مع وجود الإجراءات القمعية التي تأتي مع الاحتلال، فمن غير المستغرب قط ألا ينتج عن هذا يوماً ما إنتفاضة ثالثة. ولكن هل يمكن القول أن هذا اليوم بات قريباً؟
عمليات طعنٍ وإطلاق نارٍ ورمي للحجارة وأعمال شغب: بات من الصعب تتبع الحوادث التي انتشرت في جميع أنحاء فلسطين وإسرائيل في شهري سبتمبر وأكتوبر لعام 2015. دفع هذا جميع وسائل الإعلام، الدولية والإسرائيلية على حد سواء، إلى التساؤل حول ما إذا كان بالفعل يُمكن إطلاق مصطلح إنتفاضة على موجة العنف هذه. هل نشهد إندلاع إنتفاضة فلسطينية ثالثة؟ وهل حقاً يهمُنا ما نطلق عليها من مصطلحات؟
اندلعت شرارة الإنتفاضة الأولى عام 1987 وانتهت عام 1993، بتوقيع اتفاقات أوسلو. وعلى الرغم من أنّ ما يقارب الـ1,110 فلسطيني و164 اسرائيلي فقدوا حياتهم خلال هذه الفترة، إلا أن الإنتفاضة الأولى تميزت بشكلٍ أساسي بالعصيان المدني، ومقاطعة إسرائيل، والإضرابات. أما في الإنتفاضة الثانية، فقد أريقت الكثير من الدماء على الجانب الإسرائيلي، وذلك بسبب زيادة وتيرة عمليات حماس “الإنتحارية؛” والتي أسفرت عن مقتل 972 إسرائيلي بين عاميّ 2000 و2005. ومع ذلك، عانى الفلسطينيون من خسائر هائلة في الأرواح، بلغت 3,301 شهيد. ومنذ ذلك الوقت، وصفت العديد من موجات العنف الفلسطيني باعتبارها بداية الإنتفاضة الثالثة. وفي خريف عام 2014، حدثت العديد من عمليات الدهس التي قام بها فلسطينيون مستهدفين مدنيين وجنود إسرائليين. قُتل آنذاك ثلاثة أفراد، وجرح العشرات، مما دفع وسائل الإعلام مرة أخرى إلى التكهن بإندلاع إنتفاضة ثالثة، إلا أن الهجمات تلاشت وعادت الحياة إلى “طبيعتها.”
لربما كانت طبيعية بالنسبة للإسرائيليين اليهود، ففي الفترة ما بين يناير وأغسطس 2015، قُتل 19 فلسطينياً على يد قوات الأمن الاسرائيلية. ومع نهاية يوليو، تعرض منزل عائلة فلسطينية في قرية دوما، في الضفة الغربية إلى إلقاء قنابل حارقة. أسفر هذا الهجوم عن حرق رضيعٍ وهو حي، في حين توفي والداه متأثرين بجراحهما في المستشفى. لم ينجو سوى طفل واحد من العائلة، في حين لم يتم إلقاء القبض قط على المشتبه بهم، وهم مستوطنون متطرفون. وفي غضون ذلك، ارتفع عدد المستوطنين اليهود في كل من الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى عدد مذهل وصل إلى 800,000 مستوطن، وبالتالي فإنّ استمرار توسع المستوطنات والبؤر الاستيطانية يؤدي إلى تقسيم الضفة الغربية إلى أجزاء لا حصر لها، مما يجعل حل الدولتين أمر شبه مستحيل. وفي ضوء ذلك، يتعرّض سكان الضفة الغربية إلى هجومٍ من قِبل المستوطنين يصل إلى ما يقرب الـ12 هجوم أسبوعياً. ووفقاً لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية يش دين، ” أن فرصة تقديم شكوى فلسطينية إلى الشرطة الاسرائيلية قد تفضي إلى تحقيق فعال، والعثور على مكان وجود المتهم، ويُتبع ذلك بتقديم لائحة إتهام، ومن ثم المحاكمة والإدانة، لا يتجاوز الـ1,9% فقط.”ومع وجود الإجراءات الأمنية المُذلة عند نقاط التفتيش وتقييد حرية التنقل للفلسطينيين والعديد من السياسات الأخرى التي تأتي مع الاحتلال، فمن غير المستغرب قط ألا ينتج عن هذا يوماً ما إنتفاضة ثالثة. ولكن هل يمكن القول أن هذا اليوم بات قريباً؟
الإنقسام الفلسطيني
جدعون ليفي، وهو كاتب عمود في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، يعتقد أن “الانتفاضة الثالثة قائمة بالفعل، أو في أفضل الأحوال، قاب قوسين أو أدنى.” ويُضيف ليفي، ولكن يجب أن نأخذ بعين الإعتبار العوامل التي حالت دون إندلاع إنتفاضة حتى الآن. “الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون في الإنتفاضة الثانية… وغياب القيادة التي تحرك الشعب للقيام بإنتفاضة جديدة واسعة النطاق، والإنقسام الداخلي الفلسطيني… فضلاً عن العزلة الدولية للفلسطينيين وسط لامبالاة دولية متنامية، والتحسن الطفيف للوضع الإقتصادي في الضفة الغربية.”
يوافق على ذلك أفيخاي ستولر، الذي يعمل لصالح منظمة إسرائيلية تُعنى بحقوق الفلسطينيين.، الذي قال في مقابلة هاتفية “تركت الإنتفاضة الثانية مواطني الضفة الغربية بجدار الفصل العنصري. وانتهى الأمر بما هو أسوء مما كانت عليه الأمور قبل إندلاع الإنتفاضة. بالإضافة إلى ذلك، ليس جميع الفلسطينيين على استعدادٍ لدفع نفس الثمن عند إندلاع الإنتفاضة. فعندما تعيش في مخيمٍ للاجئين، فلا تملك الكثير لتخسره. ولكن، أنظر على سبيل المثال للفلسطينيين في رام الله؛ لا يمكنني القول بالتأكيد أنهم لا يعانون من الإحتلال، إلا أن مستوى معيشتهم أفضل بكثير. إن إندلاع إنتفاضة جديدة سيدمر الاقتصاد الفلسطيني.”
كما أنّ الإنقسام بين الفلسطينيين من مختلف المناطق يزيد الأمور تعقيداً، وذلك وفقاً لأخصائي علم الإجتماع نهاد علي. سيتم قمع الفلسطينيين في الضفة الغربية من قِبل قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، كما أن الفلسطينيين في إسرائيل أو كما يُطلق عليهم “عرب إسرائيل” سيخسرون الكثير، كما يقول. ويُضيف، ومع ذلك، يشعر الفلسطينيون في القدس الشرقية بالإحباط، فهم لا يبصرون أي بصيص أملٍ ويفتقرون إلى القيادة. “حييدت إسرائيل هذه القيادة، وسلمت السُلطة للجماهير في الشوارع.”
ذئاب وحيدة
كما أنّ الإفتقار إلى هذا التنظيم يُفسر الهجمات الأخيرة. ووفقاً لستولر، يعتبر هذا فارقاً هاماً عن الوضع خلال الإنتفاضة الأولى والثانية. “لا يتطلب طعن شخص ما بسكين، أو دهس آخر بالسيارة، سوى شخص واحد، ذئب وحيد. ولكن لتفجير حافلة ما، ستحتاج إلى مواد، وخبير، وتنظيم. وبسبب جدار الفصل العنصري، أصبح من الصعب جداً على الفلسطينيين التسلل إلى إسرائيل والقيام بمثل هذا الهجوم.”
كما كان تحليل الكاتب الصحفي أنشيل فيفر في صحيفة هآرتس مماثلاً. “تتفق أحداث العنف في الأسابيع الماضية بما أطلقت عليه المؤسسة الأمنية منذ فترة طويلة هجمات “الإرهاب الفردي” أو “الإرهاب الشعبي”. ومع ذلك، فهي لا تعكس الغرض المعمّم الذي ميّز الإنتفاضتين السابقتين، ولكن قد يتغير هذا بسرعة.”
وفي صحيفة ذا ناشيونال الاماراتية، كتب جوزيف دانا “يعرف الفلسطينيون أنه يتوجب عليهم إصلاح قيادتهم وعلاقتها بإسرائيل كجزء من أي إنتفاضة حقيقية ضد الحكم الإسرائيلي- وهو أمر لا يبدو مرجحاً على المدى القصير.” وكما يقول، فإن الإنتفاضة إستراتيجية، وليست مجرد ردود أفعال بسيطة لأحداث فردية، أو حتى تحريض إسرائيلي مستمر. “كانت الإنتفاضة الأولى إعلاناً بأن الفلسطينيين رفضوا ضم إسرائيل البطيء للضفة الغربية وتوسع الإحتلال. في حين كانت الإنتفاضة الثانية محاولةً لاستخدام العنف لتغيير الوضع الراهن.”
لا بدّ من إنتهاء الإحتلال
بغض النظر عما إذا كانت هذه إنتفاضة ثالثة أم لا، ولكن، هل يرغب الفلسطينيون في إندلاعها؟ لا، يقول سام بحور، وهو خبير اقتصادي وناشط من رام الله. “تحتاج الإنتفاضة إلى الوحدة، والقيادة، والمال، والتزام واضح بعدم اللجوء إلى العنف من قِبل جميع الأطراف السياسية. وفي الوقت الراهن، لا تتوفر أي من هذه العناصر. لذا، لنكن أكثر واقعية ونمنع فقدان المزيد من أرواح الشباب مقابل لا شيء.” كما يعتقد محمد، وهو محامٍ في رام الله، رفض ذكر اسمه الكامل، أن اندلاع إنتفاضة ثالثة أمر غير مرغوب. “ستكلفنا الكثير من الأرواح، فنحن لم نحقق أي شيء من الإنتفاضتين الأولى والثانية. لا يتوجب علينا إزهاق أرواح المواطنين والرجال والنساء والأطفال.”
ندى إيليا، وهي كاتبة فلسطينية في الشتات ومعلقة سياسية، تختلف معهما في الرأي. “كان للإنتفاضتين السابقتين صدى جيد، إذ كشفتا للعالم أن الفلسطينيين لم، ولن، يذعنوا للظلم. وكما تقول، يتوجب أن تكون الإنتفاضة الثالثة ضد الإحتلال المستمر للقوات الإسرائيلية، بالإضافة إلى معاونيهم من السُلطة الفلسطينية. “وعندها فقط، يمكن إلقاء مهزلة اتفاقات السلام وخرائط الطريق في “مزبلة” التاريخ، حيث تنتمي.”
يبدو من الحتمي أن الأمر برمته يتعلق بالإحتلال، وإنهائه. هل من الوهم أن يعتقد المرء أن الفلسطينيين يوماً ما سيوقفون المقاومة العنيفة ويقبلون ببساطة بالحكم الإسرائيلي؟ يقول الصحفي بن وايت أنه من غير المُجدي أو حتى الهام، طرح الجدل حول التعريفات أو التسميات التي نطلقها على الإشتباكات الحالية: “ظهرت موجة جديدة من المتمردين الفلسطينيين على مدى السنوات القليلة الماضية، ويعود ذلك إلى سبب غاية في الوضوح؛ الاحتلال والاستعمار والفصل العنصري يوّلد المقاومة.”
ويقول أسامة نقولا، وهو دليل للجولات السياسية في الضفة الغربية، أنه من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت فلسطين على حافة اندلاع انتفاضة ثالثة. “أولاً، يتوجب مشاركة جميع المناطق الفلسطينية.” ويعترف بشعوره بالقلق والخوف، ويضيف “الأمر الأهم هو أنه يتوجب إنهاء الإحتلال.”