شجرة الزّيتون في المناظر الطّبيعيّة الفلسطينيّة واللّبنانيّة الخلّابة رمز للسّلام والأمل ومصدر الرّزق، وقد استهدفتها قوى الاحتلال الإسرائيليّ عمدًا.
دانا حوراني
لم تتوقّع رلا، البالغة من العمر 55 عامًا، حصادًا وافرًا من الزّيتون هذه السّنة. فعائلتها تملك رقعة صغيرة من الأرض في بلدة “صدّيقين” في جنوب لبنان، حيث حافظ أفرادها على عادة حصاد الزّيتون عبر الأجيال لإعالة أنفسهم. وفي كلّ خريف، بعد هطول المطر للمرّة الأولى، يجتمعون لحصاد الزّيتون النّاضج من أشجار أجدادهم، ويحضّرونه في برطمانات أو يعصرونه للحصول على الزّيت وبيعه في الأسواق المجاورة.
لكن لم يكن حصاد الزّيتون في جنوب لبنان هذه السّنة كما هو متوقّع.
إذ عقب الحرب الّتي شنّتها إسرائيل ضدّ غزّة، والّتي تلت هجوم حماس المفاجئ في السّابع من تشرين الأوّل، بدأت الاشتباكات بين حزب اللّه وإسرائيل على طول الحدود اللّبنانيّة الجنوبيّة. وكجزء من قصفها الشّديد للبلدات الحدوديّة الجنوبيّة، كانت إسرائيل تطلق قذائف مدفعيّة مليئة بالفوسفور الأبيض، وهي سلاح حارق يخالف القانون الدّوليّ الإنسانيّ عند استخدامه عشوائيًّا، وذلك إضافة إلى أنّ للفوسفور نتائج كارثيّة على الأراضي الزّراعيّة فهو سامّ للتّربة ومصادر المياه ويحرق المحاصيل.
استُخدِم السّلاح نفسه في غزّة وما زال يُستخدَم، وكانت الهجمات على أشجار الزّيتون بشكل خاصّ قاسية، فقد مات ما يقارب 40,000 شجرة زيتون في جنوب لبنان نتيجة قنابل الفوسفور الأبيض.
على الرّغم من عدم الهجوم مباشرة على أرض عائلة رلا، يستمرّ الخوف من تعرّض مصدر رزقهم وتراثهم الموروث عن أسلافهم للخطر جرّاء تصاعد في الحرب.
قالت رلا لفناك: “في ظلّ التّهديد بتصاعد الحرب، سارعنا إلى جمع أكبر عدد ممكن من الزّيتون طالما نتمتّع بالفرصة لفعل ذلك. نعتبر أنفسنا محظوظين لعدم تضرّر أرضنا، لكن للأسف لا يمكن للعديد من العائلات في الجنوب قول ذلك.”
تحمل أشجار الزّيتون قيمة تاريخيّة وحضاريّة وزراعيّة تعود إلى قرون بعيدة في المشرق العربيّ، بخاصّة فلسطين، حيث أصبحت رمزًا للصّمود والمقاومة، وقد استهدفتها قوى الاحتلال الإسرائيليّ والمستعمرون الإسرائيليّون عمدًا.
أشجار الزّيتون مَعلَم تاريخيّ
شجرة الزّيتون في المناظر الطّبيعيّة الفلسطينيّة واللّبنانيّة الخلّابة رمز للسّلام والأمل ومصدر الرّزق. وقد اعتمد المزارعون في هذه المناطق، عبر الأجيال، على زراعة الزّيتون وإنتاج زيت الزّيتون كمصدر عيشهم الأساسيّ.
منذ العصور القديمة، وبالعودة إلى أوائل العصر البرونزيّ (~3600 قبل المسيح)، لطالما تمتّعت شجرة الزّيتون بأهمّيّة اقتصاديّة عظيمة في سوريا، ولبنان، وفلسطين. ولقد لعبت زراعتها دورًا محوريًّا في تحديد ثقافة الحضارات القديمة وتراثهم في هذه المنطقة.
ولقد ذُكرت شجرة الزّيتون مرّات متعدّدة في الكتابات اليهوديّة، والمسيحيّة، والقرآنيّة مثبتة مكانتها الأساسيّة في التّراث الحضاريّ المشرقيّ. نشير أيضًا، إلى أنّ شجرة الزّيتون مبجّلة كرمز للسّلام والازدهار في نصوص من الكتاب المقدّس مثل سفر التّكوين 8:11 وسفر التّثنية 8:8.
قطعت قوّات الاحتلال الإسرائيليّة أكثر من 800,000 شجرة زيتون فلسطينيّة بطريقة غير قانونيّة منذ نكبة 1948، عندما طردت إسرائيل الفلسطينيّين بعنف وسلبت منهم أرضهم. في آب 2021 وحده، قُلعت وتضرّرت 9000 شجرة في الضّفّة الغربيّة المحتلّة من محافظة سلفيت.
إضافة إلى ذلك، غالبًا ما تحرق القوّات الإسرائيليّة هذه الأشجار أمام أعين أصحابها، منهية بذلك على غفلة سبل عيشهم. وإلى جانب الدّمار المادّيّ الّذي يصيب آلاف الأشجار، يتعرّض المزارعون للعديد من العقبات خلال موسم الحصاد، بما فيها صعوبة الحصول على تراخيص.
إذ وافقت إسرائيل على 24% فقط من تراخيص الوصول إلى الأراضي في 2020، مصعّبة بذلك على المزارعين الفلسطينيّين الدّخول إلى أراضيهم باستمرار. ومتى صدرت التّراخيص يجب تجديدها دوريًّا من دون ضمان بالموافقة على ذلك.
في غزّة يُنتَج إجمالًا 5000 طنّ من زيت الزّيتون كلّ عام، وذلك يلعب دورًا مهمًّا في اقتصاد المنطقة ودعم الكثير من العائلات. وعلى الرّغم من حصار دام 16 عامًا والإبحار عبر مشهد سياسيّ معقّد، لطالما حافظ مزارعو غزّة على إنتاج زيت زيتون عالي الجودة.
إلّا أنّ الحرب الجارية حوّلت بساتين الزّيتون الخلّابة في غزّة إلى مناطق خطرة.
على غرار غزّة، حصاد الزّيتون مصدر دخل أساسيّ للكثير من أبناء الضّيع في لبنان، بما فيها الجنوب. غير أنّ الاشتباكات المتصاعدة على الحدود الجنوبيّة جعلت قطاف الزّيتون مهمّة خطرة. وبحسب ما أفادته الجزيرة، استمرّ العديد من المزارعين بالاهتمام بأراضيهم على الرّغم من القصف المستمرّ.
وبحسب الجمعيّة اللّبنانيّة البيئيّة “الجنوبيّون الخضر” (GS)، أدّت قنابل الفوسفور الأبيض بشكل خاصّ، إلى ضرر قصير الأمد وطويل الأمد. فالأضرار المباشرة تأتي من حرق الأشجار والمزروعات الأخرى، وذلك عرقل موسم الحصاد للعديد من العائلات. فيما تتضمّن الأضرار غير المباشرة تعطيل الدّورة الاقتصاديّة بأكملها، وقطاع إنتاج الزّيتون ومعالجته.
صرّح الجنوبيّون الخضر لفناك بأنّ “للفوسفور الأبيض كملوّث آثار طويلة الأمد على التّربة والماء، وهو يؤثّر في نهاية المطاف على القطاع الزّراعيّ واستدامة المجتمعات المحلّيّة.”
قنابل السّمّ الأبيض
يسمح باستخدام قنابل الفوسفور الأبيض المصنّفة كأسلحة حارقة ضدّ أهداف عسكريّة، لكنّها ممنوعة منعًا باتًّا ضدّ المدنيّين، بحسب ما أملته اتّفاقيّة جينيف 1980.
كما أفادت هيومن رايتس ووتش في تقريرها لشهر تشرين الأوّل بأنّ “استخدام إسرائيل للفوسفور الأبيض في عمليّاتها العسكريّة في غزّة ولبنان يعرّض المدنيّين لخطر الإصابات الخطيرة والطّويلة الأمد.”
يبقى أثر القنابل الكيميائيّة وحرائق الغابات في الأنظمة البيئيّة سنين عديدة، وبالتّالي يُحتمل أن تلوّث مجاري المياه والتّربة معرّضة السّلسلة الغذائيّة بكاملها للخطر. على الرّغم من هذه المخاطر، هناك نقص في الأبحاث المعمّقة المتعلّقة بالأضرار المحدّدة الّتي يسبّبها الفوسفور الأبيض للأراضي الزّراعيّة.
قال الجنوبيّون الخضر: “نعتقد أنّ الاحتلال الإسرائيليّ يستهدف عمدًا استدامة المجتمعات المحلّيّة، بهدف جعل جنوب لبنان منطقة غير مأهولة. وبما أنّ غالبيّة العائلات الجنوبيّة تعتمد على الزّراعة كمصدر دخل أساسيّ، يدعم استخدام الفوسفور الأبيض هذه الفرضيّة، ويصعّب معالجة المناطق المتأثّرة وإعادة زراعة المناطق المحروقة.”
لكن، بما أنّه يصعب توقّع مدى الضّرر بدقّة، تؤكّد الجماعة أنّ الضّرر سيختلف بحسب مستوى التّعرّض لهذه المادّة والرّواسب المتبقّية منها على الشّجر، بخاصّة تلك الّتي تحمل ثمر زيتون.
وفسّرت الجماعة أنّ “وجود الحمض الفوسفوريّ في التّربة والماء سيؤثّر أيضًا على حصاد الزّيتون في السّنين القادمة.
لكن في هذه الأثناء علينا القيام بخطوتين ضروريّتين: توفير الإرشادات للمزارعين بشأن كيفيّة إدارة هذا الموسم، وجمع العيّنات من كلّ المناطق المتأثّرة لتقييم مدى التّلوّث، ما يسمح بتصنيف هذه المناطق وتطبيق الإجراءات الضّروريّة.”
حصاد الزّيتون في لبنان لا يخلو من العيوب، إذ تعيقه مخاوف متعدّدة منها توظيف أساليب قديمة مثل ضرب الأغصان بعصي خشبيّة، ونقص في البنى التّحتيّة الصّناعيّة.
وما زال مزارعوا الزّيتون اللّبنانيّون يعتمدون هذه الأساليب التّراثيّة لأنّ التّقنيّات الحديثة تتطلّب تمويلًا لا يملكه بعضهم، بخاصّة في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة المستمرّة الّتي منعت الكثيرين من الوصول إلى أموالهم المدّخرة منذ عام 2019.
على الرّغم من كلّ ذلك، يبقى موسم حصاد الزّيتون جزءًا لا يتجزّأ من الحضارة المشرقيّة. هو مهمّ للعلاقات الاجتماعيّة، وللحفاظ على الإرث العائليّ، وذلك يعطي شجرة الزّيتون مدلولًا جديدًا: المقاومة وملكيّة الأراضي في فلسطين وجنوب لبنان في وجه الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة.
رمز للمقاومة والقوّة
حصاد الزّيتون في تشرين الأوّل والثّاني حدث وطنيّ بالنّسبة إلى الفلسطينيّين، يحتفلون فيه بعلاقتهم بأرضهم وحضارتهم.
ففي الكثير من المناطق، تقطف العائلات والأصدقاء الزّيتون معًا فيما ينشدون أغانٍ شعبيّة لخلق شعور احتفاليّ. وبين العمل والرّاحة، توفّر أشجار الزّيتون مكانًا للنّزهات والاستراحة.
استرجع الخبير في الثّقافة الشّعبيّة، الفلسطينيّ حمزة أسامة العقرباوي، قولًا مأثورًا “الحدائق جنون، والزّراعة مهارة، ولا شيء يدوم إلّا الزّيتون”. يسلّط هذا القول الضّوء على قيمة أشجار الزّيتون الّتي يمكنها تحمّل الأحوال الجوّيّة القاسية، وإعطاء الثّمار بالحدّ الأدنى من الاعتناء.
يفسّر العقروابي أنّه فيما تؤمّن أشجار الزّيتون حبّات الزّيتون وزيتها للاستخدام اليوميّ، تُقدَّر أيضًا منتجاتها الثّانويّة مثل صابون زيت الزّيتون النّابلسيّ الشّهير، والحطب للشّتاء.
ويقول الخبير أنّ اقتلاع أشجار الزّيتون جزء ضروريّ من خطط إسرائيل لتوسيع مستوطناتها غير الشّرعيّة.
يكمل بالقول: “وجود هذه الأشجار رمز للملكيّة، فمعناها وجود مزارعين وأشخاص يهتمّون بالأرض ويدافعون عنها. لذلك من الجوهريّ تدمير بساتين الزّيتون لمنع أيّ علاقة بين الفلسطينيّين وأرضهم.”
أمّا بحسب حكاية شعبيّة، كما أعاد سردها العقروابي، فيُعلِم مزارع فلسطينيّ شجرة أنّه ينوي التّوقّف عن الاعتناء بها. لكن تتعهّد شجرة الزّيتون من دون رادع أن تستمرّ بإعطاء الثّمر، بغضّ النّظر عن قرار المزارع.
وفيما يتحضّر المزارع للمغادرة، معلنًا للشّجرة أنّه لن يزورها بعد الآن، ترجوه شجرة الزّيتون في فورة مفاجئة أن يبقى معبّرة “لسنا شيئًا من دونك؛ نحن نعطي من رائحتك ونَفَسك.”
ألحق الخبير ذلك بقوله: “هذا مثال بسيط عن العلاقة المتينة بين الفلسطينيّين وأرضهم، ويُنظَر إلى أشجار الزّيتون كرمز للمقاومة لأنّ جذورها عميقة في الأرض ويمكن لأغصانها الصّمود في أشّد العواصف.”
وأضاف أنّ هذه العلاقة تمتدّ إلى جنوب لبنان، حيث عانى أبناء الضّيع من 20 سنة من الاحتلال الإسرائيليّ قبل تحرير المنطقة عام 2000.
قال أيضًا: ” يشارك اللّبنانيّون الجنوبيّون رأي الفلسطينيّين، الّذين لا يقبلون بالاحتلال ويتمسّكون بأرضهم في السّرّاء والضّرّاء.”
أمّا بهدف الحفاظ على الحضارة والإرث، فيؤكّد العقرباوي على ضرورة الرّموز. فالرّموز مثل شجرة الزّيتون تشجّع الشّعوب المهدّدة بالانقراض وتقوّيها للتّمسّك بماضيها وإرثها برفض التّخلّي عن أراضي أجدادها، وحكاياتها الشّعبيّة، وتقاليدها.
ويشير أخيرًا إلى أنّ: “اعتنت أجيال عديدة بأشجار الزّيتون في فلسطين ولبنان، الّتي شهدت على المحن الّتي عانت منها هذه الأيادي. ومن هذا المنطلق، بقاء هذه الأشجار يشهد لصلابة شعبَي هذين البلدين اللّذين ما زالا يصارعان لبقائهما ويقاومان الاحتلال والتّهجير.”