أيقظت الطريقة الوحشية التي قتلت فيها جماعة تنظيم الدولة الإسلامية أو ما يُعرف بـ”داعش” الطيار الأردني برتبة ملازم، معاذ الكساسبة، نقاشاً عمره قرون حول القواعد الأساسية للفقه الإسلامي فيما يتعلق بقوانين الحرب.
واشتعل الناس في جميع أرجاء العالم الإسلامي وخارجه بسبب الطريقة الوحشية التي اتبعها التنظيم في إعدام الكساسبة، حيث أدان كبار الشخصيات وكبار رجال الدين من جميع الطوائف الإسلامية الأساسية وجميع المسلمين في بقاع العالم، هذا العمل الإجرامي.
وتبدو عملية القتل هذه غير منطقية، وبخاصة في الدين الإسلامي، إذ أنّ لجسم الإنسان قُدسية خاصة سواء كان حياً أو ميتاً. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل الحرق مناقضاً للإيمان ولم يسبق أن مارسه المسلمون من قبل. وعلاوة على ذلك، فإن الإنسان الذي يتنفس بغض النظر عن دينه/ دينها، يُعتبر من بني آدم، مما يعني أنّ مجرد كونه إنسان، يمنحه/ يمنحها الحق الحصري في الحياة والكرامة. ويُعتبر الحرق عقوبةً تحطّ من الكرامة فضلاً عن ممارستها منذ آلاف السنين من قِبل معظم الإمبراطوريات والحضارات وعلى وجه الحصر كعقابٍ لأسوأ الجرائم. وكان هذا هو السبب الجوهري الذي استخدمته “داعش” في تحولهم إلى هذا الشكل من العقاب. وبالترويج للكساسبة على أنه مرتدّ، منحت “داعش” نفسها رخصة تنفيذ عملية الإعدام الوحشية هذه.
القصاص
بالنسبة للغالبية العظمى من المسلمين، يُعتبر وسم الكساسبة بالمرتد من قِبل جماعة إرهابية إتهامٌ سخيف لا يستحق النظر أو التفسير، إلا أنه يُثير مسألة ما إذا كان الإعدام حرقاً شكلٌ جائز من أشكال القصاص، وهو مصطلح يُستخدم في اللغة العربية لمبدأ “العين بالعين”. من جهةٍ أخرى، اتهمت “داعش” في الفيلم الدعائي الذي أنتجته بعنوان “شفاء الصدور” والذي تصل مدته إلى 22 دقيقة، الطيار الأردني بحرق المدنيين الأبرياء بقنابل طائرته من طراز (إف- 16).
بالإضافة إلى ذلك، أصدرت الجماعة الإسلامية فتوى تبرر فيها بالدليل الشرعي استخدام الحرق. وتستند هذه الفتوى بشكلٍ أساسي على ابن تيمية، وهو عالمٍ مسلم من القرن الرابع عشر، حيث دعا إلى قتل الحكام المغول الذين اعتنقوا الإسلام ولكنهم استمروا في تطبيق القوانين التقليدية بدلاً من الشريعة الإسلامية. وسرعان ما أشار العديد من المعلقين أنّ “داعش” استخدمت حجة ضعيفة باعتماد رأي عالم دين من القرون الوسطى بدلاً من الإستناد إلى آية قرآنية أو حديثٍ عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، اللذان يعتبران لهما الأسبقية وفقاً لجميع مدارس الفقه الإسلامي. وأدان كبار رجال الدين السُنة مثل أحمد الطيب شيخ الأزهر في جامعة القاهرة، والدكتور سلمان العودة من المملكة العربية السعودية، وكذلك كبار رجال الدين الشيعة مثل آية الله العظمى علي السيستاني في العراق، هذا الفعل الذي لا يمتّ للإسلام بصلة. وذكر الكثير من علماء المسلمين الآخرين حججاً مضادة ذاكرين أدلةً دامغة من رواية أبو هريرة يذكر فيها أنّ النبي نهى عن الحرق بالنار، وهناك حديثٌ نقله أبو هريرة عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم إذ يقول ” النار لا يعذب بها إلا الله” (المصدر: صحيح البخاري (3016). وبالتالي يمثل هذا الحديث أمراً صريحاً ونهياً مطلقاً بأن العقوبة غير ملائمة للجزاء.
“داعش” وفتاوى خاصة بها
تبرز مشكلة كبيرة في محاربة أيديولوجية “داعش” إذ لا يتبعون أي سلطة سوى تلك التي يخلقونها بأنفسهم. وبالرغم من محاولات العديد من علماء الدين ليثبتوا أنهم على خطأ، باستشهادهم بالآيات القرآنية والتاريخ الإسلامي بل أيضاً توجيههم رسالة مفتوحة إلى أبو بكر البغدادي، إلا أنها جميعاً باءت بالفشل بسبب إعلان الخلافة في “الدولة الإسلامية” حيث بات لهم رجال دين خاصين ممن يُصدرون الأحكام وفقاً لأيديولوجية تنظيم “الدولة الإسلامية”. ومن الأمثلة المروعة التي تعكس مدى وحشية التنظيم قيام التنظيم وفقاً لوكالة رويترز بمعاقبة أحد رجال الدين التابعين لهم لإعتراضه على حرق الطيار الأردني. وهذا يعني أنه لا بد من محاربة “داعش” باتباع نهجٍ مختلف يعتمد على استعطاف قلوب وعقول أولئك الذين تجذبهم عقيدة التنظيم. ومن المفارقات، أنّ هذا بالضبط ما فعلته “داعش” عن دون قصد، فيما يتعلق بالطريقة الوحشية التي أعدمت فيها الكساسبة. وبالحديث من ناحية فقهية، تم إثبات موضوع الحرق إلى حدٍ كبير بين علماء الدين، إذ تُجمع الآراء على أنّ هذه من الممارسات الشاذة والمخالفة للإسلام. وأوضح بعض الفقهاء المسلمين أن الإعدام بالنار من الممارسات التي استخدمها العرب قبل الإسلام، وبأن بعض المسلمين قتلوا آخرين بالحرق، ولكن عندما سمع النبي محمد عليه السلام بهذا الأمر، نهى عن مثل هذا العمل. وبالتالي، وبالرغم من القصاص من الطيار بسبب الضربات الجوية وحرقه حياً كعقوبة له، يُعتبر مثل هذا الفعل محرماً.
نافذة الفرص
أسكت حرق الكساسبة حياً العديد من الأصوات المعارضة في الأردن، حيث أعتبر الشهيد ابن الأردنيين جميعاً. وعلى الرغم من أنّ الإخوان المسلمين لطالما عارضوا دعم الملك ومشاركة الأردن في التحالف الأمريكي ضد تنظيم “الدولة”، إلا أنهم لطالما أعلنوا دعمهم للتاج مثمنيين الإستقرار الذي يوفره للبلاد. واتخذوا من هذه الحادثة فرصة للنجاح في مسعاهم فاضحين الضعف الحقيقي للمملكة عن طريق اختيار مسار التحالف مع الولايات المتحدة، ولكن بعد حادثة قتل الطيار الأردني، بات جميع الأردنيين من جميع الأطياف والمستويات موحدين وغاضبين.
وفي الوقت الراهن، علا شأن أولئك الذين يدينون تنظيم الدولة بإعتباره “منظمة إرهابية شيطانية” (أحمد الطيب، شيخ جامعة الأزهر)، إذ تم توفير أسباب لذلك بسبب غطرسة تنظيم الدولة نفسه، الذي أدى بهم إلى الخطأ في تقدير تأثير مثل هذا القتل الوحشي على كل من المسلمين وغيرهم في جميع أرجاء العالم.