في الرابع والعشرين من مايو 2014، انتهت ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك العماد ميشال سليمان دون أن ينجح المجلس النيابي بانتخاب رئيس جمهورية جديد، فخرج رئيس الجمهورية من قصر بعبدا مخلفاً فرغاً رئاسياً. فالبلاد كانت وما زالت منذ العام 2005 منقسمة بين تياريين سياسيين أساسيين، قوى الرابع عشر من آذار المؤلفة بشكل أساسي من تيار المستقبل السُني، والقوات اللبنانية المسيحية، وحزب الكتائب المسيحي وبعض المستقلين بالإضافة إلى الحزب التقدمي الإشتراكي الدرزي برئاسة النائب وليد جنبلاط الذي عاد وتخلى عنها في مرحلة لاحقة. ومن جهة ثانية قوى الثامن من آذار المؤلفة من حزب االله الشيعي، وحركة أمل الشيعية، والتيار الوطني الحر المسيحي بالإضافة إلى تجمع من بعض القوى الأخرى.
من هذا المنطلق كان رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع، مرشح قوى الرابع عشر من أذار الرسمي للإنتخاب الرئاسية، في المقابل كان العماد ميشال عون رئيس التيار الوطني الحر وزعيم أكبر كتلة مسيحية نيابية في البرلمان اللبناني المرشح المعلن لقوى الثامن من آذار. يومها كان الفريقان السياسيان متمسمكان بمرشحيهم والمشاريع السياسية التي يحملونها، لكن فريق الثامن من أذار امتنع عن حضور جلسات إنتخاب الرئيس في المجلس النيابي متمسكاً بحقه بتعطيل النصاب المطلوب في الدستور اللبناني لإنتخاب الرئيس، متذرعاً بحقه الديمقراطي بتعطيل الإنتخابات إن كان ذلك سيمنع مرشح فريق الخصم من الوصول إلى الرئاسة.
وعلى مدار عامين، وبعد ستة وثلاثون جلسة دعا إليها رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري من ذلك اليوم حتى يومنا هذا، لم ينجح المجلس النيابي، الذي مدد لنفسه للمرة الثانية بأكثرية 95 صوتاً في 5 نوفمبر 2014، أي بعد أشهر قليلة على الفراغ الرئاسي، بحجة أن الوضع الأمني في البلاد لا يسمح بإجراء إنتخابات نيابية، في إنتخاب الرئيس. ليسلم بذلك زمام الحكم في البلاد إلى الحكومة اللبنانية برئاسة تمام سلام الذي أعلن عن تشكيلته الحكومية في 15 فبراير 2014، أي بعد 11 شهراً تقريباً من تكليفه، وقد ضمت جميع الأطراف السياسية اللبنانية ممثلين بـ24 وزيراً من دون القوات اللبنانية التي رفضت يومها الجلوس مع حزب االله المنغمس في الحرب السورية على الطاولة نفسها. وهكذا بدأت الحكومة اللبنانية عملها الذي كان يفترض أن يستمر لمدة شهرين فقط حتى إنتخاب رئيس جديد، لكن المدة طالت وطالت معها النزاعات.
فالحكومة اللبنانية المشكَّلة من الأطراف السياسية المتنازعة والمتصارعة لم تنجح منذ سنتين حتى يومنا هذا من إستصدار القرارات الحازمة والصارمة والتي تؤثر في مجرى الأحداث في البلاد، مما جعل الحكومة تبدو عاجزة أمام كل التطورات الداخلية والخارجية ولعل أولى بوادر هذه الأزمة تجلت في ملف النفايات. ففي مطلع الصيف المنصرم وتحديداً في 27 يوليو 2015، تم إقفال المكب المعتمد المعروف بمطمر الناعمة من قبل السلطات من دون الإعلان عن مكب بديل تنقل النفايات إليه. وفي الوقت نفسه، إنتهى عقد شركة سوكلين الموكلة بجمع النفايات مع الدولة من دون إجراء أي مناقصات لتلزيم شركة جديدة أو التمديد للشركة نفسها وبذلك بدأت جبال النفايات بالتراكم في شوارع العاصمة بيروت.
أمام هذا المشهد نزل اللبنانيون الممتلئة أنوفهم بالروائح الكريهة إلى الشارع مطالبين رئيس الحكومة تمام سلام ووزير البيئة محمد المشنوق بالإستقالة، محمِلين الحكومة المتصارعة وغير المتجانسة مسؤولية الأوضاع السيئة التي وصلت إليها البلاد. لكن الحكومة بقيت صامدة أمام ضغط الشارع بحجة عدم وجود رئيس للجمهورية تقدم له إستقالتها، فضلاً عن الإدعاء أنه في حال رحيلها ستدخل البلاد في حالة الفراغ التام بظل مجلس نيابي غير فاعل.
بذلك لم ينجح هذا الحراك المدني ضد النفايات في تحقيق أهدافه، والذي كان مؤلفاً من الشباب اللبناني الذي ليس له باع طويل في السياسة، وغير المنظم الصفوف ولا يمتلك برنامج عمل واضح، من تشكيل معارضة حقيقية قوية في وجه الحكومة والسلطة. بدأ تحركهم الذي كان قوياً في البداية بالتلاشي شيئاً فشيئاً لكنه منع في مناسبات عدة الحكومة اللبنانية من تمرير صفقات مشبوهة في ملف النفايات على حساب الشعب.
رغم ذلك، بقيت الحكومة عاجزة عن إيجاد حلول جذرية للمشكلة وما زالت النفايات تملأ الشوارع. وبعد سبعة أشهر، تم اتخاذ أولى الخطوات. أمام هذا المشهد السياسي والتأزم الحكومي الصعب قرر رئيس تيار المستقبل، التيار السني الأقوى في لبنان الرئيس سعد الحريري، وبعد فترة من دخول روسيا الحرب في سوريا في سبتمبر 2015 من إحداث خرقٍ مدوٍ على الساحة السياسية اللبنانية وذلك من خلال ترشيح النائب سليمان فرنجية، الركن المسيحي الأساسي في الثامن من أذار والحليف والصديق الأبرز للرئيس السوري بشار الأسد في لبنان. كان تحرك الحريري يهدف على الأرجح إلى إخراج البلاد من عقدة الفراغ الرئاسي. مبادرة لم يتلقفها الحليف المسيحي الأبرز للنائب سعد الحريري، سمير جعجع، المرشح المفترض لقوى الرابع عشر من أذار، فسارع بدوره إلى دعم ترشيح خصمه المسيحي السياسي التاريخي الأبرز العماد ميشال عون في الوقت الذي الذي كان فيه الطرفان قد بدءا محادثات أودت إلى توقيع ورقة إعلان نوايا في 2 يونيو 2015، والتي أنهت حقبة طويلة من الصراع السياسي بين الطرفين، حيث أتى ترشيح جعجع لعون تتويجاً للمصالحة المسيحية.
ورغم أن المرشحين للرئاسة هم من صلب الثامن من آذار، ما زال المجلس النيابي عاجز عن الإنتخاب بسبب عدم مشاركة هذه القوى في الجلسات. فالتيار الوطني الحر ملتزم بقرار رئيسه عدم المشاركة إلا إذا تأكد من فوزه في الإنتخابات، خاصة مع عدم تأكيد رئيس المجلس النيابي، نبيه بيري، وكتلته دعم العماد ميشال عون في وجه الحليف الإستراتيجي سليمان فرنجية. وفي الوقت نفسه، تؤكد قوى الرابع عشر من أذار أن حزب االله هو المعطل الحقيقي للإنتخابات الرئاسية، إذ يمكنه إن أراد جمع صفوف فريقه السياسي لإختيار رئيس واحد بين حلفائه المسيحيين.
في ظل هذا الواقع المتأزم بدأت بوادر الإنهيار الحكومي تظهر إلى العلن خاصة مع تقديم وزير العدل اللواء أشرف ريفي، المحسوب على تيار المستقبل، إستقالته من الحكومة بعد أن عجزت الحكومة من تحويل ملف الوزير السابق المتهم بنقل المتفجرات من سوريا إلى لبنان والتحضير لعمليات إرهابية في الداخل اللبناني ميشال سماحة إلى المجلس العدلي، بعد أن أطلقت المحكمة العسكرية سراحه، حيث اعتبر ريفي أنه أصبح غير قادر على تغطية أفعال الحزب داخل الحكومة. أزمة يعتبر مطلعون على السياسة الداخلية اللبنانية أنها ستنفجر عاجلاً أم آجلاً، خصوصاً مع تصاعد وتيرة الضغط العربي على لبنان بعد القرار السعودي بتوقيف الهبة البالغة 3 مليار دولار، والتي كان من المقرر تقديمها لتسليح لجيش اللبناني، بالإضافة إلى الطلب من رعاياها عدم السفر إلى لبنان، وإنهاء أعمال الكثير من اللبنانيين في دول الخليج.
كان لهذا القرار السعودي انعكاس خطير على الإقتصاد اللبناني، والذي أتُخذ حسب مصادر سعودية بسبب إجراءات معينة لحزب الله، التي دعت دول مجلس التعاون الخليجي لتصنيفه بالإرهابي. من ناحيةٍ أخرى، وقفت الحكومة اللبنانية عاجزة عن إستصدار أي قرار أو حتى بيان تبرير أو إعتذار من المملكة خوفاً منها على السلم الأهلى اللبناني. خوفٌ بدى واضحاً من موقف وزير الداخلية نهاد المشنوق في إجتماع وزراء الداخلية العرب في 2 مارس 2016، بعدم إعتبار حزب االله حزباً إرهابياً، ومناشدة بعض المحللين السياسين في لبنان دول مجلس التعاون الخليجي التراجع عن قرارها وإعتبار الجناح العسكري للحزب وليس السياسي إرهابياً أسوة بدول الإتحاد الأوروبي.