شرع الرئيس الإيراني حسن روحاني، في 11 مارس 2019، في زيارةٍ للعراق استمرت ثلاثة أيام، حيث التقى القادة السياسيين والدينيين العراقيين البارزين. جاءت الزيارة في لحظةٍ حساسة تحاول فيها الولايات المتحدة، بعد إنسحابها من خطة العمل الشاملة المشتركة، والمعروفة باسم الاتفاق النووي، عزل إيران.
ومن خلال فرض عقوباتٍ ثانوية وإعادة فرض عقوباتٍ مالية، تحاول الولايات المتحدة إجبار شركاء إيران التجاريين الرئيسيين في المنطقة وخارجها على إنهاء تعاملاتهم التجارية مع طهران. وعليه، يقع العراق، بصفته الشريك التجاري الرئيسي لإيران، في قلب المواجهة الأخيرة بين واشنطن وطهران. من وجهة نظر طهران، فإن زيارة روحاني وأهدافه وإنجازاته المعلنة أمرٌ مشجع، وبالتالي فإن السؤال المطروح هو: إلى أين تتجه المنافسة الإيرانية الأمريكية في العراق وما موقف العراق في خضمها؟
انتظر روحاني خمس سنوات للقيام بهذه الزيارة، إذ كان صبره هذا مدروساً. كانت إيران بحاجة إلى ضمان أن تسفر هذه الزيارة عن نتائج طال انتظارها، حيث تم ضمان ذلك بالتوقيت والاجتماعات والاتفاقيات والصورة العامة ونتائج الزيارة. ويبدو أن بغداد قبلت الكثير من الشروط الإيرانية المسبقة للزيارة، إذ كان أهمها إحياء اتفاقية الجزائر لعام 1975 بشأن النزاع الحدودي حول شط العرب، التي مزقها صدام حسين وألغاها في بداية حرب 1980-1988 بين الدولتين.
إن العودة إلى شروط الاتفاقية تعني أن العراق لم يعد له مطالباتٍ على الأراضي الإيرانية في ممر شط العرب المائي. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التطور سيحل قضية طويلة الأمد من الاحتكاك السياسي والمواجهة المحتملة على المدى الطويل. وعلى هذا النحو، يرى الكثيرون في طهران أن هذا هو الإنجاز الرئيسي لزيارة روحاني. وإلى جانب الأهمية السياسية والإستراتيجية المذكورة أعلاه، ستمهد إعادة إحياء اتفاقية عام 1975 الطريق لتجريف شط العرب، وإحياء طريق التجارة التقليدية التي تضم موانىء عبادان وخرمشهر الإيرانية وميناء البصرة العراقي، الذي أتاح تدميره فرصةً ذهبية لموانىء الخليج الأخرى، مثل دبي، للازدهار خلال الثمانينيات والتسعينيات.
كما حققت زيارة روحاني نتائج أخرى أيضاً، والتي اشتملت على الاتفاقيات الموقعة لإلغاء رسوم التأشيرة بين البلدين، والتي من المتوقع أن تزيد من أعداد السياح المرتفعة بالفعل، وتجريف مياه شط العرب بعد 43 عاماً، وإنشاء خمس مناطق صناعية مشتركة، تم الانتهاء من الاتفاق على اثنتين منها خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي إلى طهران بعد شهرٍ واحد في أوائل أبريل، والاتفاقيات المتعلقة بتجارة الطاقة، والتي من المقرر أن تزيد صادرات الغاز والكهرباء الإيرانية إلى العراق.
وعلاوةً على ذلك، اتفق البلدان على زيادة التبادل التجاري من 13 مليار دولار حالياً إلى 20 مليار دولار في غضون عامين. كما وافقوا على وضع تعريفاتٍ تفضيلية على سلعٍ معينة، ووقع رئيس البنك المركزي الإيراني اتفاقية مع نظيره العراقي بشأن فتح حساباتٍ لرجال الأعمال الذين يعملون بالعملات المحلية.
بالإضافة إلى الأهمية الاقتصادية والسياسية للاتفاقيات الموقعة بين الدولتين، التقى روحاني، تقريباً، بجميع النخب السياسية العراقية المهمة.
كما التقى آية الله العظمى السيد علي السيستاني، وأثار عدة نقاط، أولها هي انحياز السيستاني للمعتدلين في إيران ضد الثوار المحافظين، وذلك وفقاً للعديد من المحللين. فقد كان لدى الإيرانيين المحافظين اختلافاتٍ حول هذا الخط من التفسير، مما يُشير إلى أنه كان يدعم إيران بشكلٍ عام ضد السياسة الأمريكية بممارسة أقصى درجات الضغط. بينما تمثلت النقطة الثانية في تشجيع السيستاني للعراقيين على العمل مع الحكومة الإيرانية المنتخبة بدلاً من العمل مع فيلق القدس خارج حدود الدولة وأشخاص مثل قائد فيلق القدس قاسم سليماني. ومرةً أخرى، أثير هذا الأمر من قبل أنصار إدارة روحاني، بينما رأى منتقدوها أن هذا الإنجاز أصبح ممكناً فحسب بسبب دعم الحرس الثوري للعراق ضد داعش. أما النقطة الثالثة فهي دعم السيستاني لإيران ضد تجدد العقوبات الأمريكية وتشجيعه للنخب السياسية العراقية على مواصلة العمل مع إيران. يعدّ هذا أمراً غاية في الأهمية لأن السيستاني معروفٌ بمعارضته للسياسات الأمريكية في العراق ورفضه مقابلة السياسيين الأمريكيين.
صوّر الإيرانيون الاجتماع والزيارة ككل بتحقيقها العديد من الأهداف ضد سياسة واشنطن المعادية لإيران. ومع ذلك، لم يُخفِ براين هوك، كبير مستشاري وزير الخارجية الأمريكية للسياسات، غضبه من الزيارة ونتائجها.
إن سياسة الولايات المتحدة المتمثلة في ممارسة “أقصى قدر من الضغط” تتعلق بعزل إيران وإفساد تفاعلها مع الدول الأخرى، بهدف جعلها تزحف عائدةً إلى طاولة المفاوضات من أجل “صفقةٍ أفضل.” فقد بذلت واشنطن جهداً هائلاً للتحدث مع الدول الصديقة والحليفة من أجل قطع علاقاتها مع إيران أو تخفيضها على الأقل. ومع ذلك، فمن خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية، من الواضح أن علاقات العراق مع إيران تتخذ مساراً مختلفاً. ووفقاً لرئيس الوزراء العراقي، تريد بغداد أن تكون علاقاتها بإيران نموذجاً يحتذى به في المنطقة. كما لم يتجنب السياسيون الإيرانيون التأكيد على فشل سياسة ممارسة أقصى قدرٍ من الضغط الأمريكية في العراق.
فقد ركزت الولايات المتحدة الكثير من جهودها المناهضة لإيران على العراق باعتبارها الشريك التجاري الإقليمي الرئيسي لإيران. بيد أن النخب الحاكمة في العراق ذكرت مراراً وتكراراً أن العراق لن يكون جزءاً من العقوبات الأمريكية على إيران. ومع ذلك، لم يتوقع الكثيرون أن يتحمل العراق ضغوط الولايات المتحدة ويواصل نشاطه المهم نسبياً مع إيران. فقد تمكنت بغداد سابقاً من الحصول على إعفاءٍ على أساس حاجتها إلى الكهرباء والغاز الإيرانيين فضلاً عن الإمدادات الغذائية، لكن تعدّ التجارة والمشاريع المشتركة المتزايدة التي من المتوقع أن تتبع زيارة روحاني تطوراً لن تتجاهله الولايات المتحدة.
إن لدى واشنطن عدة خياراتٍ لإيقاف العلاقة المتنامية، إلا أن كلاً منها تحكمها مجموعة من التحديات. الخيار الأول هو الاستمرار في السياسة الحالية المتمثلة في ممارسة الضغط على بغداد وفي نفس الوقت منحها إعفاءاتٍ لمنع انهيارها. هذا الخيار، كما أوضحت زيارة روحاني، لن يمنع بغداد من الاقتراب أكثر من طهران. لذلك، إذا ما رغبت واشنطن في تحقيق التأثير المطلوب لسياسة ممارسة أقصى قدرٍ من الضغط، فلا بد من مراجعتها.
الخيار الثاني هو ممارسة المزيد من الضغط على العراق، بما في ذلك وقف الإعفاءات، لإجباره على الامتثال للعقوبات الأمريكية الجديدة على إيران. وعلى الرغم من أن هذا الخيار كان احتمالاً وارداً منذ إعادة فرض العقوبات مرةً أخرى في عام 2018، إلا أنه لا يمكن للعراق استبدال الكثير من وارداته من إيران على المدى القصير إلى المتوسط. ينطبق هذا بشكلٍ خاص على الكهرباء والغاز وكذلك بعض الإمدادات الغذائية. وعلى العكس من ذلك، فإن قطع الواردات الإيرانية عن العراق سيؤدي إلى مزيدٍ من الانخراط في فلك إيران لأنه سيخاطر بانتهاك العقوبات الأمريكية، وبفعل ذلك، سيصبح العراق أحد أعدائهم. هذا بدوره سيعزل العراق، ويخلق فراغاً اقتصادياً أكبر لإيران لملئه. ولا شك أن العراقيين سيرحبون بهذا التطور بسبب عدم وجود أي خيارٍ آخر في ظل العقوبات الأمريكية.
الخيار الثالث هو مزيجٌ من الترهيب (الضغط المتزايد) والترغيب التي يقدمها الحلفاء الإقليميون للولايات المتحدة، ألا وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. فبعد أسابيع فقط من زيارة روحاني للعراق، قام وفدٌ سعودي رفيع المستوى يضم سبعة وزراء بزيارة العراق وتوقيع العديد من الاتفاقيات التجارية مع الحكومة. ويبدو أن وفوداً أخرى من الإمارات وتركيا تهدف إلى تحقيق الهدف نفسه. لكن لاستبدال صادرات إيران إلى العراق، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها أن تستقطب النخبة العراقية الحاكمة، وهو أمرٌ مستبعد إلى حدٍ كبير بالنظر إلى أن العديد منهم مدعومٌ من طهران؛ وتوفير بدائل حقيقية لحاجة العراق إلى الكهرباء والغاز الإيرانيين، وهو أمرٌ مستبعد إلى حدٍ كبير في العامين المقبلين على الأقل. لذلك يبدو أن السياسة الأمريكية المناهضة لإيران في العراق تواجه جموداً.
إلى جانب احتياجات العراق اليومية من الاستيراد، فإن حقيقة أن العراق يثق بإيران أكثر من الولايات المتحدة، تعطي طهران هيمنةً في تنافسها مع واشنطن. ونتيجةً لتدابير بناء الثقة مع المجتمعات العراقية وعملها مع العراقيين من جميع الأطياف، بما في ذلك المجتمعات الشيعية والسنية والكردية الرئيسية، يحجم العراق عن الالتزام بمطالب الولايات المتحدة فيما يتعلق بإيران. وببساطة، يعرف العراق أن سياسة طهران تجاهه من المرجح أن تستمر، لكنه لا يعرف ما إذا كانت الإدارة الأمريكية المقبلة ستتبع نفس السياسة أو تغير مسارها وتطلب من بغداد أن تتغير وفقاً لذلك. لهذا السبب تكللت زيارة روحاني بالنجاح، ومن المتوقع أن تكون زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى طهران، بناءً على الأولى، ناجحةً أيضاً.