وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

منهجية إعلامية قطرية جديدة لاستضافة كأس العالم

بينما تعاطت غالبية وسائل الإعلام الغربية بصورةٍ سلبية مع تنظيم قطر لبطولة كأس العالم، فقد سعت الإمارة الخليجية لتطبيق سياسة إعلامية مغايرة.

منهجية إعلامية قطرية جديدة
صورة تم التقاطها يوم 20 نوفمبر 2022 لتميمة مونديال قطر “لعيب” أثناء مراسم افتتاح كأس العالم. المصدر: KARIM JAAFAR / AFP.

خالد محمود

بينما تعاطت غالبية وسائل الإعلام الغربية بصورةٍ سلبية مع تنظيم قطر لبطولة كأس العالم، فقد سعت الإمارة الخليجية لتطبيق سياسة إعلامية مغايرة. قطر التي لطالما أجادت توظيف الإعلام في معاركها الإقليمية أجرت تغييرات تكتيكية طارئة لاحتواء حملة إعلامية ودعائية غير مسبوقة سعت للنيل من إنجازها في استضافة هذه البطولة.

توظيف الإمكانيات

قبل سنوات عديدة، أبلغني سفير قطر السابق في القاهرة محمد بن حمد آل خليفة أن لا داعي للنظر إلى بلاده بلغة الأرقام التي تتحدث عن المساحة والسكان. حينذاك، أراد الرجل الإشارة إلى أن الدور السياسي والإستراتيجي لأي بلد لا يشترط وضعا جغرافيا أو سكانيا معينا، بقدر ما يشترط بالأساس القدرة على لعب هذا الدور وامتلاك ناصية أدواته.

وتؤكد استضافة قطر لكأس العالم أن الأحلام السياسية والإستراتيجية منوطة بوجود إرادة سياسية وبعد نظر، ناهيك عن الإمكانيات المادية. واستطاعت قطر دخول التاريخ عبر توظيف إمكانياتها المالية والإعلامية لتحقيق تطلعاتها. وتعتبر الإمارة الخليجية الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة أول دولة في منطقة الشرق الأوسط تستضيف كأس العالم.

لكن الطريق إلى تحقيق ذلك لم يكن سهلا على الإطلاق، على الرغم من إجادة قطر توظيف نفسها على الدوام كمركز رياضي. وللوصول إلى تنظيم بطولة كأس العالم، استضافت قطر ما يزيد عن 500 حدثاً رياضياً دولياً على مدى السنوات الماضية.

وبما أنها تجيد نسبيا توظيف أوراق الضغط التي تتمتع بها، فقد كرست قطر مكانتها الإقليمية والدولية عبر باستضافة العديد من أرفع الأحداث الرياضية. وكسرت الإمارة الخليجية حاجز الارتباط التقليدي لموقع الأنظمة الرياضية العالمية بشمال العالم. وأنهت إبعاد دول الخليج الصغيرة إلى مواقع هامشية.

ولم يكن من باب المصادفة أن يتزامن الإعلان عن استضافة قطر لكأس العالم مع موجة عارمة من الانتفاضات والاحتجاجات المناهضة لحكومات دول الشرق الأوسط. حينذاك، دعمت قطر ثورات “الربيع العربي” بالمال والإعلام وحتى بالسلاح لإسقاط بعض الأنظمة العربية.

ومع وصول الأمير تميم بن حمد آل ثاني إلى سدّة الحكم، قرّرت الدوحة التحوّل إلى سياسة خارجية جديدة تعيد تمركزها على المستوى الإقليمي. واستندت السياسة الخارجية الجديدة على أسس تتخطى المنحى القديم الرامي لأن تصبح قطر قوة إقليمية.

إستراتيجية الرياضة والإعلام

باتت قطر أقل تصادمية وأكثر تركيزًا على الوساطة والدبلوماسية. وسبقت إستراتيجيتها الرامية لتعزيز حضورها الدولي عبر الاستفادة من الرياضة سعيها لاستضافة كأس العالم بسنوات عديدة.

ومثّل الإعلان عن فوز قطر بتنظيم كأس العالم المرة الأولى التي تقام فيها أكبر بطولة كرة قدم في العالم في دولة عربية على الإطلاق. وربما كان هذا دافعا لكي تفكر دول أخرى مثل مصر والسعودية في تكرار التجربة لاحقا. وتحدثت تقارير عن اعتزام البلدين التقدّم بطلب مشترك مع اليونان لاستضافة كأس العالم 2030. وجاءت هذه الفكرة بعد عقد محادثات على مستويات حكومية رفيعة بين الدول الثلاثة.

منذ البداية، لاحت شكوك بشأن قدرة قطر على التنظيم، لكنها سرعان ما نجحت في إنفاق 200 مليار دولار أمريكي لتعزيز بنيتها التحتية.

في خطابه أمام مجلس الشورى، لفت أمير قطر إلى تعرض بلاده “لحملة غير مسبوقة لم يتعرض لها أي بلد مضيف لكأس العالم، وتضمنت افتراءات وازدواجية معايير”.

وقال الأمير تميم في خطابه: “تبيّن لنا أن الحملة تتواصل وتتسع وتتضمن افتراءات وازدواجية معايير حتى بلغت من الضراوة مبلغاً جعل العديد يتساءلون للأسف عن الأسباب والدوافع الحقيقية من وراء هذه الحملة”.

ملاحظات أمير قطر مثّلت نقلة نوعية في إستراتيجية الدوحة للرد على ما تصفه بحملات دعائية ضدها. وانبرى البعض للتأكيد على أنها حرب عنصرية، باعتبارها تعبيراً عن “شعور بفوقية العرق الأوروبي الأبيض وعنصريته وغيرته تجاه كل ما هو عربي وإسلامي”.

وكانت الدوحة قد استدعت السفير الألماني لديها للاحتجاج على تصريحات أدلت بها وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر حول تنظيم كأس العالم. وقالت فيزر إن سجل حقوق الإنسان في أي بلد يجب أن يؤخذ في الاعتبار لتقرير ما إذا كان سيتم اختيارها لاستضافة كأس العالم. واعتبر وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن هذه التصريحات تنم “عن غطرسة وعنصرية”.

ولاحظت وسائل إعلام قطرية رسمية أن هذه الحملات الممنهجة تهدف للنيل من سمعة قطر وإفساد المونديال. وانخرط الإعلام القطري في الرد على بعض الانتقادات الأوروبية.

وانتقلت الدوحة من الدفاع إلى الهجوم، عبر حملة إعلامية مضادّة، حيث مثل خطاب الأمير وملاحظاته نقطة تحوّل في طريقة المواجهة.

وواجهت قطر صعوبات كبيرة لإقناع الإعلام العربي بمناصرتها في ظل ما وصفته بـ “حرب تخويف غربية غير مبررة”. ولكسب ود وسائل الإعلام العربية، أطلقت الدوحة حملة دعائية لتحسين صورتها وتأكيد طموحها غير المحدود لتحقيق نجاحٍ باهر في تنظيم كأس العالم.

تصورات نمطية

بدأت قطر في الاحتفاء بالتقارير الإعلامية الدولية التي تشير لها كمركز رياضي وسياسي واقتصادي في منطقة الشرق الأوسط. كما سعت الدوحة لتفنيد الانتقادات الموجهة إليها.

تراهن قطر على أن تكون البطولة نسخة لا مثيل لها عبر التاريخ، والأكثر احترافية. ومن وجهة نظر رسمية، ترى قطر كأس العالم فرصة مثالية لتغيير التصورات النمطية عنها وعن المنطقة، ناهيك عن كونها فرصة للرد على الحملات الإعلامية المناهضة لها.

يأتي ذلك في الوقت الذي أكد فيه البيان الختامي للقمة العربية بالجزائر على مساندة قطر. ولفت البيان إلى ثقة العرب التامة في قدرة الدوحة على تنظيم نسخة متميزة لهذه التظاهرة العالمية. كما شدّد رفضه المطلق لحملات التشويه والتشكيك المغرضة التي تطال قطر.

إعادة تموضع

منهجية إعلامية قطرية جديدة
أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ملوحاً للحشود لدى وصوله مع رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جياني إنفانتينو لحضور مباراة قطر والإكوادور يوم 20 نوفمبر 2022. المصدر: KARIM JAAFAR / AFP.

دعا مجلس وزراء الإعلام العرب لدعم قطر إعلاميا وتسليط الضوء على هذا الحدث العالمي في جميع وسائل الإعلام العربية، وإبراز التجهيزات والجهود التي تقوم بها.

وسعت قطر التي أعادت موضعة بعض وسائل الإعلام التي تمولها لتجييش الإعلام العربي لصالحها في هذه المواجهة، على اعتبار أنه “مونديال العرب، وليس قطر فقط”.

وانبرت منصات عربية وخليجية للدفاع عن قطر وتصوير انتقادات الإعلام الغربي لها على أنها “نابعة من كراهية العرب والمسلمين”.

وطرحت أيضا نقاشات بيزنطية حول كيفية مواكبة الإعلام الرياضي العربي لكأس العالم في قطر. وتزامن ذلك مع محاولة إثبات وجود تناغم بين الإعلام العربي، مقابل انقسام الإعلام العالمي حول استضافة قطر لكأس العالم.

وعمدت وسائل إعلام عربية رسمية وغير رسمية إلى تغيير بوصلتها في اللحظات الأخيرة لصالح قطر. وجاء ذلك عبر مقالات وتقارير اكتفت فيها بنقل وجهة النظر القطرية الرسمية، دون التطرق إلى جوهر الاختلاف مع وسائل الإعلام الغربية.

وبطبيعة الحال، لم يخلو الأمر من سذاجة مفرطة في تصوير الأمر على أنه معركة إعلامية تظهر الصراع بين “الخير والشر” أو بين “الإيمان والكفر”.

واستغل وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن زيارته لبعض العواصم الغربية، لإجراء مقابلات مع وسائل إعلام أوروبية ردّ فيها على الاتّهامات الموجّهة لبلاده.

تبع ذلك تصعيد عبّر عنه وزير العمل القطري علي بن صميخ المرّي لوكالة الصحافة الفرنسية بقوله أنهم “لا يريدون السماح لدولة صغيرة، عربية مسلمة، أن تنظّم كأس العالم. ولا يعترفون بالإصلاحات التي حصلت، لأنّ دوافعهم عنصرية”.

اتهامات بالجملة

اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش قطر بأن الإصلاحات التي أدخلتها لم تفكك نظام الكفالة برمته. وأشارت المنظمة إلى تقارير عن حالات وفاة لعمال مشكوك فيها.

وترى هيومان رايتس ووتش أن الفيفا منح قطر حق تنظيم البطولة دون بذل العناية الواجبة لحقوق الإنسان. كما أكدت هذه المنظمة أن قطر لم تضع أي شروط لحماية العمال الوافدين اللازمين لتشييد البنية التحتية الضخمة. وتجدر الإشارة إلى مصادقة بعض مسؤولي الإدارة الأمريكية على هذا الطرح مؤخراً.

وسعت قطر إلى تفادي صدام محتمل مع مجتمع الميم عبر التأكيد على ترحيبها بالجميع، بغض النظر عن ميولهم الجنسية أو خلفياتهم، شريطة عدم الإعلان عن هذه الميول.

في المقابل، أشادت ندوة نُظّمت على هامش مؤتمر العمل الدولي بجنيف بالتقدم الذي حققته قطر في رعاية وحقوق العمال وحقوق العمال قبيل استضافة كأس العالم.

وبطبيعة الحال، ليست هذه أول مرة تتعرض فيها الدول المنظمة لأحداث رياضية كبرى لحملات إعلامية. ويمكن القول إن التعاطف العربي مع قطر إعلاميا اكتسب الطابع شبه الرسمي وليس الشعبي، بفضل إرث العقد الأخير من الشكوك حول سياسة قطر الخارجية.

وتم إظهار قطر في الخطاب الإعلامي الغربي في صورة الشرق العجائبي عبر استحضار الطباع الغرائبية والأوصاف المتخلفة.

هذا النهج، كما يصفه البعض، يعكس حقيقة أن الإعلام الغربي الذي لا زال حبيس خطاب الاستشراق، ويرسم صورة متناقضة لملامح قطر.

وفقا لما قالته ألاينا ليلويا، المتخصصة في حقوق الإنسان وقضايا المرأة في بلدان الخليج، فإن الجزء الأكبر من النقاش الدائر حول الحدث في الإعلام الغربي ركّز على الهواجس المتعلقة بالزوار الذين ينتمون إلى مجتمع الميم، ومعاملة العمّال الوافدين، وقواعد استهلاك المشروبات الكحولية.

في المقابل، رأت صحيفة الغارديان البريطانية أن تنظيم بطولة كأس العالم في قطر شوّه صورة كرة القدم أكثر من تحسينه لصورة قطر. وأشارت الصحيفة إلى تصاعد القلق مع الكشف عن معاملة العمال المهاجرين وتسليط الضوء على قوانينها المناهضة للمثليين.

في المقابل، تعتقد فاطمة النعيمي، المدير التنفيذي لإدارة الاتصال بالهيئة المشرفة على تنظيم البطولة، أن هذه فرصة مثالية لتصحيح التصورات الخاطئة، والصور النمطية عن مجتمعنا وثقافتنا.

ومع ذلك، وعلى طريقة النيران الصديقة، واصلت وسائل إعلام إماراتية التساؤل حول الجدوى الاقتصادية من مونديال قطر بميزان المكسب والخسارة. وعبّر باحث سعودي عن أن الوقائع السابقة تشير إلى أن المنفعة الاقتصادية من استضافة كأس العالم مشكوك فيها. وبحسب هذا الرأي، فإن الحديث عن المنفعة الاقتصادية لا يعدو عن كونه مجرد وسيلة لتسويق ملف الاستضافة، علماً بأن الفائدة الاقتصادية كلها تعود على الفيفا نفسه، وليس على الدولة المستضيفة.

وإذا كان صحيحا أن بعض الفعاليات الضخمة تحقق مكاسب كبيرة ومؤكدة للدول المستضيفة، فإن حديث المال لم يكن ما يشغل بال صانع القرار في قطر. وبكلماتٍ أخرى، فقد سعت الدوحة لتوظيف الرياضة لصنع صورة نمطية وإعلامية جديدة.

الدوحة التي مثلت منصة للتغيير الدراماتيكي الذي نجت منه دول عربية، ووقعت ضحية له دول أخرى، استغلت كأس العالم لبناء سياسة إعلامية وخارجية مغايرة.

وربما كان الرئيس المصري الراحل حسنى مبارك ساخرا للغاية عندما وصف قناة الجزيرة، الذراع الإعلامي الرئيسي لقطر، عندما تساءل في زيارته لمقرها قائلا بعاميته الشعبية اللاذعة “هي علبة الكبريت دي هي اللي عاملة لينا الإزعاج؟”. لكن المؤكد أن مبارك، الذي لعبت الجزيرة دورا مهما وخطيرا في إسقاط نظامه السياسي، فشل في إقناع أحد بملف بائس لاستضافة كأس العالم في مصر.