دخلت الأزمة السودانية نفقا مظلما، لا يكاد يتبين نهايته أحد، باستقالة رئيس وزراء الحكومة الانتقالية د. عبد الله حمدوك في الثاني من يناير 2022. بالرغم من أن الاستقالة التي لوح بها طويلا لم تكن مفاجأة للسودانيين ومتابعي الشأن السوداني من خارجه، إلا أنها وضعت البلاد في مفترق طرق بالغة الوعورة، ويتخوف السودانيون من ان تنزلق بلادهم لصراعات دموية ربما تقودها لسيناريوهات سوريا وليبيا واليمن.
الشراكة الذابلة
بداية، تستلفت الانتباه مفارقة غريبة تميز التطورات التي حدثت في السودان خلال الأشهر الثلاثة الماضية وهي أن الانقلاب العسكري الذي غير مسار البلاد ليلة الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي قد نفذه الرئيس الشرعي للبلاد، الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، والقائد العام للقوات المسلحة لإقالة حكومة د. عبد الله حمدوك واعتقال العديد من وزراء حكومته.
لكن الفريق البرهان عاد لتوقيع اتفاق سياسي قبل أقل من شهر على الانقلاب العسكري (في 21 نوفمبر 2021) مع ذات الشخص، الدكتور عبد الله حمدوك لتعيينه رئيسا للوزراء لقيادة الفترة الانتقالية التي تقرر أن تنتهي بانتخابات عامة في يونيو 2023، لكن استقالة حمدوك وضعت البلاد في مهب الريح من جديد.
العودة القصيرة لعبد الله حمدوك من الإقامة الجبرية لرئاسة الوزراء من 21 نوفمبر 2021 حتى الثاني من يناير 2022 (42 يوما) لم تجد نفعا في حلحلة التعقيدات التي نجمت عن الانقلاب ولا في تهدئة المتظاهرين والمحتجين على الحكم العسكري. تدفق للشوارع مئات الآلاف من الشبان الغاضبين الذين يتظاهرون أسبوعيا منذ استيلاء العسكر على السلطة وزادت النقمة عليهم بعد سقوط أكثر من خمسين قتيلا برصاص الشرطة والجيش. وخسر عبد الله حمدوك شعبيته الكبيرة والإجماع الوطني الواسع عليه كقائد وطني منقذ وتحول في نظر الكثيرين إلى متواطئ مع الانقلابيين بذرائع لم تقبلها غالبية السودانيين وانهارت الشراكة العسكرية المدنية التي بشر بها حمدوك ربما إلى غير رجعة.
لجان المقاومة: كعب أخيل
بتواصل التظاهرات المعارضة للانقلاب، تواجه الأحزاب السياسة والحركة السياسية السودانية والانقلابيين العسكريين على حد سواء معضلة جديدة وهي أن جموع المتظاهرين التي لم تشهد المدن السودانية مثيلا لها من قبل ترفع شعارا واحدا هو “لا شراكة.. لا تفاوض.. لا مساومة”.
تقود وتنظم هذه المظاهرات الاحتجاجية “لجان المقاومة” وهي لجان شبابية قاعدية تنطلق من الأحياء السكنية بقدر محدود جدا من التنسيق الأفقي بينها دون أن يكون لها قيادة مركزية موحدة، وترفض حكم العسكر وقوى الحرية والتغيير التي انقلب عليها العسكر، لكنها عظيمة القدرة على حشد مئات الآلاف من الشبان للتظاهر في العاصمة ومختلف مدن السودان بجداول معلنة ومنتظمة مستخدمة وسائل التواصل الاجتماعي بفعالية عالية، لم تؤثر عليها إقدام السلطات على قطع الانترنت أثناء التظاهرات.
لكن مطالب استبعاد الجيش كليا من المشهد السياسي الراهن وإعادته للثكنات، كما يرددون في التظاهرات، يبدو أمراً غير واقعي للكثير من الساسة والمراقبين وشططا يسد الأفق السياسي وفرص التحول المدني الديمقراطي التي ينادي بها الشباب، حيث أن السلطة الآن في أيدي الجيش فعليا ولن يحدث تحول دون تفاوض واتفاق. حكم الجيش البلاد بشكل مباشر طوال 52 عاما من سنوات الاستقلال الـ 66 وظل يمارس تأثيرا هاما على السياسة حتى في السنوات القليلة التي دان فيها السودان للحكم المدني.
وفي محاولة للبحث عن مخرج من الانسداد الراهن، يطالب بعض الساسة بتنحي الفريق البرهان الذي تورط في القمع الدموي للمتظاهرين، ليفسح لقيادات أخرى من الجيش يمكن التفاهم معها حول ترتيبات انتقالية جديدة.
لماذا انقلب العسكر على المدنيين؟
حكم السودان حتى صبيحة الانقلاب العسكري الأخير للفريق عبد الفتاح البرهان، تحالفٌ هش ومتشاكس يفتقر للحد الأدنى من الانسجام، ويضم قيادة الجيش وشق مدني من قوي الحرية والتغيير يتكون من عدد من الأحزاب السياسية وتجمع المهنيين السودانيين، بموجب وثيقة دستورية تم التوقيع عليها في أغسطس 2019 عقب إسقاط الرئيس السابق عمر البشير في إبريل من ذات العام.
أخطر الألغام الموقوتة في تلك الوثيقة الدستورية بالنسبة للعسكريين هي أنها نصت على تنحي الفريق البرهان عن رئاسة المجلس السيادي الانتقالي بعد 21 شهرا من توقيع الوثيقة، أي في نوفمبر 2021، لتنتقل رئاسة المجلس السيادي للمكون المدني وهو ما أدى إلى الانقلاب قبل أسبوع واحد من الموعد المحدد. وبالرغم من أن البرهان قد أعلن بعد انقلابه التزامه بالوثيقة الدستورية إلا أنه أعلن عن تعطيل المواد التي تنص على مشاركة قوى الحرية والتغيير في السلطة وحقه في تسمية رئيس الوزراء.
لدى الفريق البرهان وحليفه القوي محمد حمدان دقلو (حميتي) قائد مليشيا قوات الدعم السريع، مخاوف لا يمكن تجاهلها من انتقال السلطة كليا أو جزئيا للمدنيين. يخشى البرهان ودقلو بشكل مباشر وصريح وقصير المدى الملاحقة القانونية عن مقتل أكثر من مئة مدني في مذبحة فض اعتصام الشباب في ليلة واحدة في 3 يونيو 2019 أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني، سواء بأوامر مباشرة منهما أو حتى بالامتناع عن اتخاذ أي إجراء لوقف المذبحة التي استمرت لساعات طويلة أمام أعينهم. وقد شكلت حكومة حمدوك الانتقالية لجنة تحقيق في جريمة فض الاعتصام لم تسلم تقريرها النهائي بعد لكن هذا التحقيق سيظل سيفا مسلطا على رقابهم. يضاف لذلك الرصيد الدموي، أكثر من خمسين قتيلا سقطوا في التظاهرات المتوالية التي أعقبت انقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021.
كما أن مشاركة البرهان ودقلو شخصيا في حرب دارفور 2003-2006 يجعلهما عرضة للملاحقة بشبهة التورط في المذابح والانتهاكات الفظة التي ارتكبت هناك وخاصة وأن المحكمة الجنائية الدولية تلاحق أربعة متهمين سودانيين في هذه الجرائم منهم الرئيس السابق البشير الذي يقبع في سجن في الخرطوم.
كما يخشى كبار جنرالات الجيش سعي الساسة المدنيين لوضع مئات الشركات التابعة للجيش وأجهزة المخابرات السودانية تحت سيطرة وزارة المالية، حيث تعمل هذه الشركات في أنشطة تجارية وصناعية وزراعية لا علاقة لها بالصناعات العسكرية وتنشط في تجارة المحاصيل والمواشي والتنقيب عن الذهب وتهريبه والمضاربة في أسواق العملات الأجنبية وتتمتع بإعفاءات ضريبية وجمركية واسعة ولا تعود حصائلها للخزينة العامة ولا تخضع لأية رقابة حكومية.
وسبق أن أشار رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك، في إحدى خطبه العامة، إلى أن 80% من الموارد الاقتصادية يتم التحكم فيها بعيدا عن وزارة المالية (يعني ضمنا شركات الجيش) مما أثار حفيظة الفريق البرهان، الذي رد عليه بغضب بأن الحكومة المدنية تحاول أن تحمل مسؤولية فشلها للجيش.
أما “لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 وإزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال العامة”، التي أسستها الحكومة المدنية برئاسة حمدوك لملاحقة فساد دكتاتورية البشير، فقد أثارت نقمة كبار الضباط باقترابها وتهديدها لأوكار الفساد في القطاعين المدني والعسكري وكان لا بدّ من وضع حد لأنشطتها المثيرة لقلق كل دوائر الفساد في البلاد.
مآلات قاتمة
يواجه السودان هذا الانسداد السياسي والعنف في شوارع المدن الكبرى والاشتباكات العرقية والصراعات القبلية والانفلات الأمني في مناطق مختلفة من أرجائه المترامية الأطراف إضافة لمصاعب وأزمات اقتصادية تتفاقم كل يوم بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية بشكل يكاد يهدد وجوده وكيانه ويجعله عرضة للحرب الأهلية والتفتت والتشرذم إذا لم يتم التوصل ساسته وعسكرييه لاتفاق سريع ينقذ البلاد.
ولا شك أن للدول المجاورة والمجتمع الدولي دوراً كبيراً فيما يحدث الآن وما سيحدث في السودان في المستقبل القريب جدا وأنه سيضطر للتدخل بشكل ما، راغبا أو مكرها، وهذا حديث آخر سنعود اليه.