لقد سلطت الانتخابات الإيرانيّة الضوء على كفاح النظام للحفاظ على شرعيّته، مما ساهم في تعميق الانقسامات السياسيّة وعدم الاستقرار في إيران.
علي نور الدين
توجّه الإيرانيّون في آذار/مارس 2024 إلى صناديق الاقتراع، لاختيار 290 عضوًا في مجلس الشورى، الذي يضطلع بمهام السلطة التشريعيّة أو البرلمانيّة في إيران. كما شمل الاستحقاق انتخاب 88 عضوًا في مجلس خبراء القيادة، المسؤول عن تعيين المرشد الأعلى للجمهوريّة.
وبعد انتهاء الانتخابات، ظلّت هويّة الناجحين معلّقة بالنسبة لـ 44 مقعدًا في مجلس الشورى، بانتظار حسمها في الجولة الثانية خلال شهر أيّار/مايو 2024.
إذ ينص قانون الانتخابات الإيراني على إعادة الانتخابات البرلمانيّة في الدوائر التي لم يحظ فيها المرشحون على نسبة تفوق الـ 20% من إجمالي عدد المقترعين.
ومع ذلك، حملت نتائج الانتخابات الكثير من الدلالات السياسيّة، التي تؤشّر إلى بعض التحولات التي شهدتها إيران مؤخرًا.
حساسيّة توقيت الاستحقاق الانتخابي
قبل الدخول في نتائج الانتخابات ودلالات تلك النتائج، من المهم الإشارة إلى أنّ توقيت هذا الاستحقاق يتخذ طابعًا استثنائيًّا بالنسبة للنظام الإيراني، إلى حدٍ يسمح باعتباره امتحانًا لمشروعيّة هذا النظام واستمراريّته.
فهذا الاستحقاق، يأتي عقب موجة الاحتجاجات الشعبيّة العارمة التي اندلعت في سبتمبر/أيلول 2022، التي أشارت بالنسبة لكثيرين إلى اتساع الهوّة ما بين قيم النظام ونمط حياة الشرائح الشبابيّة الصاعدة. ومن المعلوم أنّ اندلاع تلك الاحتجاجات جاء إثر مقتل الشابّة مهسا أميني، بعد اعتقالها من قبل الشرطة بذريعة عدم ارتدائها الحجاب بشكل لائق.
بصورة أوضح، ورغم محدوديّة الصلاحيّات التي يملكها البرلمان أو مجلس الشّورى، مقارنة بالسلطات التشريعيّة في الدول الديمقراطيّة الغربيّة، انتظر الإيرانيون نتائج تلك الانتخابات لقياس نسبة المشاركة الشعبيّة فيها، انطلاقًا من نسب الاقتراع.
فهذه النسب، من شأنها أن تدل على مدى انخراط المناطق الإيرانيّة المختلفة في اللّعبة السياسيّة، في ظلِّ النظام الإسلامي القائم وشروطه.
وعلى مستوى انتخابات مجلس خبراء القيادة، اكتسبت نتائج الاستحقاق أهميّة خاصّة في هذا التوقيت بالذات. فولاية هذا المجلس المكوّن من فقهاء ورجال دين، ستمتد إلى ثماني سنوات، فيما يمتلك أعضاؤه صلاحيّة تعيين المرشد الأعلى للنظام، الذي يُعتبر أعلى سلطة سياسيّة ودينيّة في إيران.
وفيما يقترب عُمر المرشد الحالي علي خامنئي من 85 سنة، من المرجّح أن ينخرط أعضاء المجلس الجديد خلال ولايتهم الراهنة والطويلة في مهمّة البحث عن خلف لخامنئي، مع كل ما يتصل بهذه المهمّة من تجاذب بين التيّارات المؤثّرة داخل النظام الإسلامي.
بهذا الشكل، ترقّب الرأي العام الإيراني نتائج انتخابات مجلس خبراء القيادة، لتلمّس توازنات القوّة بين تيّارات النظام عينه، والتي من شأنها أن تحدّد هويّة المرشد المقبل.
مع الإشارة إلى أنّ الساحة الإيرانيّة شهدت طوال السنوات الماضية تكهّنات متضاربة بخصوص المرشّحين الأوفر حظًا لتولّي هذه المسؤوليّة، من دون أن يتم حسم هذا التجاذب حتّى اللحظة.
وهذا ما يختلف جذريًا عمّا جرى عام 1989، حين جرى تحضير خامنئي لخلافة المرشد الراحل الخميني قبل وفاته، عبر تعديل الدستور وحذف شروط معيّنة كانت تعيق وصول خامنئي للمنصب.
إقصاء الإصلاحيين والمعارضة من الانتخابات
ثمّة خصوصيّة لقوانين الانتخابات الإيرانيّة، بما يجعلها تختلف عن سائر أشكال الانتخاب الحر وغير المقيّد في بقع أخرى من العالم. إذ يمتلك مجلس صيانة الدستور صلاحيّة استنسابيّة تسمح بإبطال عدد غير محدود من الترشيحات لمجلسي الشورى وخبراء القيادة، ويمكن إبطال الترشيحات بمجرّد شك المجلس أو عدم تيقّنه من ولاء المرشّح لقيم النظام ومبدأ ولاية الفقيه.
وبحسب الدستور الإيراني، يُعيّن نصف أعضاء هذا المجلس من قبل المرشد الأعلى نفسه، بينما يعيّن نصفهم الآخر بموجب توصية من رئيس السلطة القضائيّة، المُعيّن بدوره من المرشد أيضًا.
وتمامًا كما فعل في الدورة الانتخابيّة السابقة، أبطل المجلس خلال الدورة الانتخابيّة الراهنة معظم ترشيحات الإصلاحيين والتنظيمات المعارضة، التي تدفع في العادة باتجاه قيم أكثر انفتاحًا مقارنة بالتيّار الأصولي. وبحسب الأرقام الصادرة عن المجلس عينه، تم إبطال أكثر من 48% من الترشيحات التي جرى التقدّم بها، لمناصب مجلسي الشورى وخبراء القيادة.
أمّا المؤشّر الأهم، فكان منع 26 نائب في مجلس الشورى عينه، من المشاركة في الانتخابات، بسبب رفضهم المشاريع والخطط المرتبطة بحظر مواقع التواصل الاجتماعي وفرض الحجاب.
بناءً على ذلك، وبعد إقصاء هذه النسبة من المرشحين، لم يتجاوز عدد مرشحي التيّار الإصلاحي والمعارضة حدود الـ 30 مرشّحًا، فيما يبلغ عدد مقاعد مجلس الشورى 290 مقعدًا.
وهذا ما جعل المنافسة الحقيقيّة تقتصر على تيّارات الأحزاب الأصوليّة والمتشدّدة، بينما اختارت غالبيّة الحركات الإصلاحيّة الابتعاد عن السباق الانتخابي. وكنتيجة طبيعيّة لهذه الأجواء، التي أبعدت شرائح مهمّة من المجتمع الإيراني عن الاستحقاق الانتخابي، أظهرت استطلاعات الرأي أنّ أكثر من نصف الإيرانيين لا يبالون بالاقتراع، ما انعكس على نسبة المشاركة لاحقًا.
وقبل نهار الانتخابات، بدا لافتًا إقصاء أبرز رموز التيّار الإصلاحي، رئيس الجمهوريّة السابق حسن روحاني، عن الترشّح لمجلس خبراء القيادة. وكان من الواضح أن استبعاد روحاني جاء بهدف إبعاد الإصلاحيين عن أي مشاركة في عمليّة اختيار المرشد الأعلى في المستقبل، وهذا ما دفع روحاني لوصف القرار بأنه جاء “لدوافع سياسيّة لصالح بعض الأشخاص”، في إشارة إلى خصومه من قادة التيّار الأصولي.
مشاركة هزيلة جدًا
هكذا، جاء الاستحقاق الإنتخابي بعيدًا عن التعبير عن الديناميّات التي ظهرت في الشارع الإيراني مؤخرًا، خلال الاحتجاجات الأخيرة، بعدما تم حصر المنافسة بالفئات الأكثر ولاءً للنظام القائم.
ولذلك، تدنّت نسبة المشاركة في الإنتخابات الإيرانيّة إلى 41% فقط، ما شكّل أدنى نسبة مشاركة في الانتخابات منذ انتصار الثورة الإسلاميّة عام 1979.
أمّا المؤشّر الأخطر بالنسبة للنظام الإيراني، فكان تدنّي نسب المشاركة إلى 24% فقط في العاصمة طهران، التي تمتاز بطبقة وسطى واسعة ومؤثّرة ومنفتحة.
وهكذا، لم تتجاوز حصيلة أصوات الفائز الأوّل في مدينة طهران ثلث نظيرتها في الدورة الانتخابيّة السابقة عام 2020، ما دلّ بوضوح على تأثير تراجع المشاركة الشعبيّة في الانتخابات الراهنة.
في المقابل، ارتفعت نسبة الأصوات الباطلة إلى 8%، وهذا ما عبّر عن حجم الأصوات الإعتراضيّة التي ذهبت إلى مرشّحين تم إبطال ترشيحاتهم، من قبل مجلس صيانة الدستور.
وفي العديد من الدوائر الإنتخابيّة، احتلّت الأصوات الباطلة –في انتخابات مجلس الشّورى- المركز الأوّل أو الثاني، في مقابل تشتّت الأصوات الصّحيحة بين سائر المرشّحين واللّوائح.
عمليًا، وبعد أن تحوّلت انتخابات مجلس الشورى إلى منافسة بين أجنحة التيّار الأصولي، تقدّم في الانتخابات الجناح الأكثر تطرّفًا داخل هذا التيّار. ومن هذا الجناح مثلًا حزب بايداري، الذي يرفض بشدّة أي تنازلات في المسائل المرتبطة بحقوق المرأة، والداعي إلى مواقف متشدّدة ثقافيًا واجتماعيًا.
كما تصدّرت قوائم الأصوليين وجوه مثل السياسي الإيراني محمود نبويان، الذي اشتهر عام 2015 بإحراقه نص “الاتفاق النووي” من على منصّة البرلمان، رفضًا لأي تسوية تحد من تقدّم إيران في مسارها النووي. في المقابل، غابت عن قوائم الفائزين الوجوه الأصوليّة المخضرمة والبراغماتيّة –والأقل تطرفًا- مثل محمد باقر نوبخت ومحمد رضا باهنر.
وعلى مستوى مجلس خبراء القيادة، أطاحت النتائج بالمرشّح آية الله لاريجاني، الذي كان يُنظر إليه كأحد المرشّحين المحتملين لخلافة علي الخامنئي في منصب المرشد.
وبذلك، تلقت أسرة لاريجاني –ذات النفوذ الكبير في إيران- ثاني ضربة قاسية لها، بعدما رفض مجلس صيانة الدستور عام 2021 ترشّح أحد أعضائها علي لاريجاني إلى رئاسة الجمهوريّة، رغم ترؤسه مجلس الشورى لأكثر من 12 سنة متتالية.
في النتيجة، أفضت الانتخابات إلى تعويم الشرائح الأكثر تشدّدًا داخل مجلسي الشورى وخبراء القيادة، في مقابل زيادة الفجوة التي تفصل النظام الإيراني عن الكثير من الفئات الاجتماعيّة التي شاركت في الاحتجاجات الأخيرة.
ويمكن القول أيضًا إنّ النظام الإيراني فشل في تجديد شرعيّته من خلال هذه الإنتخابات، بعدما أثبت تدنّي نسب الاقتراع عدم تقبّل أوساط واسعة من الرأي العام لقواعد اللعبة التي حاول النظام فرضها.
ولذلك، تتجه العديد من التحليلات إلى توقّع المزيد من الإضطرابات السياسيّة، الشبيهة بالاحتجاجات الأخيرة، جرّاء انسداد الأفق السياسي، وعدم استعداد المؤسسات الدستوريّة لاستيعاب الكثير من التحوّلات الاجتماعيّة الحاصلة في البلاد.