وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هل يمكن لكردستان العراق البقاء على قيد الحياة من تلقاء ذاته؟

رئيس الأركان العامة بإقليم كردستان العراق، الجنرال جمال محمد (الثالث يسار) يُطلع رئيس الوزراء التركي، بن علي يلديريم (وسط)، والرئيس مسعود بارزاني، رئيس الحكومة الاقليمية الكردية (حكومة إقليم كردستان) (الثالث يمين) على المعارك الجارية ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش،” أربيل- العراق، 8 يناير 2017. Photo Anadolu Agency

امتلكت حكومة إقليم كردستان القدرة على أن تكون واحدةً من التطورات السياسية الأكثر إثارةً في الشرق الأوسط. فمستقبل حكومة إقليم كردستان، الجيب الكردي في العراق الذي يتمتع بحكمٍ ذاتي وبغنى الموارد، فضلاً عن تعدد الأحزاب ونظامٍ برلماني متعدد الأعراق إلى حدٍ ما، والذي ولد في أوائل العقد الألفين ويتمتع بدعمٍ دولي واسع النطاق في ظل حملة إبادةٍ جماعية قمعية، كان يبدو مشرقاً. وعلى الرغم من أنّ منطقة الحكم الذاتي نأت بنفسها إلى حدٍ كبير عن العنف الذي التهم العراق منذ عام 2003، وشهدت المنطقة تنميةً اجتماعية على نطاقٍ واسع، إلا أن حكومة إقليم كردستان انحدرت إلى مستنقعٍ من الخصومات التاريخية والمحسوبية السياسية والحكم الاستبدادي بشكلٍ متزايد.

ومنذ الحرب الخاطفة لتنظيم الدولة الإسلامية في جميع أنحاء العراق عام 2014، عانت حكومة إقليم كردستان من الخطر الجهادي على وداخل حدودها، ومن علاقاتها المتوترة مع بغداد، وانخفاض أسعار النفط الذي أهلك اقتصادها المزدهر يوماً ما. ومع ذلك، فإن آفاق أكراد العراق بعيدة كل البعد عن النفق المظلم، فقد مكّن تقدم تنظيم الدولة الإسلامية وانهيار الجيش العراقي القوات المسلحة الكردية، البيشمركة، من الاستيلاء على أراضٍ لطالما اعتبرتها حكومة إقليم كردستان ملكيةً شرعيةً لها، بما في ذلك مدينة كركوك المقسمة عرقياً، أو كما تُعرف بـ”القدس الكردية.” فحكومة إقليم كردستان، التي تتربع اليوم على رأس قائمة أكبر عشر مزودين للنفط في العالم، عندما وفي حال، عاد الاستقرار إلى المنطقة في أعقاب انسحاب تنظيم الدولة الإسلامية، والتي تعتبر أيضاً محبوبة القوى الغربية والمحلية على وجه الخصوص، تمتلك مزايا تحسد عليها إذا ما حلت مشاكلها الداخلية أولاً.

الفساد السياسي

على الرغم من امتلاك حكومة إقليم كردستان لنظامٍ سياسي ديمقراطي، إلا أنّ الأمر بات يعكس، على نحوٍ متزايد، الديمقراطية بالإسم فحسب. ففي بغداد، تولى أربعة رجالٍ منصب رئيس الوزراء منذ عام 2004 بينما في أربيل، حيث يمتلك رئيس حكومة إقليم كردستان السُلطة، لم يكن هناك سوى واحد: مسعود بارزاني. فقد رفض بارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي انتخب في الأصل لولاية لمدة عامين، التنحي في نهاية آخر فترةٍ قضاها في السلطة في أغسطس 2015، وطالب المجلس القضائي بتمديد فترة ولايته. وقد تم بالفعل تمديد ولاية بارزاني لسنتين إضافيتين في يونيو 2013، على الرغم من تمديد ولايته مرتين مسبقاً وفقاً لما هو مفروضٌ في مشروع دستور كردستان.

وفي صيف عام 2015، كشف الجدل حول تمديد ولاية بارزاني لعامين إضافيين التوترات السياسية التي تعصف اليوم بقلب حكومة إقليم كردستان. فقد سعى منافس بارزاني لجعل إقامة نظامٍ برلماني شرطاً للقبول بمطالب بارازني. ومن شأن هذا التغيير تحييد الرئاسة إلى حدٍ ما، مما يمنح المزيد من السُلطة للبرلمان المنتخب، وفي المقابل، للأحزاب الأصغر مثل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير الكردية الإصلاحية (گوران). وقد أصر الحزب الديمقراطي الكردستاني وبارزاني، الساخطين من أي محاولةٍ للإطاحة به، على حقه في البقاء في منصبه حتى يتم انتخاب خلف له. وقد عقدت هذه الانتخابات من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي رفض قبول أي تنازلاتٍ لتقاسم السلطة والمقترحة من قبل خصومه. وفي أغسطس 2015، أمر الحزب نوابه بالخروج من البرلمان، لمنع اكتمال النصاب القانوني الذي من شأنه أن يشهد في نهاية الطاف إنتخاب رئيسٍ جديد. وفي هذه الأثناء، لا يزال بارزاني، وبوجود شبح تنظيم الدولة الإسلامية كصرفٍ ملائمٍ للإنتباه، على عرشه.

تعتبر هذه منافسةً، بل حرباً أهلية، بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، المعسكرين السياسيين الرئيسيين في كردستان العراق، اللذان شكلا سياسة حكومة إقليم كردستان. ولكن، ربما ما هو مقلقٌ أكثر من التحركات الاستبدادية لبارزاني، هي حقيقة أنّ كلا هاتين القوتين عمتهُما المحسوبية. ففي الحزب الديمقراطي الكردستاني، يحتل ابن شقيق بارزاني منصب رئيس الوزراء، بينما ابنه البكر، مسرور، يرأس خدمات كل من مجلس الأمن والمخابرات، وابنه الثاني جنرالٌ في قوات البيشمركة. كما يُسيطر ذوو قربى آخرين على شركة الهاتف المحمول الرئيسية.

وفي حين أنّ حال الاتحاد الوطني الكردستاني أفضل قليلاً، فسلالة طالباني تُسيطر على جزءٍ كبير من البُنية التحتية المصيرية للحزب. فرب الأسرة، جلال طالباني، الذي شارك في تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني، يتربع حالياً على رأس التسلسل الهرمي للحزب، في حين أنّ زوجته، هيرو إبراهيم أحمد، تُسيطر على كلٍ من إعلام الاتحاد الوطني الكردستاني وإمبراطوريته التجارية. أكبر أبنائهم هو القائد العام لقوات مكافحة الإرهاب التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، وأصغر أبنائهم- ميكانيكي سيارات لا يزال في الثلاثينيات من عمره- منح منصب نائب رئيس الوزراء. وبالتالي، يبدو، على جانبي الإنقسام السياسي، أنّ السياسة الكردية في واقع الأمر شأنٌ عائلي.

العِداء والإقطاعيات

تعتبر المنافسة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني في صميم التاريخ العراقي- الكردي الحديث. وبعد تشكلها من ميليشياتٍ ومصالح مشتركة للقتال ضد صدام حسين، جُيشت التوترات منذ الأيام الأولى للحكم الذاتي الكردي. ومع ذلك، في عام 1994، انفجرت هذه التوترات إلى حربٍ أهلية، كما اندلعت اشتباكاتٌ عنيفة بين الطرفين بشأن تقاسم عائدات الجمارك والكهرباء والأراضي. فقد طلب الحزب الديمقراطي الكردستاني، بقيادة بارزاني، دعماً عسكرياً من صدام حسين ضد حزب الاتحاد الوطني الكردستاني المدعوم من إيران، مما تسبب باتهاماتٍ بالخيانة لا تزال تُثير الغضب إلى يومنا هذا. وبعد أربع سنوات، وضع اتفاقٌ للسلام بوساطة أمريكية حداً للقتال، ولكن على الرغم من الوحدة الظاهرية، لا تزال حكومة إقليم كردستان مقسمة إلى يومنا هذا، مع تسيّد الاتحاد الوطني الكردستاني لساحة النفوذ في محافظة السليمانية، في حين يحرس الحزب الديمقراطي الكردستاني، بغيرة، مصالحه في أربيل ودهوك.

ومع ذلك، لا تنحصر انقسامات حكومة إقليم كردستان بالأراضي. فمنذ الحرب الأهلية، اتسمت قوات البيشمركة بانقسام الولاءات. واليوم، نصف خطوط المواجهة الأمامية مع تنظيم الدولة الإسلامية محصنة بوحداتٍ منحازة للاتحاد الوطني الكردستاني، في حين أن البقية موالية للحزب الديمقراطي الكردستاني. فوفقاً للحكمة التقليدية، بناء الجيش شرطٌ أساسي لبناء الدولة وتتواصل الجهود المبذولة لتوحيد الجيش. فقد منح تقدم تنظيم الدولة الإسلامية أكبر الحوافز حتى الآن، مع إعلان البرلمان في 23 يوليو 2014 أنه في غضون ستة أشهر ستنضوي قوات البيشمركة تحت قيادةٍ عسكريةٍ واحدة. وبعد مرور عامين ونصف العام، بالكاد هناك أي مؤشراتٍ على إحراز أي تقدمٍ يُذكر. ولعدم اقتناعم بالجنود فقط، يقود الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني أيضاً فروعاً خاصة بهم لمخابرات مكافحة الإرهاب والأسايش. ومع صعود حركة التغيير الديمقراطية عام 2009، أثبت مثل هذا الدعم العسكري قيمته.

الأخ الأصغر

حازت حركة التغيير الديمقراطية على 25 مقعداً من أصل 111 مقعداً في البرلمان في انتخابات كردستان التي أجريت في يوليو 2009. تمثل الهدف الرئيسي لحركة التغيير الديمقراطية، التي تأسست قبل أشهرٍ فحسب، بفصل بيروقراطية حكومة إقليم كردستان عن الأحزاب السياسية، والقضاء على الفساد وتحويل الأجنحة العسكرية للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني إلى جيشٍ غير حزبي للدولة. ولكن حتى من الدعم الشعبي القوي، وجد الحزب نفسه يُنحّى جانباً دون أي دعمٍ عسكري حقيقي، مما أدى إلى تحالفه مع الاتحاد الوطني الكردستاني، والذي بدوره أدى إلى الإخلال بتوازن ميزان قوى العقد الماضي الهش أصلاً.

وفي مايو 2016، أعلن الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير عن تحالفٍ سياسيٍ جديد يهدف إلى اقتلاع الحزب الديمقراطي الكردستاني. ووفقاً للاتفاق، سيندمج كلا الحزبان في البرلمان وسيخوضان الانتخابات المقبلة ضمن قائمة مرشحين مشتركة. فالتعامل المُهين للحزب الديمقراطي الكردستاني مع حركة التغيير سهّل هذا التحالف، ففي أكتوبر 2015، بعد أن هاجم المتظاهرون مكاتب الحزب الديمقراطي الكردستاني في السليمانية، معقل حركة التغيير، منع الحزب الديمقراطي الكردستاني يوسف محمد صادق، من حركة التغيير ورئيس برلمان كردستان، من دخول أربيل للقيام بواجباته. وفي الشهر نفسه، أقال الحزب الديمقراطي الكردستاني خمسة وزراءٍ من حركة التغيير في تعديلٍ وزاري. وفيما اعتبر إهانةً للحزب الديمقراطي الكردستاني، زار رئيس الوزراء السابق العراقي نوري المالكي الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير بعد تحالفهما السياسي. فالمالكي يتمتع بعلاقاتٍ وثيقة مع إيران، الحليف المقرب من الاتحاد الوطني الكردستاني، مما يزيد بشكلٍ أكبر من مخاطر الصراع ثلاثي الاتجاهات للسيطرة على السياسة الكردية.

وحتى مع ذلك، لم تسفر محاولات المفاوضات للتوسط بإيجاد حلٍ للمأزق الرئاسي عن نتائج تذكر منذ منتصف عام 2015. فقد ذكر الحزب الديمقراطي الكردستاني أن الحزب يهدف إلى حل الأزمة بحلول مارس 2017، حيث ستعقد انتخاباتٌ في سبتمبر 2017، في حال لم يتم التوصل إلى حل. وذكرت تقاريرٌ أن بارزاني لن يترشح لولايةٍ جديدة.

أسرٌ سعيدة

على الرغم من العداء، تمتع الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني بحالاتٍ من الإتحاد. ففي أعقاب الغزو الأمريكي، شهد طموح الأكراد في العراق الجديد تشكيل الطرفين لجبهةٍ موحدة، والتي حازت على 85,2% من الأصوات في انتخابات كردستان عام 2005، ووصول بارزاني إلى السلطة. كما شهدت فترةٌ أخرى من عدم الاستقرار – تقدم تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014- تجديد التعاون بينهما. ومع نزول البيشمركة إلى كركوك لطرد تنظيم الدولة الإسلامية، كانت هناك آمالٌ بأن التهديد المشترك يمكن أن يوحد أخيراً المشهد السياسي لحكومة إقليم كردستان. ومع ذلك، مع وجود المكاسب من حقول كركوك على المحك، شكلت المنافسة تهديداً خطيراً نوعاً ما على أربيل، إذ تم سحب القوات من حول مدينة الموصل لحماية كركوك. استغل تنظيم الدولة الإسلامية هذا على أكمل وجه، ومُنع في الدقائق الأخيرة من نهب المناطق الكردية بفضل الغارات الجوية لقوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة.

لعنة النفط

كان لإغراء النفط تأثيرٌ أيضاً على السياسة، فلا يزال الإنقسام سيد الموقف بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني بشأن الكيفية التي ينبغي فيها مشاركة عائدات النفط مع بغداد والدول المجاورة. يؤيد الحزب الديمقراطي الكردستاني سياسةً نفطية مستقلة، ومنح حكومة إقليم كردستان كامل الحرية في استخدام “مواردها” لتحقيق المزيد من المصالح الكردية. بارزاني، الغاضب من عدم حصول حكومة إقليم كردستان على نصيبها العادل، حجب عامداً متعمداً عائدات النفط عن بغداد، مما زاد من حدة التوتر عندما ترك تراجع أسعار النفط عالمياً الاقتصاد العراقي في دوامة. كما ارتبط اسم الحزب الديمقراطي الكردستاني بصفقاتٍ سرية ذكرت منح الشركات التركية وصولاً إلى حقول النفط العراقية الشمالية مقابل 5 مليارات دولار، وضخ النفط إلى إيران، وذلك دون إطلاع السُلطة في بغداد على مثل هذه الإتفاقيات. وفي المقابل، صوّت الاتحاد الوطني الكردستاني وأحزابٌ معارضة أخرى لصالح ميزانية عام 2016 لضمان دفع رواتب موظفي حكومة إقليم كردستان، مفضلين إتباع نهجٍ أكثر تقارباً للعلاقات مع بغداد، ذلك أن حكومة إقليم كردستان لا تزال منطقةً عراقية. وعلى الرغم من أنه يبدو راضٍ عن التخلي عن خطط الإنفصال، في معرض بحثه عن استقلالٍ كردي أكبر حجماً من أيٍ وقتٍ مضى، لا يخشى بارزاني أن يخطو نحو دربه الذي يريد، بغض النظر عن رغبات زملائه الأكراد.

مستقبلٌ مجهول

واصلت حكومة إقليم كردستان نموها على صعيد المنزلة والمكانة الدولية، حتى عندما انتهك تنظيم الدولة الإسلامية حدودها وهدد وجودها. ولكن، يبقى الخطر الأكبرالذي يهدد مستقبل المنطقة المزدهر، داخلياً. فشيطان الفتنة المميت لم يختفِ بعد، وبينما تواصل خطوط الصدع في السياسة الكردية تقويض الإمكانات في المنطقة، فإن أي حديثٍ عن تقدمٍ ثابت ومطرد حقاً يبقى مجرد حديث.