بدأ سريان إجراءات قانون المالية الجديد في تونس في الأول من يناير 2018، وهذا يعني زيادة الضريبة بنسبة 1% على جميع المنتجات، فضلاً عن فرض ضرائب أعلى على الخدمات والاستهلاك ما دام هناك عدة سياساتٍ أخرى تهدف إلى “الحد من العجز في الميزانية.” وعليه، استيقظ التونسيون يوم رأس السنة على ارتفاعٍ عام في أسعار السلع الأساسية، والتي شملت كل شيء من الفاكهة والخضراوات إلى البنزين، وبطاقات شحن الهواتف والعطور.
وكان القانون الذي صدر في 9 ديسمبر 2017 قد تعرض لانتقاداتٍ شديدة خلال عملية اعتماده، حيث وصفه العديد من أعضاء البرلمان بأنه “كارثي” و”يفتقر إلى أي رؤيةٍ اقتصاديةٍ واضحة” وبأنه محاولة من الحكومة بالتوصل إلى “حلٍ سهل.” وطالب حزب آفاق تونس، وهو جزءٌ من الائتلاف الحاكم، وزرائه بالاستقالة من الحكومة، وأعلن “أنه انضم الآن إلى المعارضة،” مشيراً إلى أن “هذا القانون المالي لا يعكس إرادةً للإصلاح الاقتصادي.”
وعلى الرغم من أن النمو الاقتصادي ارتفع بنسبة تُقدر بـ2,2% عام 2017، أي بزيادة قدرها 1,1% في عامي 2015 و2016، إلا أن اقتصاد البلاد ما زال متعثراً. ويبلغ معدل البطالة حوالي 16%، بينما يبلغ معدل التضخم 4,5%. كما تُشكل قيمة الدينار مؤشراً آخر على تدهور الاقتصاد، حيث انخفضت قيمته من 1,9 دينار لليورو الواحد في مارس 2011 إلى مستوى قياسي منخفض قدره 2,95 دينار لليورو في ديسمبر 2017.
وعلاوة على ذلك، تكافح الحكومة من أجل تنفيذ الإصلاحات المرتبطة بقرضها البالغ 2,9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. وتتألف هذه التدابير بشكلٍ أساسي من تخفيض رواتب القطاع العام، التي تمثل 15% من الناتج المحلي الإجمالي ومن بين أعلى المعدلات في العالم، وتحسين تحصيل الضرائب والقضاء على التهرب الضريبي.
وفي هذا السياق، أطلق رئيس الوزراء يوسف الشاهد “حرباً على الفساد” في مايو 2017، والتي شهدت اعتقال العديد من رجال الأعمال بمن فيهم المرشح الرئاسي السابق ياسين الشنوفي. ومع ذلك، هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهود للحد من الإنفاق وتعزيز النمو، وبالتالي فرض القانون المالي لعام 2018.
بيد أن الحكومة لم تكن مستعدةً لما حصل فيما بعد. فقد تطورت بعض الشكاوى على شبكة الانترنت إلى موجةٍ من الاحتجاجات في المدن بما فيهم العاصمة تونس، والمهدية وسليانة والقصرين. أما في مدينة تالة، التي تصدرت عناوين الأخبار خلال ثورة عام 2011، أشعل المتظاهرون النار بمقر قوات الأمن، مما أجبرهم على الانسحاب. ومنذ ذلك الحين، انتشر الجيش في كلٍ من تالة وبنزرت وسوسة وقبلي.
ففي 8 يناير، سقط أول (وإلى الآن آخر) ضحايا الاحتجاحات في طبربة: خميس بن صادق اليفرني البالغ من العمر 43 عاماً. ووفقاً لبيانٍ صادرٍ عن وزارة الداخلية فإن سبب الوفاة هو الاختناق بالغاز المسيل للدموع. ومع ذلك، ظهر شريط فيديو وعدة صور على الانترنت للضحية أثناء دهسه من قِبل سيارةٍ للشرطة، مما أجج المزيد من العنف والاحتجاجات في المدينة. وأعلن رئيس الوزراء انه سيزور طبربة في محاولةٍ لمنع تفاقم الوضع، غير أن زيارته ألغيت دون توضيحٍ رسمي، ولم يصل سوى للبطان، التي تبعد ثمانية كيلومترات من طبربة، وهو دليلٌ كما يقول السكان المحليون بأن الحكومة المحلية لا تهتم لأمرهم.
إلا أن الحكومة تهتم حقاً، فقد أعتقل أكثر من 800 شخص، وفقاً لأرقام الأمم المتحدة، بالرغم من أن حركة “فاش نستناو؟” تقول أن الرقم يتجاوز الألف شخص. فقد كانت الحركة، التي يعني اسمها بالعربية “ما الذي ننتظره؟” المحفز الحقيقي وراء العديد من الاحتجاجات، حيث حشدت نشطاءها على الأرض ومن خلال صفحتها على الفيسبوك. وتتهم الحركة السلطات بـ”شن حملة قمعٍ عشوائية،” و”بعودة الأساليب القمعية لبن علي [الديكتاتور التونسي السابق].”
كما أثير هذا القلق من قمع حرية التعبير والتجمع السلمي من قِبل روبرت كولفيل، المتحدث باسم مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، الذي نشر مذكرة إحاطة إعلامية دعا فيها السلطات إلى “ضمان عدم اعتقال الأشخاص في إطارٍ تعسفي،” كما “حث جميع الأطراف على العمل معاً من أجل حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعزز الاضطرابات، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان.”
وعلاوة على ذلك، أفاد العديد من الصحفيين تعرضهم للاستجواب من قِبل الشرطة أثناء تغطيتهم للاحتجاجات، بمن فيهم ماثيو غالتييه من صحيفة ليبراسيون الفرنسية، وميشيل بيكارد من الإذاعة الفرنسية الدولية. كما أدانت منظمة مراسلون بلا حدود الاستجواب، حيث قالت ياسمين كاشا، مديرة مكتب شمال أفريقيا في المنظمة أن هذه الإنتهاكات
في حين كانت ردود فعل السياسيين في تونس متفاوتة على الاحتجاجات. وكما هو متوقع، دافع رئيس الوزراء عن قانون المالية،إن قرار فرضه كان “صعباً ولكن ضروري لتحسين الوضع الاقتصادي.” وفي الوقت نفسه، ألقى باللوم على حزب الجبهة الشعبية المعارض على بعد ذلك. كما وجه حزب النهضة، وهو حزبٌ آخر في الائتلاف الحاكم والذي يدعم القانون، نفس الاتهامات، معلناً أن الأحزاب السياسية اليسارية الفوضوية استفادت من مطالب المواطنين “بالتحريض على الفوضى وأعمال التخريب المتعمد، والتدمير والنهب.” ورداً على ذلك، قال حمّة الهمّامي، زعيم الجبهة الشعبية، إن الحكومة باتهامهم “تحاول التنصل من مسؤوليتها كما تحاول تضليل الجمهور.”
أما الرئيس الباجي قائد السبسي فقد اتخذ نهجاً مختلفاً واختار قضاء يوم 14 يناير، يوم الثورة، في حي التضامن، أحد ضواحي تونس الفقيرة. يُذكر أن حي التضامن كانت مسرحاً لمواجهاتٍ مختلفة مع الشرطة منذ بدء الاحتجاجات. وقال الرئيس في كلمةٍ من المركز الثقافي الجديد، الذي تم اغلاقه منذ الثورة في عام 2011، أنه يفهم شعور الشباب بالإحباط وأن الوضع الاقتصادي يتحسن “ببطء ولكن بثبات.” ويُشاطره رئيس الوزراء تفاؤله، حيث أعلن أن “عام 2018 سيكون آخر عامٍ صعب يشهده الاقتصاد التونسي.”
وفي خضم الاضطراب، طُرح أحد الأسئلة مراراً وتكراراً: لماذا لا يزال القانون الذي انتقد ورفض من قبل العديد من السياسيين وحرّض على الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، قائماً؟ يتمثل أحد الأجوبة المحتملة بالضغط من صندوق النقد الدولي. فمنذ الثورة، اقترضت الحكومة التونسية عدة مراتٍ لتغطية نفقاتها، مما رفع الدين العام مما نسبته 41% من إجمالي الناتج المحلي عام 2010 إلى نسبةٍ مُربكة وصلت إلى 71% عام 2018. وقد دفع هذا مراقبين مثل جيهان شندول، وهي المؤسس المشارك للمرصد التونسي للاقتصاد، إلى اتهام صندوق النقد الدولي بـ”فرض هذه الإصلاحات والتسبب بهذه الاضطربات.”
وفي بيانٍ على شبكة الإنترنت، رد صندوق النقد الدولي بالقول إن “الوضع الاقتصادي الهش في تونس نتاج… نموذجها الذي يقوم على رعاية الدولة،” وأضاف إن “صندوق النقد الدولي لا يدعو إلى التقشف… (ولكن) يدافع عن تنفيذ إصلاحاتٍ متوازنة اجتماعية، وتُنفذ على نحوٍ جيد، وتسير في تسلسلٍ ملائم.”
وسواء كان الأمر يتعلق بوضع أو تنفيذ الإصلاحات، فمن الواضح أن التونسيين غير راضين. وإلى حدٍ ما، تتماشى الاحتجاجات الأخيرة مع معظم أعمال الاحتجاج التي اجتاحت البلاد. وتاريخياً، لطالما كان شهر يناير شهر الاضطربات الاجتماعية: فمن أحداث الخبز سيئة السمعة في يناير 1984، وصولاً إلى ثورة يناير 2011 واحتجاجات ارتفاع معدلات البطالة في يناير 2016. وعلى الرغم من قمع جميع ما ذكر آنفاً بالعنف، إلا أن معظمها أسفر عن تغييراتٍ كبيرة في النظام، سواء كان الإطاحة بالمسؤولين، أو إقالتهم، أو حتى، كما حصل مرةً واحدة، نفيهم. أما ما سيحصل هذه المرة، فالوقت وحده كفيلٌ بالكشف لنا عنه.