حركة طالبان حقّقت تقدّمًا كبيرًا في علاقتها مع بعض دول الشرق الأوسط، وهو ما يصب في خدمة هدف نيل المشروعيّة الدوليّة. ومع ذلك، لا تزال الحركة بعيدة عن الاعتراف بتمثيلها لأفغانستان في أروقة الأمم المتحدة.
علي نور الدين
بعد تمكّنها من السيطرة على العاصمة الأفغانيّة كابل في أيّار/مايو 2021، تمكّنت حركة طالبان من إحكام السيطرة على جميع مفاصل الإدارة المدنيّة والأمنيّة للدولة المركزيّة، وهو ما حوّلها بنظر العالم إلى سلطة أمر واقع.
ومنذ ذلك الوقت، عمّقت العديد من الدول علاقاتها الثنائيّة مع الحكومة الإسلاميّة الجديدة، كما فعلت تركيا وقطر وباكستان والإمارات العربيّة المتحدة وروسيا والصين وإيران.
ومع ذلك، لم تتمكّن طالبان من ترجمة هذا الواقع المُستجد باعتراف دولي صريح وواسع بحكومتها، وهو ما أثار أزمة المشروعيّة التي تحاصر الحركة اليوم.
ولذلك، كان البحث عن المشروعيّة الدوليّة محور علاقات طالبان الخارجيّة منذ سيطرتها على كابل، تمامًا كما عكست تصريحات الزعيم الأعلى للحركة هبة الله أخوند زاده، الذي أعلن وبشكل صريحٍ في نيسان/أبريل 2024 أنّ حركته تبغي تأسيس “علاقات دبلوماسيّة واقتصاديّة مع جميع الدول.”
الإمارات تنفتح بقوّة على طالبان
ويبدو أنّ طالبان وجدت في الشرق الأوسط بيئة خصبة يمكن البحث فيها عن هذه المشروعيّة الدوليّة، مع تسابق العديد من دول المنطقة على توطيد العلاقات الدبلوماسية مع الحركة، بحثًا عن دورٍ سياسي واقتصادي في أفغانستان. وهذا السباق المُحتدم برز بشكلٍ واضح في زيارة وفد حركة طالبان إلى الإمارات، في يونيو/حزيران 2024.
لم يكن استقبال هذا الوفد الخطوة الإيجابيّة الأولى التي تقوم بها الإمارات للتقرّب من الحركة. لكنّ تلك الزيارة بالتحديد حملت الكثير من النقاط المثيرة للدهشة، وفي طليعتها طبيعة الوفد نفسه، الذي ترأّسه وزير داخليّة حكومة طالبان سراج الدين حقّاني. وللتذكير، يُعتبر حقّاني أبرز المطلوبين للولايات المتحدة الأميركيّة، مقابل مكافأة ماليّة تصل إلى 10 مليون دولار أميركي، على خلفيّة دوره في تنظيم هجمات استهدفت المصالح الأميركيّة في أفغانستان.
بهذا المعنى، كانت أبوظبي –أحد أقرب حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة- تذهب بعيدًا في الاحتفاء بأقوى وجوه الحركة الأمنيين والعسكريين، وأكثرهم نفوذًا داخل أفغانستان، بدل الاكتفاء باستقبال الوجوه الطالبانيّة الدبلوماسيّة. وهذا الرجل، يُعتبر أحد أركان الحرس القديم في الحركة، أي الجناح المُصر على إعادة اتباع الممارسات الإمارة الإسلاميّة عينيها، والتي جرى تشكيلها سابقًا عام 1996. وكانت تلك الزيارة إلى الإمارات المهمّة الأولى التي يقوم بها حقّاني علنًا خارج حدود دولته، منذ سيطرة طالبان على الحكم.
أمّا الخطوة الأكثر تعبيرًا عن الاهتمام الإماراتي بالوفد، فكانت استقبال حقّاني من قبل رئيس الدولة محمد بن زايد آل نهيان، بدل الاكتفاء باستقباله من قبل نظيره الإماراتي كما يفرض البروتوكول. كما ضمّت الاجتماعات رئيس الاستخبارات العامّة الأفغانيّة –التابعة لحكومة طالبان- عبد الحق وثيق، في إشارة إلى الطابع الأمني الحسّاس الذي تناولته تلك المباحثات.
وفي أولى النتائج المُثمرة لتلك الزيارة، حقّقت طالبان هدفها في آب/أغسطس 2024، بإعلان الإمارات استقبالها لسفير يمثّل حكومة طالبان، وهو ما يُعتبر اعترافًا دبلوماسيًا صريحًا بمشروعيّة هذه الحكومة. ومن الجدير الإشارة إلى أنّ الإمارات كانت الدولة الثانية التي تقبل بمبعوث من حكومة طالبان منذ العام 2021، بعد الصين، وهو ما يعطي هذه الخطوة رمزيّة وأهميّة خاصّة.
التسامح الأميركي مع الإمارات
في مقابل الجرأة التي أبداها بن زايد، عند استقبال حقّاني، أبدت الولايات المتحدة مرونة وتسامحًا فاجأ بعض المراقبين. فالمتحدّث الرسميّ بإسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر عقّب على الزيارة بالاكتفاء بالتذكير بوجود آليّة قانونيّة معيّنة يجب اتباعها، لإعفاء الدول –مثل الإمارات- من القيود المفروضة على استقبال المطلوبين دوليًا.
وبهذا الشكل وجّهت الخارجيّة الأميركيّة إشارة ضمنيّة لعدم اعتراضها على الزيارة من حيث المبدأ، دون تناسي القيود القانونيّة المحيطة بحركة حقّاني.
ويمكن تفهّم المرونة الأميركيّة من زوايا مختلفة. فالولايات المتحدة، وسائر الدول الغربيّة، لا تجد نفسها اليوم في موقع يمكنها من الانفتاح دبلوماسيًا وسياسيًا واقتصاديًا على حكومة طالبان، بالنظر إلى التاريخ الدموي القريب بينها وبين الحركة. ومن الطّبيعي أن لا ترحّب الإدارة الأميركيّة باستعادة العلاقات المباشرة والوثيقة بشكلٍ سريعٍ، مع تنظيم جاء إلى السلطة بهجوم عسكري، على أنقاض الحكومة المُعترف بها في الغرب.
أمّا مؤسّسات الأمم المتحدة، فمازالت معنيّة بالملفّات المتعلّقة بممارسات الحركة وانتهاكاتها بعد سيطرتها على كابل.
على هذا الأساس، ترى واشنطن في الإمارات حليفًا قادرًا على استيعاب حركة طالبان، عبر نسج شبكة من المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة مع حكومتها في كابل. وهذا الدور الذي تلعبه أيضًا قطر وتركيا، سيكون كفيلًا بمنافسة النفوذين الصيني والروسي في أفغانستان، والتي تملك أكثر من 21 مليون طن من احتياطات اللّيثيوم في ولاية غزني وحدها.
ومن المعلوم أنّ الاستحواذ على هذا المعدن يمثّل حاليًا أحد محاور الصراعات التجاريّة المحتمدة، لكونه أحد العناصر الضروريّة في عمليّة إنتاج البطّاريّات، ضمن صناعة السيّارات الكهربائيّة. وعلى أي حال، تُعتبر أفغانستان إحدى الدول الغنيّة باحتياطات النحّاس والحديد والذهب والفضّة والزنك، وغيرها من المعادن التي تدخل في مختلف القطاعات الصناعيّة، وهو ما يفسّر الاندفاعة الصينيّة السريعة للانفتاح على الحركة.
في الوقت عينيه، بالنسبة للإدارة الأميركيّة، يسمح انفتاح بن زايد على حركة طالبان بضبط إيقاع عمل الحركة، لمنع تحوّل أفغانستان إلى قاعدة انطلاق للعناصر الجهاديّة التي تعمل عبر الحدود. ويمكن القول أنّ هذه المخاوف الأمنيّة تمثّل مصلحة خليجيّة أميركيّة مشتركة، لمنع تكرار نموذج تنظيم القاعدة، الذي نشأ سابقًا –في أفغانستان- بدعم عربي وتواطؤ أميركي.
ومن الواضح أنّ الدول العربيّة التي سمحت سابقًا بانتقال “المجاهدين” إلى أفغانستان لمحاربة الشيوعيين، باتت تدرك اليوم نوعيّة المخاطر التي تحيط بهذه المغامرات.
أهداف الإمارات وطالبان من التقارب
بموازاة براغماتيّة واشنطن، ترى الإمارات أن انفتاحها على حركة طالبان يعزّز حظوتها ومكانتها كشريك للدول الغربيّة، بوصفها دولة قادرة على التأثير على الساحة الأفغانيّة.
وكان النظام الإماراتي قد بدأ منذ العام 2018 بلعب هذا الدور، عبر التوسّط الأمني ما بين الولايات المتحدة الأميركيّة وحركة طالبان، وهو ما بدا كمحاولة لمنافسة قطر، التي كانت تلعب في ذلك الوقت الدور نفسه. وعلى مرّ السنوات اللاحقة، عزّزت الإمارات علاقاتها بشكلٍ متدرّجٍ مع حركة طالبان.
ومع سقوط حكومة كابل السابقة عام 2021، وسيطرة طالبان على الحكم، وجدت الإمارات الفرصة سانحة لعرض نفسها كحليف قيّم للغرب. وهكذا عملت أبوظبي خلال تلك المرحلة على عمليّة إجلاء الدبلوماسيين الغربيين من كابل، إلى جانب أكثر من 28 ألف مواطن أفغاني عملوا سابقًا مع الوكالات والمنظمات الغربيّة.
بمجرّد سيطرتها على الحكم، عقدت حركة طالبان اتفاقًا مع تركيا وقطر لتشغيل مطارات أفغانستان وتولّي إدارتها، غير أنّ الشروط التركيّة والقطريّة الأمنيّة سرعان ما دفعت الحركة للتخلّي عن هذا الاتفاق. وهكذا، سرعان ما قدّمت الإمارات نفسها كبديل مناسب، لتحصل على امتياز تشغيل المطارات في أيّار/مايو 2022. ومرّة جديدة، كان الدور الإماراتي يأتي على حساب الدورين القطري والتركي.
من جهتها، ترى حركة طالبان الإمارات كدولة إسلاميّة وعربيّة مُستعدّة لتعميق العلاقات السياسيّة والدبلوماسيّة معها، وهو ما يتناسب مع هدف حصولها على المشروعيّة الدوليّة. غير أنّ أهداف طالبان من هذا التقارب يشمل أيضًا تنويع علاقاتها الخارجيّة، كي لا تبقى الحركة رهينة الوساطات والمصالح الاقتصاديّة القطريّة والتركيّة.
ولعلّ صفقة المطارات كانت أبرز مثال على إمكانيّة المناورة لدى حركة طالبان، بحثًا عن مصالحها، دون الارتباط حصرًا بقطر أو تركيا.
في العلاقة بين الطرفين، كان لافتًا حرص الإمارات على استضافة الرئيس الأفغاني المخلوع –الذي أطاحت به طالبان- أشرف غاني على أراضيها. ومن خلال هذه الخطوة، كان بإمكان الإمارات الاحتفاظ بورقة مقايضة وضغط في علاقتها مع حركة طالبان.
إذ بات النظام الإماراتي يخدم حركة طالبان عبر ضبط حركة غاني السياسيّة في الخارج، كما أصبحت طالبان تُدرك أن الإمارات قادرة على إزعاجها بتحريك غاني عند اللّزوم.
الدور القطري: تاريخيّ ومستمر
عند سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابل عام 2021، قيل إنّ الحدثَ مثّل نجاحًا لأبرز رهانات السياسة الخارجيّة القطريّة، بعدما استضافت العاصمة القطريّة منذ العام 2013 المكتب السياسي لحركة طالبان. وبين عامي 2013 و2021، كانت الدوحة العنوان الرئيس الذي لجأت إليه الولايات المتحدة للتفاوض مع طالبان، بمعزل عن المحاولات التي قامت بها الإمارات، لمنافسة قطر على هذا الدور.
وعلى مرّ السنوات التي تلت سقوط كابل بيد طالبان، ظلّت الدوحة عنوان المباحثات الأممية مع الحركة، للتفاوض حول ملفّات حقوق المرأة والاستعباد.
بهذا الشكل، ظلّت قطر –قبل وبعد سقوط كابل عام 2021- حبل النجاة الذي اعتمدت عليه طالبان للتواصل مع العالم، وإن حاولت الحركة تقليص اعتمادها السياسي المُفرط على الدوحة كما أشرنا.
وإلى جانب الدور الدبلوماسي، لعب الهلال الأحمر القطري دورًا أساسيًا في تنسيق وإيصال المساعدات الإنسانيّة في أفغانستان،وذلك بالتفاهم مع حركة طالبان.
كما عملت السلطات القطريّة بشكلٍ رسميٍ ومنظّم، على تشجيع استثمارات رجال الأعمال القطريين في قطاعات الزراعة والتعدين والأمن الغذائي في أفغانستان.
تمامًا كحال الإمارات، سعت قطر –من خلال هذه العلاقة- إلى تعزيز مكانتها السياسيّة من خلال لعب دور الوساطة، وهو ما يُشبه الدور الذي قامت به الدوحة باستضافة المكتب السياسي لحركة حماس.
لكن بالتوازي مع هذا الهدف السياسي، تمكنت الدوحة من توظيف فوائضها الماليّة في مشاريع اقتصاديّة إستراتيجيّة في أفغانستان، وخصوصًا في قطاع البناء.
تركيا: الرهان على الحضور الاقتصادي
استفادت تركيا من انفتاح حليفتها المقرّبة قطر على حركة طالبان، لتنافس بدورها على الحضور والنفوذ في أفغانستان. بالنسبة لتركيا، تُعتبر أفغانستان البوابة الجنوبيّة لمنطقة آسيا الوسطى والقوقاز، التي تضم البلاد الناطقة بالتركيّة، والتي يعتبرها الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان عمقًا إستراتيجيًّا لبلاده.
بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، خسرت تركيا فرصة تشغيل المطارات الأفغانيّة بالشراكة مع قطر، لمصلحة الإمارات. لكنّها عادت وتمكنت لاحقًا من الدخول في صفقات كبيرة مع حكومة طالبان، في قطاع إنتاج الكهرباء، وبعقود تتجاوز مدتها العقدين من الزمن. وكانت الشركات التركيّة الأولى التي توقّع عقود من هذا النوع من حكومة طالبان، وهو ما مثّل انفتاحًا اقتصاديًا احتاجته الحركة بشدّة.
بشكلٍ عام، يسعى أردوغان علنًا إلى توسيع هذا النوع من الشراكات الاقتصاديّة، لتأمين حضور بلاده في أفغانستان، بعدما فشل في التفاهم مع طالبان على اتفاقيّات تؤمّن حضور تركي أمني مباشر في كابل.
ولهذه الغاية، نظمت تركيا في تموز/يوليو 2024 زيارة لرجال الأعمال الأتراك إلى كابل، للتعرّف على مجالات الأعمال وبيئة الاستثمار، والاجتماع بكبار المسؤولين الأفغان.
ومن الضروري التنويه إلى أنّ أثنيّة الأوزبك التركيّة، تمثّل نحو 17% من سكّان أفغانستان، وتهيمن على مناطق واسعة في شمال البلاد، وهو ما يفترض أن يسهّل انخراط المستثمرين الأتراك في تلك البيئات.
إيران والحسابات الأمنيّة
في المقابل، تطغى الهواجس والحسابات الأمنيّة حاليًا، على علاقات النظام الإيراني مع حركة طالبان. قبل انسحاب القوّات الأميركيّة من كابل، حافظ الحرس الثوري الإيراني على علاقات جيّدة وغير مُعلنة مع حركة طالبان، بوصفها قوّة مناهضة للحضور الغربي في المنطقة.
بل وأشارت بعض شهادات مقاتلي طالبان إلى تلقيهم السلاح والتدريب العسكري من داخل الأراضي الإيرانيّة، قبل القيام بعمليّات أمنيّة ضد القوّات الأميركيّة في أفغانستان.
بعد سيطرة حركة طالبان على كابل، سرعان ما ظهرت التوتّرت على الحدود الإيرانيّة الأفغانيّة، والتي بلغت حد الاشتباكات المسلّحة بين الجانبين عام 2023، بسبب الخلافات الحدوديّة والنزاعات على حصص المياه. ثم بدأت طهران تتوجّس من تنامي الأعمال الأمنيّة العدائيّة داخل أراضيها، الناتجة عن فوضى الحدود الممتدة عبر الجبال الوعرة بين البلدين، ونشاط عصابات التهريب في تلك المناطق.
هكذا، باتت إيران معنيّة بتعميق علاقتها مع حكومة طالبان، إنما بهدف استيعاب الخضات الأمنيّة التي يمكن أن تنتج عن الاضطرابات على حدود البلدين.
ولهذه الغاية، قامت إيران بتسليم السفارة الأفغانيّة في طهران إلى عناصر من حركة طالبان منذ العام 2023، لإعطاء العلاقة بين البلدين طابعًا رسميًا، وهو ما اعتبرته الحركة إنجازًا على طريق اكتساب الشرعيّة والاعتراف الدولي.
في النتيجة، يمكن القول إن حركة طالبان حقّقت تقدّمًا كبيرًا في علاقتها مع بعض دول الشرق الأوسط، وهو ما يصب في خدمة هدف نيل المشروعيّة الدوليّة.
ومع ذلك، من المؤكد أنّ الحركة لا تزال بعيدة عن الوصول إلى هدفها الأهم، وهو الاعتراف بتمثيلها لأفغانستان في أروقة الأمم المتحدة. إذ مازالت هذه الخطوة معلّقة حتّى اليوم، بانتظار رفع طالبان للقيود على تعليم المرأة، وتشكيل حكومة موسّعة تضم شرائح سياسيّة من خارج الحركة.