وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تونس: عرس ديمقراطي فريد من نوعه في العالم العربي

تونس
تونسيون يشاركون في تجمع بالقرب من شارع بورقيبة في تونس العاصمة, 24 تشرين الأول/أكتوبر 2014 Photo Corbis

انتخب التونسيون في السادس والعشرين من أكتوبر 2014، برلماناً جديداً لتبدأ مرحلة جديدة في مخاض البلاد وانتقالها السلس نحو الديمقراطية. جاءت النتائج لتمنح حزب القوميين “نداء تونس” غالبية المقاعد، تلته في ذلك “حركة النهضة” الإسلامية، التي خسرت بعضاً من مقاعدها في هذه الجولة من الإنتخابات التشريعية، ليشكلا معاً أكثر من نصف مقاعد البرلمان. وبنسبة مشاركة بلغت حوالي 60%، والحرية المُطلقة للتصويت، والأجواء السلمية التي لم يسبق لها مثيل في العالم العربي، يبدو أنَ الطريق ممهد أمام روّاد الربيع العربي.

كانت هذه ثاني انتخابات حرة في تاريخ البلاد، والتي امتازت بمشاركة فعّالة متعددة الأطياف، وحملات سياسية جادة، والآلاف من مؤيدي المرشحين. وبالرغم من انخفاض نسبة مشاركة المواطنين بأقل من 10% مما كانت عليه في الانتخابات السابقة التي أجريت في 23 أكتوبر 2011، إلا أنّها بكل تأكيد نسبة مرتفعة وفقاً للمعايير الدولية. فضلاً عن ذلك، فإن عدد المرشحين هذا العام أقل من عام 2011، إلاّ أنّ هذا كان متوقعاً نظراً لاندماج العديد من الأحزاب، وخوض العديد من “المستقلين” من الانتخابات الماضية، هذه الدورة ضمن كتل حزبية.

حذرت وسائل الإعلام، وقود الحملة وحطبُها، والعديد من الخبراء، من مساعي الإرهابيين تعطيل الإنتخابات ومنعها، حيث رافقت الروايات المثيرة للقلق الفترة التحضيرية للانتخابات، وتوالت أخبار اعتقال النشطاء وإحباط محاولات هجوم للمسلحين بشكلٍ أسبوعي. وقبل العرس الديموقراطي بثلاث أيام، تم تفكيك ما وصف بخلية إرهابية نائمة في ضواحي العاصمة تونس، إذ تمت محاصرة المنزل الذي تحصنّت فيه الجماعة المسلحة وأعقب ذلك تبادل لإطلاق النار نتج عنه عدة إصابات وقتلى. ومع ذلك، جرت الانتخابات بسلاسة، ولم يتم الإبلاغ عن أي حوادث.

الأهم من ذلك، عدم تسجيل أي اعتراض على نتائج الإنتخابات، في حين هنأ “حزب النهضة” الإسلامي، الذي يعدّ نفسه حزباً معتدلاً ذو قاعدة اجتماعية، نظيره الفائز “نداء تونس” في اليوم التالي.
في عام 2011، فاز حزب “النهضة” بالنصيب الأوفر من مقاعد المجلس الوطني التأسيسي، الذي سيضع دستور جديد للبلاد، بحصوله على 90 مقعداً (41%). تلاه الحزب الثوري العلماني “المؤتمر من أجل الجمهورية” بقياده مؤسسه محمد المنصف المرزوقي الذي أصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية، ومن ثم الحزب الثوري الاجتماعي ” التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات” الذي أختير رئيسه مصطفى بن جعفر رئيساً للمجلس الوطني التأسيسي (البرلمان). شكّل هذان الحزبان إلى جانب “النهضة” الترويكا الحاكمة ( ائتلاف حاكم رئاسياً وحكومياً وبرلمانياً للفترة الواقعة بين نوفمبر 2011 ويناير 2014)، الذي وعدّ بضمان العلمانية في تونس. أما حزب “العريضة الشعبية للحرية والعدالة والتنمية”، الذي حلّ رابعاً على قائمة انتخابات 2011، والذي يتراوح خطابه بين الإسلام المحافظ والاشتراكية الشعبية، أُخرِج من دائرة المفاوضات ولم يكن له تأثير يُذكر على المشهد السياسي لاحقاً.

وفي الإنتخابات الأخيرة، حل “النهضة” ثانياً بنصيب 65 مقعداً (32%). أما الحزب الذي تربع على عرش الانتخابات بنصيب 85 مقعداً (39%) والذي سيُكلّف بتشكيل الحكومة الجديدة، هو “نداء تونس”. أسس الحزب بعد عام 2011، إلا أن مؤسسه والرئيس الحالي له، الباجي قائد السبسي، كان رئيس الوزراء الذي قاد المرحلة الانتقالية في البلاد عام 2011. يوصف السبسي، الرافض لحركة “النهضة”، بأنه (أبارتشيك)، وهو مصطلح روسي يُشير إلى عملاء الجهات الحكومية أو الحزبية، إذ يُتهم بأنه أحد رموز نظام زين العابدين بن علي كونه أحد رجال الحكومة التونسية منذ الخمسينات، حيث قرر بناء جبهة لمواجه قوة “النهضة”، ليجد أذاناً صاغية لدى الكثيرين ويُعلن عن انشاء حزب جديد باسم “نداء تونس”.

نداء تونس

تمكن “نداء تونس”من لم شمل أولئك الذين شعروا بالتهميش عام 2011، أمثال من بقيّ من أتباع النظام القديم، فضلاً عن العلمانيين واليساريين والنقابيين الذين اعتبروا وصول “النهضة” تهديداً لهم. وهكذا تم إنشاء الحزب بناءاً على فكرة مواجهة “النهضة”، وذلك على اعتبار أنّ الأخير حزب إسلامي إلى جانب ضُعف إدارته لاقتصاد وأمن البلاد (هبطت مؤشرات كلا المجالين في عهد الترويكا). صوّر السبسي نفسه بأنه حبيب بورقيبه (أب الاستقلال) الجديد، وتعهد بإعادة بناء تونس وفقاً للفكر البورقيبي، أي بما هو علماني وقوي. وبالتالي تم إلصاق صفة العلمانية إلى “نداء تونس” باعتباره يواجه الإسلاميين، فضلاً عن صفة القومية واعتباره بوقاً للنظام السابق بسبب تبنيه خطاب نظام بن علي للدولة القومية، إلى جانب صفة “اشتراكي” معتدل بسبب هذا وبسبب عناصره اليسارية.

يعود الفضل، إلى حدٍ ما، في نجاح “نداء تونس” إلى حملتها الإنتخابية التي تبنت شعار التصويت المفيد (Vote utile). صورت الدعاية الحزبية نفسها على أنها ضرورية لهذا البلد، وأنهم وحدهم قادرين على إنقاذ تونس من سوء إدارة “النهضة” والسياسات “الظلامية”. أتت عملية التصويت المفيد أُكلَها، وألقت بعواقب وخيمة على جميع الأحزاب الأخرى التي تغنت بالدفاع عن انجازات تونس العلمانية، بدءاً من حلفاء “نداء تونس” أنفسهم أمثال “الاتحاد من أجل تونس” الذي لم يحصد أي مقاعد في الانتخابات الأخيرة، ولكن أيضاً لحلفاء “النهضة” في الترويكا من العلمانيين أمثال “المؤتمر من أجل الجمهورية” الذي لم يكن له من الطيب نصيبٌ سوى بأربعة مقاعد، و” التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات” الذي خرج أيضاً خاوي الوفاض.

يعود تراجع “النهضة” بشكل جزئي إلى الهجوم القوي الذي شنه “نداء تونس”، حيث عمد الأخير على استمالة وسائل الإعلام الرئيسية في تونس إلى صفه، فضلاً عن شبكات المحسوبين على النظام السابق. ولكن يعود تراجع شعبية “النهضة” أيضاً إلى عدم قدرته إدارة الدولة التونسية في ظل الترويكا، فضلاً عن الصورة السلبية للحركة بين السواد الأعظم من التونسيين، وربط “النهضة” بالتدهور الاقتصادي وتنامي الإرهاب.

لا يوجد فائزِ

تلى كل من “نداء تونس” و”النهضة” في الترتيب العام ثلاث أحزاب هي: حزب الاتحاد الوطني الحر، والجبهة الشعبية، وأفاق تونس. يعتبر حزب “الاتحاد الوطني الحر” الذي حصد 16 مقعداً، حزباً ليبرالياً يوصف عادةً بأنه شعبي و”علماني”. بينما يعدّ حزب “الجبهة الشعبية” الذي حاز على 15 معقداً، جبهة علمانية من اليسار المتطرف، إلى جانب ماضيه الشيوعي وتاريخه الطويل بكراهية النظام السابق (بالرغم من تحالفه ضد “النهضة” إلى جانب “نداء تونس” في عام 2013). في حين أنّ حزب “أفاق تونس” برصيد 8 مقاعد، حزب علماني بميول ليبرالية.

وبالتالي، لا وجود لفائزِ مطلق، حيث اضطرت الأحزاب إلى عقد تحالفاتٍ من أجل قيادة البلاد، أو على الأقل من أجل إيجاد حلول وسط. ومن غير المُنصف، وصف النتائج باعتبارها مجرد انتصار للعلمانية على حسابية الإسلاموية، إذ لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار العوامل الاقتصادية، التي لعبت دوراً حاسماً على أرض الواقع في الفارق البسيط الذي يفصل “نداء تونس” عن “النهضة” مما هو الحال بالنسبة للمنافسين الثلاث الآخرين. وعلاوة على ذلك، لا تزال الانقسامات الأيديولوجية تُسيطر على المشهد الذي يفصل الليبراليين المتطرفين من “الاتحاد الوطني الحر” و”أفاق تونس”، عن اليساريين المتطرفين في “الجبهة الشعبية” والاشتراكية المعتدلة في “نداء تونس”.

يُفضل العديد من المحللين والخبراء الأجانب والدبلوماسيين حلاً آخر: حكومة تكنوقراطية محايدة، تشبه تلك التي تحكم تونس الآن، لتحل محل الترويكا في يناير 2014. إلى جانب ذلك، تراقب الأحزاب السياسية الحكومة، وربما تُمنح بعض الحقائب الوزارية ولكن سيتم تقييد المناوشات السياسية في إطار البرلمان. أما فيما يتعلق بالشؤون الجارية، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي، يُترك الأمر بيد الحكومة المستقلة.

في غضون ذلك، يعدّ المناخ السلمي السائد في تونس، والفهم الذي اكتسبه السياسيون التونسيون لتفرد موقف البلاد وهشاشته في المنطقة المضطربة، سبباً للتفاؤل.