تعكس تطوراتا لأزمة السودانية فشلا إقليميا ودوليا في منع اندلاع الحرب التي كانت تلوح في الأفق منذ أسابيع على السلطة بين البرهان وحميدتي.
خالد محمود
يبدو أن الأزمة الجديدة التي يعيشها السودان ستزيد من تعقيد ما يواجهه السودانيون من تحديات. وتعكس تطورات الوضع في السودان فشلا إقليميا ودوليا في منع اندلاع الحرب التي كانت تلوح في الأفق منذ أسابيع بين الرجلين المتنازعين على السلطة فعليا في البلاد.
بهدوء شديد، وعلى مرأى ومسمع من العالم كله، انزلق السودان إلى أتون حرب أهلية جديدة. وتدور هذه الحلقة الجديدة من الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وبطبيعة الحال، فإن هذا المشهد المأساوي يضاعف من حدة الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعيشها البلاد.
تسابُق الدول على سحب رعاياها من السودان يشي بأن ثمة مرحلة أخرى مقبلة من التصعيد. وعلى ما يبدو، فإنّ المجتمع الدولي قرّر ترك الشعب السوداني بمفرده في مواجهة ما يجري.
وتظهر صور الأقمار الصناعية الأضرار الناجمة عن القتال المستمر للقوات المتنافسة من أجل السلطة الكاملة.
أحد الصحفيين السودانيين أطلع فنك على الصورة المأساوية القاتمة التي يعيشها السودان. وقال الصحفي الذي اشترط عدم تعريفه: “الوضع الراهن مأزوم ولا يسر. لليوم العاشر، نعيش بلا ماء أو كهرباء. أصوات المدافع تحاصرنا، وروائح الدم تزكم أنوفنا. الناس تعبوا مما يعيشونه”.
الصحفي المقيم في منطقة الخرطوم بحري يلفت الانتباه إلى أن “البلاد الهشة ولا تتحمل هذه الأوضاع المضطربة”.
لكن ما جرى لم يكن مفاجئا على الإطلاق. وسبقت الاشتباكات الحالية إرهاصاتٌ تشير إلى أن المعركة قادمة لا محالة بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ونائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”.
وإلى جانب توليه لمنصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، يقود حميدتي قوات الدعم السريع التي تعتبر بمثابة جيش ثانٍ غير نظامي. ورغم أن قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية أطاحت معاً بالحكومة الانتقالية السودانية في أكتوبر 2021، فقد دبت بينهما خلافات بسبب رفض حميدتي وضع قواته تحت إمرة البرهان.
وكان من المفترض أن يتم دمج قوات حميدتي في صفوف الجيش السوداني الرسمي في إطار الإصلاحات الأمنية المتزامنة مع مفاوضات تشكيل حكومة انتقالية جديدة في السودان. وبعد مرور أسابيع من المراوحة في المكان، كان لا بد وأن يندلع القتال بين الجانبين.
زيارة نجل حفتر
قبل أيام قليلة من بدء القتال، حلّ الصدّيق، النجل الأكبر لقائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، في الخرطوم في زيارة مفاجئة.
وعلى هامش الزيارة التي تمت على خلفية رئاسته الفخرية لنادي المريخ السوداني لكرة القدم، صاحب الشعبية الجارفة في السودان، التقى نجل حفتر بحميدتي. وفي حديث خاص لفنك، وصف نجل حفتر المقابلة على النحو التالي: “وجدت رجلا يتصرف كأنه رئيس دولة. كلّ شيء حوله يقول ذلك”.
وبحسب تلك الرواية، سأل حميدتي ضيفه الصديق حفتر عمّا إذا كان يعرف ليبيا جيدا، قبل أن يباغته بإجابة غير متوقعة، تباهى خلالها بأنه زار ليبيا عدة مرات ويعرفها ككفّ يده منذ أيام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
الابن الأكبر لحفتر نجا من الوقوع رهينةً للاشتباكات اللاحقة التي شهدتها السودان، بعدما قرر على نحو غير مفاجئ إنهاء زيارته.
وقال الصديق حفتر لفنك: “لم أكن أشعر بالارتياح للمراسم التي تمت. كانت هناك شواهد وأدلة على أنّ هناك شيئا ما غير صحيح على الإطلاق”. وأشار إلى أن هذا الشعور تعزز عندما تم إخباره بأن حميدتي قرّر إرسال بعض عناصر فريق حمايته الشخصية معه خلال باقي أيام زيارته للسودان.
وأضاف: “استغربت الأمر، فهناك قوة حماية رسمية توفرها السلطات السودانية، إلى جانب فريق الحماية الذي اصطحبته معي خلال الزيارة، ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو لحماية مضاعفة”.
ما لم يدركه نجل حفتر هو أنّ حميدتي كان يستغل كل الظروف لإظهار نفسه كحاكم ثانٍ للسودان، إلى جانب البرهان.
كانت الزيارة فخاً للإيحاء بأن لدى حميدتي علاقة ما بالمشير حفتر. كما أنها كانت محاولة لدفع نجل حفتر للتبرع بالمال لنادي المريخ الذي كان للتو قد فقد راعيه السعودي.
وفقا لمعلومات فنك، فقد أجرى المشير حفتر اتصالين هاتفيين غير معلنين مع البرهان وحميدتي. وأكد حفتر في هذين الاتصالين أن قوات الجيش الوطني الليبي التي يقودها ليست طرفا في النزاع العسكري في السودان. كما طالب البرهان وحميدتي بوقف الحرب والجلوس إلى مائدة مفاوضات.
لاحقا، اقترح حفتر في بيان تلاه اللواء أحمد المسماري، الناطق الرسمي باسمه، تشكيل لجنة وساطة من جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي لوقف القتال في السودان وترتيب حوار بين طرفي النزاع.
بالطبع، لم يستجب أحد لتلك المبادرة، تماما كما هو الحال بالنسبة لمطالب إقليمية ودولية تجاهلها البرهان وحميدتي. وعلى ما يبدو، فإن الجنرالين قررا المضي إلى أبعد مدى فى معركة تكسير العظام بينهما، على حساب أمن واستقرار السودان.
وانخرط مبعوثون أجانب في اجتماعات طويلة مع البرهان وحمدان، في محاولةٍ للتوصل إلى اتفاق. وجاء في إطار ذلك تناول مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرتس الإفطار الرمضاني في منزل نائب قائد الجيش الفريق شمس الدين الكباشي.
وبينما قال مسؤولو الأمم المتحدة إنه ليس هناك ما يشير إلى حرب مقبلة، فقد كانت الآلات العسكرية المتنافسة تستعد للقتال في ظلمة الفجر.
لا تبدو الوساطة الأممية كالعادة ناجحة في ملف السودان. وكشف الصحافي المخضرم طلال الحاج عن انخفاض طموح بيرتس الذي قال إنه يريد وقفاً لإطلاق النار لبضع ساعات يوميا لتوصيل المساعدات الإنسانية لملايين السودانيين الذين هم في أمس الحاجة إليها. ووفقا للحاج، فقد استغرب البعض هذا التصريح وانخفاض سقف توقعاته ومطالبه تجاه الوقف الفوري لإطلاق النار الذي يطالب به أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة.
خسارة مصر
تبدو مصر أكبر الدول خسارةً جراء هذا التحول السريع في مجريات الأحداث في السودان. وكشفت الأحداث الأخيرة عن وجود عسكري مصري، اعتبر أنه لـ “دواعي تمارين عسكرية مشتركة”.
يأتي ذلك في الوقت الذي تجاهل فيه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أي دورٍ يمكن أن يناط بالقاهرة للتخفيف من حدّة التوتّر في السودان. وفي حين لم يتصل بلينكن بأي مسؤولٍ مصري، فإنه تواصل هاتفيا بنظيريه السعودي فيصل بن فرحان والإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان.
التجاهل الأمريكي للدور المصري في السودان دفع قناة القاهرة الإخبارية المحسوبة على مصر بالتساؤل حول مبررات اختيار أمريكا التعاون مع الإمارات والسعودية بالتحديد بشأن السودان.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دفع بمبدأ توازن العلاقات وعدم التدخل في شؤون السودان. كما أنه أعطى الأولوية لعودة المقاتلين المصريين من السودان. في المقابل، دأبت قناة القاهرة على تبني مواقف أقرب للبرهان في مواجهة حميدتي.
وكان لافتا توقُّع عمرو موسى، وزير الخارجية المصري الأسبق، تبني القاهرة لسياسة ديناميكية وقيامها بجولات دبلوماسية نشطة لتأمّن موقعاً رئيسياً لها في سياق النزاع الدائر في السودان. وبحسب موسى الذي شغل أيضاً منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، فإن الجولات الدبلوماسية المصرية ستكون علنية وسرية في المجالين العربي والافريقي للحيلولة دون استبعادها من الاتصالات الجارية حاليا.
لكن أخطر ما قاله موسى هو أن بعض المصالح العربية قد تتعارض مع المصالح المصرية الأكثر عمقا في السودان، وكذلك الحال في أفريقيا. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية المصري الأسبق: “يتوقع من مصر وقفة صريحة وجريئة، إذ أن مصالحنا الحيوية في تلك المنطقة بأسرها أصبحت مهددة وعلى المحك. احتمال استغلال إثيوبيا للوضع يفاقم مشكلة السد بالنسبة لنا”.
ساويرس على الخط
اعتبر رجل الأعمال والملياردير المصري المعروف نجيب ساويرس أنّ ما يحدث في السودان محاولةٌ من النظام السابق التملّص من اتفاقات إعادة الديمقراطية. واعتبر ساويرس أن النظام يقوم بمحاولته تلك عبر “توريط القوات المسلحة في حرب أهلية لا جدوى منها لاستمرار حكم ديكتاتوري”.
ساويرس، الذي قال إن “النصر حليف قوى الحرية” التي لم يحددها، يتخذ موقفا أقرب ما يكون داعما لوجهة نظر حميدتي. ومن اللافت أنّ حساب الأخير على تويتر لا يتابع سوى ساويرس. وحول تساؤلات متابعيه على تويتر بشأن هذه العلاقة، علق ساويرس ساخرا بقوله “إحنا قرايب”.
فى المقابل، استغربت وسائل إعلام مصرية اصطفاف ساويرس إلى جانب حميدتي، في موقف يتعارض مع الموقف الرسمي والشعبي لمصر المؤيد لوحدة السودان وعدم الانجرار وراء ويلات الحرب الأهلية هناك.
لكن ساويرس غير المكترث بهذه المفارقة المثيرة للجدل، اعتذر لفنك عن التعليق، مبقيا المزيد من التساؤلات حول طبيعة استثماراته في السودان وعلاقته بحميدتي.
دور الإمارات
تسيطر قوات حميدتي على جبل عامر، حيث أحد أكبر مناجم الذهب السودانية. وساعدت امتيازات تعدين الذهب المربحة وأزمة اليمن حميدتي على تكوين ثروة عبر إرسال آلاف الجنود للقتال في اليمن، حيث دفعت الإمارات مبالغ كبيرة مقابل خدماته. وتجدر الإشارة إلى أن بعض حسابات حميدتي على وسائل التواصل الاجتماعي تدار من داخل الإمارات.
الإمارات التي وظفت حميدتي، تلعب دورا رئيسيا في الصراع الدائر في السودان، وفقا لمصادر سودانية مطلعة تحدثت لفنك، مشترطة عدم تعريفها.
وبينما أخفق الغرب في تسهيل الانتقال الدائم إلى الديمقراطية في السودان، دخل حلفاء الأمس البرهان وحميدتي في صراعٍ كارثي، وسط مخاوف تحيط بهذه الدولة الإفريقية الشاسعة.
حميدتي، وهو على مشارف الخمسين، يقدّم نفسه كقائد مستقبلي وكبطل للمهمشين. وكان قائد قوات الدعم السريع تاجر جمال قبل تحوله إلى قائد ميليشيا معروف بالقسوة. وتبناه الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، لدرجة أنه وصفه بـ “حمايتي” وعينه رئيسًا لقوات الدعم السريع.
ما يحدث في السودان يهدد بدخول هذه الدولة إلى نادي الدول الفاشلة. كما أنه يفتح الباب لمرحلة جديدة من التدخلات العابرة للقارات لاحتواء النزاع قبل أن يتفاقم.
في المقابل، قال مصدر في وزارة الإعلام السودانية لفنك: “مزاج الرأي العام المحلي مع قوات الجيش السوداني، ضد قوات حميدتي”. واعتبر المصدر قوات حميدتي “غير مدربة أو مؤهلة مقارنة بما وصفه المؤسسة العسكرية السودانية”، التي تتبنى التقاليد العسكرية البريطانية الصارمة.
وأضاف المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته: “في نهاية المطاف، سينتصر الجيش السوداني الذي يحظى بحاضنة شعبية قوية”. كما حذّر من “وجود أطراف إقليمية متورطة في الصراع، ضد الجيش السوداني بسبب مصالح متعارضة”.
وبطبيعة الحال، فإن السودان لا يملك الآن ترف التفكير في المشاريع السياسة المستقبلية، بما في ذلك المشروع الأمريكي لإبرام اتفاقية سلام مع إسرائيل.
وفيما تسابق أطراف الصراع الزمن وآلته العسكرية في محاولةٍ منها لحسم نزاع السلطة، فإن العملية السياسية برمتها سقطت في السودان المهدد بأزمات اقتصادية واجتماعية. ويبدو أن مصير هذا البلد بات على المحك.