أعلن استفتاء الاستقلال الذي أجريّ في 25 سبتمبر 2016 عن بدء مرحلةٍ جديدة من الاضطربات لحكومة إقليم كردستان. فقد جذب التصويت غير الرسمي انتقاداتٍ واسعة النطاق، وخاصة من العراق وجيرانه، ولكن أيضاً من قِبل حلفاء الأكراد التاريخيين، بمن فيهم الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من تصويت الأكراد العراقيين بأغلبيةٍ ساحقة على الاستقلال، إلا أنه لم يُعترف بالتصويت دولياً، مما جعل من احتمالية قيام دولةٍ كردية أكثر بُعداً.
ولكن لربما كانت أكثر الخسائر تدميراً ما بعد الاستفتاء تتجاوز بكثير الخسائر المادية. فسرعان ما سعت بغداد، القلقة من إعلان الأكراد أحادي الجانب استقلال الأراضي التي عمدت أربيل، العاصمة الإقليمية، إلى ضمها بحكم الأمر الواقع بعد أن تخلت القوات العراقية عن مواقعها لصالح تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” عام 2014، إلى استعادة حدود إقليم كردستان ما قبل عام 2003.
ففي أكتوبر، نجحت القوات العراقية والميليشيات الشيعية في استعادة مدينة كركوك وحقولها النفطية القيّمة دون إطلاق طلقةٍ واحدة. فقد صدرت الأوامر للقوات المتحالفة مع الاتحاد الوطني الكردستاني، الحزب السياسي الثاني في حكومة إقليم كردستان، بالتخلي عن مواقعهم، ووهب المدينة التي وصفها يوماً ما مسعود بارزاني– رئيس حكومة إقليم كردستان منذ فترةٍ طويلة- بقدس الأكراد. أثارت هذه الأوامر عداوةً سياسية في إقليم كردستان، حيث اتهم بارزاني وحزبه الديمقراطي الكردستاني الاتحاد الوطني الكردستاني بـ”الخيانة العظمى.” وفي الأيام التالية، قام المحتجون بإحراق مكاتب الأحزاب السياسية، ما عدا الحزب الديمقراطي الكرستاني، في دهوك، شمال أربيل.
كانت خسارة كركوك مؤلمة، نظراً إلى رمزيتها وقيمتها الاقتصادية. بيد أن بغداد ضغطت على أربيل بطرقٍ أخرى أيضاً. فقد وافقت إيران وتركيا على مطالب بغداد (اللتان بلا شك تمتلكان مصالح شخصية بمناهضة استقلال الأكراد) بإغلاق حدودهما مع إقليم كردستان، وبالتالي عزل المنطقة. وعلى الرغم من إعادة فتح الحدود البرية منذ ذلك الحين، إلا أن الحكومة العراقية مددت حظر الطيران الدولي الذي فرضته على مطار أربيل حتى نهاية شهر فبراير، مما خنق المصالح التجارية الأوسع للمنطقة. وعلى هذا النحو، أصبحت المعابر الحدودية ورقة مساومة رئيسية بين بغداد وأربيل. وفي 20 يناير 2018، التقى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي برئيس وزراء إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، ابن أخ مسعود بارزاني، للمرة الأولى منذ الاستفتاء. وكرر العبادي مطالبه بإعادة مطارات إقليم كردستان والمعابر الحدودية وصادرات النفط الكردية إلى سيطرة بغداد.
عودة السلطة لأيدي الولاة السابقين
على الرغم من المفاوضات الجارية، يبدو أن بغداد تحتفظ بزمام السلطة. ففي نوفمبر الماضي، اعترف بارزاني بسيادة بغداد فعلياً من خلال اعترافه بشرعية قرار المحكمة العليا التي أكدت وحدة أراضي العراق. وعلى الرغم من أن حكومة إقليم كردستان ما زالت تتمتع بشكلٍ من أشكال الحكم الذاتي، إلا أن الاستفتاء أدى إلى إبطال جميع الآمال بالاستقلال السياسي، على الأقل.
ومع ذلك، وفي حين هيمن التغيير على علاقات الأكراد مع القوى الخارجية، كان التغيير السياسي الداخلي شبه معدوم. وبدافع إحباطه من فشل الاستفتاء، تنحى مسعود بارزاني من منصبه إلا أنه لم يختفِ تماماً من ساحة السياسة الكردية، إذ لا يزال رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني وعضواً في المجلس السياسي الأعلى في كردستان، وهو هيئة غير حكومية ظهرت بعد الاستفتاء. وبالتالي، لا تزال السلطة مستحكمةً بأيدي بارزاني.
ويُذكر أن نيجيرفان بارزاني، الذي قضى قرابة الثلاث سنواتٍ منذ عام 2006 كرئيسٍ للوزراء، شخصية أقل استقطاباً من عمه، الذي وصف خصومه في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بالخونة لتسليمهم كركوك دون قتال في أكتوبر الماضي.
قرارٌ مُكلف
إن الاضطرابات التي اندلعت في الأشهر الماضية لم تفعل شيئاً يذكر لمساعدة اقتصاد حكومة إقليم كردستان. فقد أغلقت ثلث الأسواق في أربيل منذ الاستفتاء، كما أدى الحظر المفروض على الطيران والقيود الجديدة المفروضة على التأشيرات إلى مضاعفة تكلفة الوصول إلى أربيل أكثر من الضعف، مما أدى إلى ردع المسافرين من رجال الأعمال والسياح على حد سواء.
ومع ذلك، كانت النتيجة الاقتصادية الأكثر إيلاماً فشل أربيل في دفع رواتب الموظفين الحكوميين. فقد توقفت بغداد عن دفعها منذ عام 2014، في أعقاب النزاع النفطي طويل الأمد، ومنذ ذلك الحين، أجبر النزاع وسوء الإدارة الاقتصادية أربيل أيضاً على التوقف عن دفعها.
وبعد أشهرٍ من عدم حصولهم على الدخل، خرج الآلاف من موظفي الخدمة المدنية، إلى جانب الطلاب، في نهاية المطاف إلى الشوارع في ديسمبر الماضي. وفي العديد من المدن، أضرمت النيران بالعديد من مباني الأحزاب الحكومية، كما قُتل ما لا يقل عن ستة متظاهرين، واعتقلت قوات الأمن المئات منهم. كما استخدمت الشرطة الذخيرة الحية لتفريق حشود المتظاهرين الذين طالبوا باستقالة الحكومة الكردية بأكملها.
فنادراً ما تحصل مثل هذه الاحتجاجات على هذا النطاق في إقليم كردستان، ومن المؤكد أن ثورة الغضب هذه ما هي إلا مؤشرٌ على أن صبر الأكراد بدأ ينفذ. وبينما كان تركيز النخب السياسية ينصب على إرثها السياسي واستقلالها بشكلٍ مباشر، لم يشعر الأكراد العاديين بأي فائدةٍ تذكر. وعلى الرغم من عدم الشكوك بالاحتفال بالاستقلال في جميع أنحاء إقليم كردستان العراق، مما أكسب أولئك الذين سعوا له رأس مالٍ سياسي قيّم، إلا أن فشل تصويت سبتمير أعاد تسليط الضوء على المخاوف الاقتصادية الأكثر إلحاحاً في المنطقة.
وفي 27 ديسمبر 2017، أعلن العبادي أن بغداد ستستأنف دفع رواتب موظفي الحكومة، الأمر الذي تم على ما يبدو بعد تنازلاتٍ من قيادة حكومة إقليم كردستان. وعلى الرغم من أن موافقة بغداد إعادة تحمّل هذه الفاتورة ما هو إلا تنازلٌ عن السيادة في أربيل، إلا أنه يمنح القادة الأكراد بعض الوقت لإعادة إدارة الاقتصاد. ومع وجود مثل هذه المستويات المرتفعة من السخط، صنعت بغداد معروفاً لأربيل – فرصةٌ لن تُضيعها الحكومة العراقية.
ومما يبعث على القلق، قيام سلطات الاتحاد الوطني الكردستاني، خلال احتجاجات ديسمبر، بإصدار دعوةٍ للقصاص وحذرت وسائل الإعلام من “إثارة” الاضطرابات باسم حرية الصحافة. وفي اليوم نفسه، داهمت الشرطة السرية الكردية مكاتب قناة تلفزيونية محلية، وأوقفت بثها المباشر. بيد أن سمات النزعات الاستبدادية في قيادة حكومة إقليم كردستان ليست جديدة، ولكن في ظل القليل من البدائل السياسية، ومع وجود أسرة بارزاني التي تتمتع تقريباً بقبضةٍ قبلية على السلطة، يبدو بصيص الأمل خافتاً لبدايةٍ جديدة في المنطقة.
وفي ضوء رد السلطات العنيف على الاحتجاجات، أعلنت حركة التغيير الكردية المعارضة (گوران) استقالتها من الحكومة إلى جانب الجماعة الإسلامية في كردستان- العراق، تضامناً مع المتظاهرين. وبالنظر إلى القوة السياسة المحدودة للحركة، يبدو من غير المحتمل أن يؤدي هذا الإجراء إلى أي تغييرٍ حقيقي.
شكل الاستفتاء صدمةً في جميع أنحاء العالم، مما ألهم الأكراد بإمكانية قيام دولةٍ مستقلة وأرعب الحكومات في جميع أنحاء المنطقة. ولكن لو أن أربيل شرعت بالتصويت من موقع قوة، لما كانت حكومة إقليم كردستان اليوم في أسوء حالاتها منذ سنوات، غارقةً بالمعارضة المحلية ولما أعيد فتح جروحها السياسية القديمة بعد أن اندملت.