وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

اقتتال المعارضة السورية، ضرورة أم انشغال عن الهدف؟

سوريا
مقاتلون من جبهة النصرة وجيش الاسلام على الحدود السورية, 25 مارس 2015 Photo Zuma Press

في عام 2011، عندما اندلع الصراع المسلح في سوريا، كان المشهد السياسي والعسكري هناك أقل تعقيداً بكثير مما هو عليه اليوم في عام 2015، إذ لم يكن ثمة في الساحة الشعبية والسياسية والعسكرية سوى طرفين: النظام من جهة، ومن هم ضد النظام من جهة أخرى. في ذلك الوقت، كان مصطلح “الجيش السوري الحر” يستخدم للإشارة لأي قوة عسكرية داخلية تقاتل قوات الرئيس بشار الأسد في ذلك الوقت. أما اليوم فتبدو الصورة غاية في الاختلاف، بعد أن بلغ المشهد السوري درجة من التعقيد يصعب عندها التمييز بين القوى المتناحرة والمقتتلة على الأرض.

في واقع الأمر، لم يكن ما سمي بالجيش السوري الحر يوماً هيكلاً تنظيمياً عسكرياً واحداً، فقد كان منذ البداية عبارة عن مجموعات متباعدة منفصلة من حيث قيادتها وتمويلها واستراتيجيتها. ولم يبقى من هذه التسمية اليوم سوى عدد ضئيل من المجموعات التي تقاتل النظام من الجماعات الإسلامية المعتدلة والعلمانية.

وقد جرت محاولات عدة لتوحيد الفصائل العلمانية والمعتدلة تحت مظلة واحدة، وتم في هذا السياق تأسيس ما عرف بالقيادة العسكرية العليا للجيش الحر، لكن الأخيرة ضعفت كثيراً في ظل التصدعات المتكررة في جسدها، حيث استمرت حركة الانشقاقات منها بهدف تشكيل مجموعات منفصلة أو الانضمام لجماعات أخرى. وعندما تأسست الجبهة الإسلامية في نوفمبر 2013 انشقت ثلاث مجموعات كبيرة عن الجيش الحر في شمال سوريا (لواء التوحيد وصقور الشام وجيش الإسلام) بهدف الانضمام للجبهة التي أنشأت حديثاً.

تشكل الجبهة الإسلامية اليوم إحدى أقوى الفصائل العسكرية التي تقاتل النظام في سوريا ويقارب عدد مقاتليها الـ 60 ألفاً جلهم من السوريين ولها نفوذ في معظم المناطق السورية. وتُسيطر الجبهة الإسلامية على كامل ريف دمشق الشرقي (الغوطة الشرقية)، وأجزاء من ريف دمشق الجنوبي، ومساحات شاسعة من شمال حلب، فضلاً عن العديد من الجيوب في المناطق التي تُسيطر عليها فصائل أخرى.

وتقوم أجندتها على إقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة بعد إسقاط النظام. والجبهة الإسلامية هي عبارة عن تحالف من عدد من الجماعات التي تشكلت في بداية الصراع، منها حركة أحرار الشام وأنصار الشام وصقور الشام ولواء الحق ولواء التوحيد وجيش الإسلام والجبهة الإسلامية الكردية. ووفقاً لمعهد كارنيجي بواشنطن، ربما تحصل الجبهة الإسلامية على الدعم من كل من المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا، على الرغم من عدم وجود سوى القليل من الأدلة على ذلك.

وفي نفس الإتجاه ولكن أكثر تطرفاً، تعتبر جبهة النصرة الذراع الرسمية لتنظيم القاعدة في سوريا. ووفقاً لتقرير صادر عن جامعة ستانفورد، تُعتبر جبهة النصرة في المرتبة الثانية بعد تنظيم الدولة الإسلامية في جذب المقاتلين الأجانب. وكما ورد في التقرير “يأتي معظم هؤلاء المقاتلين من الشرق الأوسط، بالإضافة إلى جمهورية الشيشان والدول الأوروبية، كما أن هناك أعداد قليلة تنضم من البلاد البعيدة مثل أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية”. ورغم أنها أصغر حجماً من الجبهة الإسلامية إلا أنها كانت فاعلة في القتال ضد النظام منذ الأيام الأولى للصراع، وقد تبنت عدداً كبيراً من العمليات الانتحارية التي كبدت النظام الكثير من الخسائر في الأرواح وخسائر مادية جسيمة وتتمتع بتمويل وإمداد جيد.

ومع ذلك، يبقى تنظيم الدولة الإسلامية أو ما بات يعرف بداعش يشكل القوة الأكثر إثارة للرعب وصاحب أكبر مناطق النفوذ على الخارطة السورية. نشأ التنظيم في أواخرأبريل 2013 منشقاً عن تنظيم القاعدة، واستطاع في غضون أشهر معدودة السيطرة على مناطق شاسعة غرب وشمال العراق وشمال شرق سوريا. وفي يونيو 2014، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية قيام الخلافة في أجزاء من العراق وسوريا وهو يضم في صفوفه عشرات الآلاف من المقاتلين، جلهم من غير السوريين.

الاقتتال الداخلي بين فصائل المعارضة السورية

تعود أولى الاشتباكات فيما بين الجهات التي تقاتل النظام إلى أواسط العام 2013، إذ اندلعت مواجهات دامية في الشمال السوري بين جبهة النصرة وقوات تابعة للجيش السوري الحر آنذاك، وقد رأى محللون في حينه أن الاشتباكات كانت علامة على وجود ثورة ارتجاعية مناوئة لتواجد القاعدة في الأراضي السورية.

وفي مارس 2013، وبعد أن وقعت مدينة الرقة (في الشمال الشرقي) تحت سيطرة كتائب الجيش السوري الحر ولواء أحفاد الرسول، سرعان ما تعرض الاثنان للهجوم من مقاتلي تنظيم داعش الذي تمكن في النهاية من السيطرة على زمام الأمور في المدينة. وباتت الرقة اليوم عاصمة الدولة الإسلامية.

ورغم أن جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية يقعان في خانة الفكر السلفي القاعدي الذي لا يعترف بالحدود الدولية، إلا أن الطرفين دخلا في مواجهة دموية بين أواسط عامي 2013 و 2014. وتمحورت دوافع القتال حينها حول انشقاق داعش عن القاعدة وحول السيطرة على حقول النفط في منطقة الحسكة في الشمال الشرقي. وقد أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان ومقره لندن أن الآلاف من مقاتلي داعش والنصرة قتلوا في القتال الدائر بينهما آنذاك.

بشكل عام، يتمحور الاقتتال الداخلي بين فصائل المعارضة السورية حول أمرين، هما توسيع مناطق النفوذ والأجندة السياسية (وهي في أغلب الأحيان أجندة يفرضها الممولون الخارجيون). فداعش، على سبيل المثال، تزحف في كل الاتجاهات مدفوعة بكلا الأمرين، إذ ترى أن كل من لا يبايعها ويأتمر بأمرها هو مرتد كافر، وهي تقاتل في نفس الوقت لتوسيع مناطق نفوذها، ويظهر ذلك جلياً في شعارها “باقية وتتمدد”.

واليوم، يشكل داعش خصماً وعدواً مشتركاً لجميع القوى المعارضة للنظام والفاعلة على الأرض (فيما عدا جبهة النصرة). وحتى الآن خاض داعش من المعارك مع كتائب المعارضة السورية أكثر مما خاض من مواجهات مع النظام نفسه، كانت آخرها مواجهاته الدامية مع قوات حماية الشعب الكردي  في كوباني (عين العرب) التي تلقت فيها الأخيرة دعماً كبيراً من التحالف الدولي ضد داعش.ولم يحصل أن دخلت داعش في أي تحالف حقيقي مع أي من القوى الأخرى الإسلامية أو غير الإسلامية، إلا مؤخراً حين تهادنت مع جبهة النصرة (التي كانت فيما سبق خصمها اللدود)، ومثال ذلك ما جرى في مخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق في أوائل شهر أبريل لعام 2015، إذ سهلت النصرة مرور داعش إلى المخيم الذي يعتبر مأوى أعداد هائلة من اللاجئين الفلسطينيين، لدحر الكتائب الأخرى التي كانت تسيطر عليه.

ورغم أن جبهة النصرة خاضت عدة مواجهات مع كتائب الجيش السوري الحر في مناطق الشمال السوري، كان آخرها القتال الدامي مع حركة حزم المعتدلة في فبراير 2015، حيث انتصرت في نهاية المطاف جبهة النصرة. إلا أن النصرة تتسم بالبراغماتية، فهي تهادن الفصائل الأخرى حين تدعو الحاجة لذلك، رغم عدائها الشديد للكتائب العلمانية، وهي تتصرف بحذر فيما يخص مواجهة مجموعات معارضة أخرى. وأكثر من ذلك فإن النصرة لها تحالفات مع كثير من المجموعات، كان آخرها تحالف “جيش الفتح” الذي تمكنت قوى المعارضة من خلاله من دحر النظام من مدينة إدلب (شمال غرب)، وهو تحالف ضم النصرة إلى جانب الجبهة الإسلامية وغيرهما من الفصائل المقاتلة. ويرى مراقبون أن جبهة النصرة لا تزال تضع مقارعة النظام ضمن أولى أولوياتها عندما يتعلق الأمر بالقتال.

لكن المواجهة الأبرز لفصائل المعارضة المناهضة للأسد ـ من حيث قوة الخصوم ـ تبقى في الحقيقة بين داعش والجبهة الإسلامية، فقد غدا الطرفان اليوم عدوان لدودان، خاضا حتى الآن عشرات المعارك الدامية ضد بعضهما. وتعود المواجهات بينهما إلى مطلع 2014 عندما قامت داعش بقتل عدد من عناصر حركة أحرار الشام، ولا تزال هذه المواجهات مفتوحة بين الطرفين حتى الآن، ومن غير المحتمل أنها ستنتهي قريباً.

ويرى كثير من المحللين أن الاقتتال بين فصائل المعارضة المختلفة يحيلها هدفاً سهلاً لهجمات قوات الأسد، ويتسبب في تردد المجتمع الدولي في التدخل لصالحها، كما أنه يؤخر التوصل إلى أي حلول سياسية سلمية. فيما يبني مراقبون آخرون على تجارب سابقة فيقولون أن هذا النوع من الاقتتال هو شر لا بد منه في المرحلة الراهنة، ومن الضروري على القوى المعتدلة محاربة المتطرفين عوضاً عن محاربة النظام نفسه.

ومع ذلك تبقى أغلبية الآراء ترى أن تعدد الممولين والداعمين الخارجيين الدوليين والإقليميين واختلاف أجنداتهم والنزاع فيما بينهم سوف ينعكس حكماً على الصراع في سوريا، وسوف يشكل وقوداً لهذا الاقتتال الداخلي بين فصائل المعارضة إلى حين اتفاق أولئك الممولين على صيغة معينة وحل سياسي يلبي مصالح الجميع.

user placeholder
written by
veronica
المزيد veronica articles