وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

بوادر السلام في اليمن

يراقب الشارع اليمني ما ستؤول إليه جهود إحلال السلام في اليمن، ولكن الأزمة الدائرة في اليمن ستظل محل صراعٍ داخلي معقد يحمل في طيّاته أبعاداً تاريخية.

بوادر السلام في اليمن
صورة تم التقاطها يوم 15 إبريل 2023 لاستقبال محتجزين من جماعة الحوثي لدى وصولهم إلى مطار صنعاء. المصدر: Mohammed HUWAIS/ AFP.

أبوبكر باذيب

شهدت الآونة الأخيرة تطوراتٍ سريعة قد تقود إلى إحلال السلام في اليمن بعد مرور تسع سنوات على الحرب الدائرة في هذا البلد المنكوب. وجاءت هذه التطورات عقب جهود وساطة ماراثونية قامت بها عُمان لنقل حالة النزاع الحاصلة بين مجلس القيادة الرئاسي ومن ورائه السعودية والحوثيين المدعومين إيرانياً إلى شكلٍ من أشكال التسوية.

وأفضت هذه الجهود إلى زيارة محمد آل جابر، السفير السعودي لدى اليمن، لزيارة العاصمة صنعاء برفقة وفد عماني. وتعتبر هذه الزيارة أول زيارة يجريها مسؤولٌ سعودي رفيع إلى اليمن منذ بداية الحرب في 2015. وبطبيعة الحال، فقد كانت هذه الزيارة للقاء قياداتٍ من جماعة الحوثي لبحث استكمال الترتيبات النهائية لمشروع اتفاق ينهي الحرب في اليمن.

اتفاق بكين الذي وقع في مارس 2023 بين السعودية وإيران ساهم على ما يبدو في بلورة جهود التسوية والدفع بها نحو خطوات إجرائية. وعلى ذلك، فقد ظهر تأثير طهران على جماعة الحوثي ظهر بوضوح، إذ تجاوزت هذه الأخيرة سقف مطالبها المرتفع وقبلت بتسويات سريعة عبر الوسيط العماني.

ووفقاً للعديد من المصادر، فقد التقى وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني الدكتور رشاد العليمي وكافة أعضاء المجلس. وفي هذا الاجتماع، أبلغ الوزير السعودي الحوثيين بمسودة الاتفاق الذي بات في صورته شبه النهائية لاتفاق هدنة ومرحلة انتقالية للأزمة اليمنية.

وتنقسم الخطة إلى ثلاث مراحل زمنية. وتستمر المرحلة الأولى ستة أشهر. وتقضي هذه المرحلة بإعلان وقف إطلاق النار في اليمن وتشكيل لجان فنية لدمج البنك المركزي ودفع مرتبات موظفي القطاع الحكومي وتبادل الأسرى على أساس “الكل مقابل الكل”. كما ستركز هذه المرحلة على بناء الثقة بين الأطراف، وإعادة تصدير النفط من الحقول النفطية.

وتستمر المرحلة الثانية ثلاثة أشهر. ويتم خلال هذه المرحلة التفاوض المباشر لتأسيس كيف يرى اليمنيون شكل الدولة. أما المرحلة الثالثة والأخيرة فستكون مرحلة انتقالية لليمن على مدى سنتين. وستشهد هذه المرحلة إجراء عملية تفاوضية سياسية للحل الشامل في البلاد تيسرها الأمم المتحدة.

بيد أنّ ذات المصادر أشارت إلى أن هذه الترتيبات الزمنية ما زالت خاضعة للنقاش. وقد يتم إجراء تعديلات عليها حسبما تراه الأطراف اليمنية لصالح إنهاء النزاع.

وتشمل الخطة أيضا رفع القيود على المنافذ البرية والبحرية والجوية سواء، في مناطق جماعة الحوثي أو الحكومة الشرعية. ويضاف إلى ذلك عملية إصلاح اقتصادية شاملة ستكون بدعمٍ سعودي.

وبالرغم من التفاصيل الإيجابية لمسودة الاتفاق، إلا أنّ المخاوف كبيرة من عدم وجود ضامن حقيقي يفرض على جماعة الحوثي الالتزام بتفاصيل التنفيذ. وتستند هذه المخاوف على ما أبداه الحوثيون من عدم التزام بالكثير من بنود الاتفاقات السابقة. يضاف إلى ذلك أن الحركة كانت تستخدم الاتفاقات السابقة كفرصة لإعادة ترتيب الصفوف ومن ثمّ التوسع والسيطرة على مناطق جغرافية متعددة في اليمن.

هذا الأمر دفع الحكومة اليمنية الشرعية إلى المطالبة بضمانات بعدم وجود أي تحايل أو تراجع من جانب الحوثيين. وطالبت المصادر الحكومية الأمم المتحدة بضمان التزام الحوثيين، مشدّدة في الوقت نفسه على أن أي تلاعب أو التفاف من قبل الحوثيين سيجعل الحكومة اليمنية في حِلٍّ من كل التزامات الاتفاق.

المجهول ينتظر اليمنيين

يراقب الشارع اليمني ما ستؤول إليه جهود إحلال السلام في اليمن. وأبدت شرائح واسعة من اليمنيين إحباطها من أن تفرض التسوية السياسية عليها التعامل مع جماعة الحوثي كحكام أمر واقع. كما برزت تساؤلاتٌ متعددة عن مدى مدى حضور الحكومة الشرعية على الأرض، وحول إذا ما كان هذا الحضور، في حال حصل، سيكون فاعلاً أم لا.

الخبير اليمني في الاجتماع السياسي مصطفى ناجي علق في تغريدات نشرها على تويتر حول مسار التسوية السياسية. وقال: “تتسارع التحضيرات لتوقيع هدنة في اليمن” تفضي إلى مرحلة انتقالية. وبحسب ناجي، فإنّ هذه العملية أربكت صفوف اليمنيين سواء في الشرعية أو الحوثيين. فلا الحكومة توصلت إلى استعادة الدولة وكسرت شوكة الحوثي، ولا الحوثي وفى بوعده وسيطر على كامل البلاد وتمسّك بالسيادة واستقل بقراره عن السعودية”.

وأضاف: “الحصيلة الملموسة هي تدمير اقتصاد اليمن وكنس مكتسبات ممارسات دولتية إدارياً ومؤسسياً ووجدانياً منذ سبعين عاماً في ضربة واحدة”.

ناجي يرى أنّ تقارب الحوثي والسعودية لا يعد نصراً لأحد بقدر ما هو مكسب للسعودية. فالمملكة تحولت في عيون الجميع من دولة شريكة في تحالفٍ عسكري، إلى دولة راعية لاتفاق سلام في اليمن.

السعودية سعت، بحسب ناجي، للتواصل مع الطرف المقابل، سواء كان الرئيس السابق علي عبدالله صالح أو جماعة الحوثي. ومع ذلك، فإن تلك الجهود لم تسفر عن شيء إلا بعد تقارب السعودية مع إيران لأن الحوثي “لم يكن يملك قراره”. وبهذا، يرى خبير علم الاجتماع اليمني أن الحوثي خسر “موقفه المستقل وأظهر تبعيته لإيران”.

وبحسب مؤشرات الأمم المتحدة، فقد أضحى اليمنيون في حالةٍ إنسانية صعبة ووضع واجتماعي مأساوي. وبات اليمن البلد ذي المعاناة الإنسانية الأشد في العالم وتجاوزت الأوضاع فيه قدرة اليمنيين على التحمل. وعلى ذلك، يرى اليمنيون في مشروع التسوية هذا منطلقاً للأمل باستقرارٍ وسلامٍ يعيد الدولة لتحمل مسؤولياتها وتجاوز الخلافات.

ويمكن القول إنّ هذه التسوية يمكن أن تمثل عربة القطار الأخيرة للسلام التي سيدخل اليمن واليمنيين بدونها في حرب أهلية طويلة. وبطبيعة الحال، فإن هذه الحرب الطويلة ستخضع اليمنيين لمصالح مناطقية وحسابات طائفية تستمر لعقود قادمة.

ويبدو أن السعودية حريصةٌ على إنهاء ملف الأزمة اليمنية وتجاوز استمرار استنزافها وتهديد أمنها القومي. كما أن رغبة الرياض واضحة في التركيز على ملفات اقتصادية ودولية أكثر إلحاحا وضرورة في الفترة القادمة، لا سيما أن اتفاق بكين ومسار التهدئة مع طهران سيلبي لها تجاوز التهديد الحاصل لحدودها الجنوبية.

ويرى خبراء إن دخول الصين كراعٍ وضامن يمكن أن يفضي إلى تسوية حقيقية في عدد من ملفات الأزمات في المنطقة. كما أن هذا الحضور سيوفر للرياض استقراراً أكبر ونفوذاً وتحالفات مختلفة، سيما أنها باتت على قناعة بأن الأزمة اليمنية لا يمكن حلّها أو حسمها بالتدخل العسكري لأي طرف. ويضاف إلى ذلك توق الجميع للتوصل إلى حلٍّ سياسي.

التأثيرات الخارجية

بوادر السلام في اليمن
صورة تم التقاطها يوم 16 إبريل 2023 عقب وصول محتجزين من القوات الحكومية اليمنية تم إطلاق سراحهم إلى مطار مأرب. المصدر: AFP.

الباحث اليمني محمد عبدالسلام أكد لفنك أن الحوثيين يتفاوضون مع السعودية ‏منذ 2017 في منطقة ظهران الجنوب. ولم تصل هذه المفاوضات إلى أي نتيجة إلا بعد اتفاق الرياض مع طهران. وبحسب عبد السلام، فإن الاتفاق الأخير يدحض ادعاءات الحوثيين بأنهم يمتلكون قرارهم بأيديهم وأنه لا يوجد تأثير إيراني كبير على قراراتهم.

ويرى عبد السلام أن ‏اتفاق السلام الشامل لن يصل إلى فترته الانتقالية وإلا وقد وضعت جماعة الحوثي يدها عسكريا على طول وعرض الجمهورية اليمنية. ويعني هذا الأمر أن اليمنيين المناهضين لجماعة الحوثي لا بد وأن يقلبوا الخيارات الأخرى التي تدعم قضيتهم.

وفي هذا السياق، يقول عبد السلام: “السعودية لديها الحق في تقدير مصالحها التي تتجاوز أزمة اليمنيين. كما لليمنيين الحق في اختيار مسار نضالهم في استعادة دولتهم”.

كلام عبد السلام يعتبر مؤشراً على أن الطريق إلى السلام في اليمن يبدو طويلاً ومليئاً بالعقبات والأزمات المركبة. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى إدخال الحوثيين لعشرات الآلاف من أنصارهم في الجهاز الإداري والعسكري والأمني للدولة على امتداد السنوات الماضية.

كما أقرت جماعة الحوثي مئات القوانين والقرارات غير الدستورية في سياق عمل حكومتها. ويتمثل أهم تلك القرارات في “مدونة السلوك الوظيفي” التي لا تعترف بأي موظف حكومي إلا بعد أن يوقع عليها. وتحمل المدونة في بنودها اعترافاً ضمنياً بسلطة الحوثي الدينية والأيديولوجية.

يأتي إلى جانب تلك القوانين والقرارات تغييراتٌ كبيرة حصلت على الأطر الاقتصادية والمالية للدولة. وتصبّ القوانين الجديدة في صالح جباية الأموال لصالح جماعة الحوثي والمنتسبين لها تحديدا دون غيرهم من فئات الشعب اليمني. يضاف إلى ذلك التعديل الكامل والشامل للمناهج الدراسية لكافة المراحل الأساسية. وباتت هذه المناهج أشبه بغسيل عقول الأجيال الناشئة تجاه معتقدات عقائدية وطائفية.

وحول تصوّره لهذه العقبات الشائكة في طريق إحلال السلام في اليمن، يقول ناجي: “لا يمكن أن يحل السلام بجرة قلم. الحرب فرضت واقعا أكثر تعقيدا من أن تجسره النوايا الحسنة. لذا، يجب البحث في التفاصيل وأخذ الوقت الكافي لبناء وهندسة السلام ووضع جداول زمنية. كما أن خيال المتفاوضين لا بد وأن يكون أوسع ليتجنبوا الوقوع في شرك المخاتلات الرامية للتملّص من الالتزامات”.

المراوحة في المكان

هناك مؤشراتٌ إيجابية نحو المضي بتثبيت وقف إطلاق النار والدخول في مسارٍ سياسي وتفاوض طويل. بيد أن النوايا الصادقة لا تزال معدومة لدى مختلف أطراف الصراع. كما أن الواقع الحالي فرضته تسوية إقليمية بين السعودية وإيران. ويبدو أن التسوية الإقليمية بصدد ترحيل الأزمات اليمنية نحو مسارات سياسية طويلة وقد تكون عقيمة.

والحقيقة أنّ اليمن واليمنيين ما عادوا يملكون قرار الحرب أو السلام. وباتوا خاضعين لاتفاقات القوى الكبرى والإقليمية على كيفية إدارة مصالحها.

هذا الواقع دفع بعض المراقبين للحديث حول حاجة اليمن لإحداث تغيير عميق في بنية النظام السياسي تتجاوز الترقيع أو الحقن المهدئة. ويعيش اليمن واقع إرهاب سياسي كارثي وفاضح لم يشهده في تاريخه الحديث. ويتمثل هذا الواقع في ارتهان الأطراف الداخلية للخارج بما يتجاوز حدود المصالح الوطنية.

ماجد المذحجي، رئيس مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، قال لفنك: “في ظل الوضع المختل الحالي، فإن أي تفاهمات بين الرياض والحوثي ستكون بالضرورة على حساب الأطراف المحلية الأخرى. وهذا ما دفع جماعة الحوثي لعدم الاستجابة للمساعي الدولية لتمديد الهدنة خلال الفترة الماضية”. وبحسب المذحجي، فإن هذا الطرح “سيعمل تقوض أي فرص للسلام مستقبلاً”.

وفي وصف بانورامي للصراع الدائر في اليمن، فقد شكل انقلاب جماعة الحوثي على الدولة في سبتمبر 2014 والعمليات العسكرية للتحالف انهياراً كاملاً لشكل الدولة الفقيرة التي كانت تعاني من اقتصاد هش وتنمية مفقودة منذ سنوات ماضية.

إخفاقات دائمة للسلام

اعتاد اليمن على فشل كافة الاتفاقات الرامية لإحلال السلام أو حتى إقامة الهدنة بين الأطراف المتنازعة قبل أن يجف حبر الأقلام الموقعة على تلك الاتفاقات. والمثال الأبرز لذلك فشل العديد من جولات الحوار التي رعتها الأمم المتحدة بين عامي 2015 و2016 في سويسرا والكويت.

وكان آخر هذه الاتفاقيات هو اتفاق ستوكهولم الذي تم توقيعه في ديسمبر 2018 بسبب متغيرات محلية وإقليمية وضغوط دولية على الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي. وكان يعتقد حينذاك أن هذا الاتفاق بداية لعملية سلام حقيقية تنهي الصراع في اليمن.

بيد أن السلام المنشود لم يتحقق، وسط فوضى من تبادل الاتهامات بين الأطراف. وجرت العادة على أن يحمّل كل طرف مسؤولية إفشال الاتفاق على الطرف الآخر بحجة عدم الامتثال لبنود الاتفاق.

والحقيقة التي يتفق عليها المراقبون والسياسيون هي أنّ مسار أي تفاوض لحل الأزمة اليمنية مرهونٌ بالتعقيدات السياسية والاقتصادية المصاحبة للتدخلات الخارجية. فهذا البلد المنكوب يعيش حرباً بالوكالة بين أطرافٍ إقليمية متعددة.

ووسط هذا الوضع الشائك، فإن تقاطع وتعارض مصالح القوى السياسية والتشكيلات العسكرية يزداد فوضوية يوماً بعد يوم على امتداد الجغرافيا اليمنية.

وعلى هذا النحو، فإن الأزمة الدائرة في اليمن ستظل محل صراعٍ داخلي معقد يحمل في طيّاته أبعاداً تاريخية. كما أنه هذا الصراع سيبقى محكوماً بتدخلاتٍ إقليمية فجة تنتهك سيادة اليمن، بما يتوافق مع الأولويات السياسية والاستراتيجية للقوى الخارجية الضالعة في الصراع اليمني.