعش (أو “الدولة الإسلامية” كما تطلق على نفسها) شريطاً مصوراً يظهر خمسة رجال يدعون إلى “الجهاد” في سوريا، وقال أحد الجهاديين الذي ادعى أنه يحمل الجنسية البريطانية ويُكنى “أبو مثنى اليمني” متحدثاً الإنكليزية: “نحن لا نعترف بحدود… شاركنا في معارك الشام (سوريا الكبرى) وسنذهب إلى العراق في غضون أيام قليلة، سنقاتل وسنعود، وسنتجه إلى الأردن ولبنان”.
وبالفعل لم يستغرق الأمر سوى بضعة أيام حتى تحول إلى واقع، إذ أعلنت داعش رسميا في 25 حزيران/يونيو تمدّدها إلى لبنان، متبنية التفجير الانتحاري الذي ضرب فندق «دي روي» في منطقة الروشة بالعاصمة بيروت. وجاء تبني العملية في بيان أصدره التنظيم قال فيه أن التفجير استهدف مجموعة تابعة للأمن العام اللبناني “الموالي لحزب الله”. وتوعد التنظيم في بيانه حزب الله والجيش اللبناني بأن “ما هذا إلا أول الغيث فأبشروا بالمئات من الاستشهاديين والانغماسيين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.

السيطرة على عرسال

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي مطلع شهر آب/أغسطس الماضي وبين ليلة وضحاها، ظهر مئات المسلحين ممن أعلنوا انتماءهم إلى داعش وجبهة النصرة، المتحالفة مع تنظيم القاعدة، في بلدة عرسال اللبنانية القريبة من الحدود مع سوريا، واستطاعوا خلال ساعات قليلة وضع المدينة بأكملها تحت سيطرتهم، بعد أن شنوا هجوماً مباغتاً على المراكز الأمنية في المنطقة واحكموا قبضتهم على ثلاث منها. وجاء ذلك الاجتياح رداً على اعتقال مسؤول عسكري لداعش يدعى عماد جمعة خلال زيارته لمستشفى ميداني في عرسال قبل ذلك بثلاثة أيام.

إثر ذلك، استنفر الجيش اللبناني، وأطلق عملية عسكرية واسعة تحت مسمى “السيف المسلط” في تلك المنطقة التي حوت مئات النازحين السوريين الفارين من العنف في بلادهم. وسقط في المواجهات تسعة عناصر من الجيش اللبناني إلى جانب خمسة وعشرين جريحاً، بينما فقد ثلاثة عشر جندياً، اضافة الى سقوط ثلاثة مدنيين من البلدة. وعلى الجانب الآخر أشارت التقارير في حينه إلى مقتل أعداد كبيرة من مسلحي داعش في بلدة عرسال وما حولها.

شكلت تلك الحادثة أول ظهور علني وواسع لداعش في داخل الأراضي اللبنانية، ورغم تمكن الجيش اللبناني من تقويض وجود داعش في عرسال ، إلا أن وجود التنظيم لم ينته بالمطلق داخل لبنان.
تشير التقارير الإعلامية إلى أن معظم مسلحي داعش في لبنان ينتمون إلى جنسيات مختلفة، ولم يلاحظ إلى الآن انضمام أياً من الخلايا اللبنانية الإسلامية المتشددة إلى صفوف الدولة الإسلامية. كما لم تظهر التحقيقات الني أجرتها السلطات اللبنانية تورّط العديد من اللبنانيين في نشاط التنظيم في لبنان، لكن ذلك، وحسب كثير من استطلاعات الرأي، لا يعني عدم التعاطف مع داعش ووجود حاضنة له في العديد من المناطق اللبنانية ذات الأغلبية السنية. وقد أدت العملية التي قام بها الجيش اللبناني والممارسات التي نسبت إليه أثناءها من اعتقالات عشوائية طالت على نحو خاص أبناء الطائفة السنية وحرق خيم اللاجئين السوريين في عرسال والاعتداء بالضرب على النساء والأطفال والكهول إلى ازدياد التعاطف مع داعش وغيرها من الجماعات السنية المتطرفة في لبنان.

كانت وسائل الإعلام اللبنانية نشرت عقب اعتقال عماد جمعة ما وصفته باعترافاته خلال التحقيق معه لدى الأمن العام اللبناني، فنقلت عنه أن داعش كانت تسعى إلى إقامة دولة إسلامية في لبنان تمتد بين سهل البقاع والشمال اللبناني.

وحسب الباحث السياسي الدكتور طلال عتريسي فإن وصول داعش إلى لبنان استند بشكلٍ أساسي إلى “إنجازات التنظيم في العراق، لناحية سيطرتها على الموصل والتقدم في مناطق أخرى، وإلى فشلها في سوريا في إسقاط النظام وإنشاء دولة إسلامية بديلة”. ويرى عتريسي أن نجاح داعش في العراق “شجّع على فكرة التمدّد”، لكنه يقول إن تمدّدها في لبنان “لا يتخطى الإطار المعنوي، ولن يكون ميدانياً على غرار سوريا والعراق، وسيبقى محصورا في إطار توجيه ضربات لبيئة حزب الله والجيش اللبناني”.

ومع السيطرة الجلية لحزب الله على أغلب مفاصل الدولة في لبنان ومع الأخذ بعين الاعتبار الأيديولوجية المتطرقة لكل من حزب الله وداعش (تطرف حزب الله شيعياً وداعش سنياً)، فإن المواجهة الفعلية والأبرز تبقى في الحقيقة بين هذين الطرفين. ويمكن القول إنه على الساحة اللبنانية اليوم يشكل كل من هذين التنظيمين العدو الأول للآخر.

ويظهر هذا الأمر جلياُ في تصريحات مسؤولي حزب الله والخطاب الإعلامي الذي بات يتبناه مؤخراً. ففي خطاب ألقاه في شهر آب/أغسطس الماضي، دعا نصر الله إلى التضامن لمواجهة داعش وحذر من “التيار التكفيري (تكفير غيرهم من المسلمين)، الذي يتجلى بوضوح بداعش، التي تسيطر على أجزاء واسعة من سوريا والعراق، ويسعى للسيطرة على حقول النفط والأنهار وسدود رئيسية ولديه كميات كبيرة من السلاح والذخائر”. وأضاف نصر الله في خطابه آنذاك أنه “إذا تخلى من يريد عن المسؤولية، فنحن لن نتخلى ولن نهاجر إلى أي مكان في العالم وسنبقى هنا، وهنا سنحيى وإذا فرض علينا القتال وندفن هنا… ويمكننا أن نغير جميعاً مسار المنطقة كما حصل في حرب تموز 2006”.

لكن إلى الآن يبدو أن حزب الله يحرص على تجنب الظهور وكأنه يقود المعركة في مواجهة داعش داخل لبنان، تاركاً الجيش اللبناني في المقدمة، رغم تفوق حزب الله المعروف على الجيش اللبناني من ناحية التسليح والخبرة العسكرية إضافة إلى الدافع الأيديولوجي لتصفية وجود داعش في لبنان. وبنظر عدد من الخبراء فإن هذا التوجه يستند إلى عدم رغبة الحزب بمفاقمة الاحتقان الطائفي الشيعي السني في لبنان، بينما يزعم مراقبون آخرون أنّ القرار لم يكن قرار الحزب لوحده وأن تولي الجيش التصدي لداعش كان نتيجة تفاهمات إقليمية ودولية لنفس الغاية، وهي عدم توسيع الشرخ السني الشيعي في الداخل اللبناني. لكن، وفي نفس الوقت، يرى كثيرون أن هيمنة حزب الله السياسية في لبنان تجعل الحدود بين الجيش والحزب متماهية إلى حد ما.

وفي مجمل الأحوال لا يبدو في الوقت الراهن أن أياً من الطرفين قادر على اجتثاث الأخر سواء عسكرياً أم فكرياً من الساحة اللبنانية، كما لا يبدو أحد متفائلا بأن هذا الصراع سينهي قريباً أو بدون خسائر. في الواقع يجمع عدد كبير من المحللين أن المواجهة ستزداد شراسة في الفترة المقبلة.