تسعى الصين إلى توسيع نفوذها السياسي والدبلوماسي العالمي بما يتجاوز طموحاتها الاقتصادية وعلاقاتها التجارية من خلال لعب دور مهم في التقارب السعودي الإيراني، وسد الفجوة التي خلفتها الولايات المتحدة.
أبوبكر باذيب
شكلت رعاية الصين اتفاق المصالحة وعودة العلاقات بين السعودية وإيران منعطفا إستراتيجيا لتبدّل توجهات بكين للتحول من التأثير والنفوذ الاقتصادي إلى حضورٍ سياسي لافت واستغلال التعاطي الأمريكي مع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وتسعى الصين لتجاوز علاقاتها الخارجية التي انحصرت لعقودٍ طويلة على طموحٍ اقتصادي وعلاقاتٍ تجارية في مناطق جغرافية مختلفة من العالم إلى رغبة جامحة لإدارة نفوذٍ سياسي ودبلوماسي واسع.
ومنذ تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن منصبه، تعمل الإدارة الأمريكية على تقليص دور واشنطن المحوري وطويل الأمد على مستوى ملفات وأزمات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. في المقابل، فقد بدأت الصين تعمل على شغل هذا الفراغ بما يتناسب مع علاقاتها الإستراتيجية مع دول المنطقة. ووفقاً للمنظور الصيني، تأتي السعودية وإيران في مقدمة الدول التي لا بد من استهدافها.
ويبدو أن حضور الصين السياسي بات يحظى بقبولٍ أكبر من دول المنطقة. لا بل أن بعض الدول تجاوزت مرحلة القبول لتشعر بضرورة تعزيز الصين لدائرة نفوذها السياسية في المنطقة.
وتتمتع الصين بعلاقات متنامية الطابع مع إيران، حيث باتت بكين شريكاً إستراتيجياً لطهران من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية. وبحسب المنظور الصيني، فإنّ الخلاف السعودي الإيراني سيحد ويعيق من قدرة بكين على لعب دورٍ عميق وكبير في المنطقة، لا سيّما مع بروز الفرصة للتغلغل في المنطقة وسط انشغال العالم بتداعيات حالة الصراع المفصلية في أوكرانيا.
تقلبات وتوازنات جديدة
خلافات السعودية وإيران، كما هو معروف، أعمق وأكبر من احتوائها ضمن اتفاقٍ للمصالحة أو عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي. ومع ذلك، فقد كان إعلان بكين لاتفاق تمهيد عودة العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين مفاجئاً لدوائر القرار السياسي في العالم.
ووسط الوضع الدولي الراهن، بات من الطبيعي أن نرى الدول وهي تبدّل التحالفات وتغيّر خارطة الأولويات. وعلى مستوى الخلاف السعودي – الإيراني، فإن التهديدات قد تنتقل من حالة العداء إلى شكل من أشكال التهدئة المرتبطة بحسن النوايا، وصولاً لإقامة نوعٍ من أنواع التحالف.
وترى الرياض في بكين وسيطاً يحمل الكثير من المصداقية والثقة. وبحسب وجهة النظر السعودية، فإنّ الصين قادرة على لعب دور عميق في تحقيق التقارب مع إيران، بفضل ما تتمتع به من تحالفاتٍ مؤثرة مع الأخيرة. كما أنّ وزن هذا التحالف قد يساعد بكين في تسهيل قدرة الرياض وطهران على تجاوز خلافاتٍ قديمة وطويلة فرضها تقاطع مصالح الجانبين في منطقة الخليج.
الدكتور محمد العريمي، وهو خبيرٌ عماني مختص في الشؤون السياسية، أكد لفنك أن مصالح السعودية وإيران تلاقت مع وجود وسيط جاد ومحل ثقة للجانبين، سيّما وأن الرياض وطهران فقدا الثقة بدور واشنطن كوسيط قادر على حل المشاكل العالقة بينهما. وبحسب العريمي، فإن سعي السعوديين لعقد الاتفاق مع إيران يأتي في إطار الرغبة في التخلص من تبعات الملفات والأزمات الإقليمية التي تعيق سعي الرياض لتحقيق رؤية 2030، وهي رؤيةٌ اقتصادية واستثمارية في المقام الأول. في المقابل، فإنّ طهران، والكلام للعريمي، التقطت مبادرة الرئيس الصيني كطوق نجاة من الأزمات الداخلية والخارجية التي تواجهها.
الموقف الأمريكي
بحسب وجهة النظر الأمريكية، فإنّ التجارب السابقة تظهر عدم التزام إيران باتفاقات التهدئة أو التقارب. وشكّكت مصادر أمريكية بفرص التزام الإيرانيين بالاتفاق على المدى البعيد، سيّما وأن طهران اعتادت أن تتجاوز تعهداتها بتهديدٍ هنا أو اختراقٍ هناك. ومع ذلك، فقد وصفت المصادر أيّ خطوة تحدّ من التوتر بين إيران والسعودية وتخفض من احتمال نشوب أي نزاع بينهما بـ “الأمر الجيّد”.
التوصيف السابق لا يعدو عن كونه تصريحاً دبلوماسي الطابع ولا يمكن النظر له إلا باعتباره بياناً صحفياً مقتضبا. أما من الناحية العملية، فإن واشنطن تنظر بعين الريبة للدور الجديد الذي بدأت بكين بلعبه في المنطقة. فهذا الدور الصيني قد يكون له تداعياتٌ مهمة وتظهر بصورةٍ تدريجية على الحضور الأمريكي في المنطقة. وبطبيعة الحال، إذا نجحت الصين بتأمين حضورٍ ذي مصداقية في المنطقة وبما يمكنها من الضغط باتجاه حل الأزمات والملفات الإقليمية العالقة، فإن هذا قد يعني تعريض المصالح السياسية الأمريكية في المنطقة للخطر.
العريمي يرى أنّ الاتفاق السعودي الإيراني من أهم الأحداث التي مرت بها المنطقة خلال الأعوام العشرة الماضية. ويضيف الخبير العماني: “ستنتج عن هذا الاتفاق توازناتٌ جديدة. وستشكل هذه التوازنات خطراً على مصالح القوى الدولية، وعلى رأسها أمريكا وأوروبا وأيضا إسرائيل. ولهذا السبب، فإنّ هذه القوى قد تعمل، عبر أدواتها المختلفة، على إفشال هذا الاتفاق، وبما يحول دون مضي السعودية وإيران في مسارٍ لا يتوافق مع مصالحها”.
وبحسب العريمي، فإنّ الإدارة الأمريكية هي أكثر الأطراف التي قد تنظر بعين الريبة لهذا الاتفاق، سيّما وأنها لم تكن على علمٍ به.
ويضيف العريمي: “عاشت دول المنطقة فترة من التوتر والصراعات. وهذا ولّد لديها قناعة بأن الاستمرار في هذا الصراع لن يعود بأي نتائج إيجابية. هذه الدول باتت تنظر لهذا الصراع باعتباره استنزافاً للمال والوقت والجهد”.
وبحسب بعض المصادر، فإن واشنطن اعتادت استخدام تخوّف السعودية من صراعها مع إيران باتجاه دفع الرياض لدعم المسارات الأمنية والعسكرية الأمريكية. كما أنّ واشنطن استخدمت هذه الورقة بما يخدم خلق تقارب بين السعودية وإسرائيل.
بيد أن مسار عودة العلاقات بين الرياض وطهران قد يخلط الأوراق ويدفع كثيراً من المصالح للتقاطع بين أطراف مختلفة. وبحسب جوناثان لورد، مدير برنامج أمن الشرق الأوسط في مركز الأمن الأمريكي الجديد، يبدو أن الرياض تعمل على التخفيف أو الحد من المخاطر التي تشكلها إيران، معتبراً أن السماح للصين بالوساطة والحضور السياسي، لن يهدد العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة والسعودية.
متى يفشل الاتفاق؟
يتشكك السعوديون بشدة في احتمال أن تتخلى إيران عن رغبتها في الهيمنة، سيّما وأنّ طهران مضت شوطاً كبيراً في تطوير مشروعها النووي وتحظى بحضورٍ مؤثّر في أربع عواصم عربية. وبطبيعة الحال، فإن فترة الشهرين التي أشار لها اتفاق بكين لاستئناف العلاقات بصفةٍ رسمية وإعادة فتح البعثتين الدبلوماسيتين بين الجانبين كفيلةٌ بأن تكشف عن النوايا الإيرانية.
بيد أن الدكتور محمد العريمي يرى أن نجاح هذا الاتفاق يعتمد على الإرادة الصريحة والصادقة للطرفين. والخوف هنا، والقول للعريمي، من تباين الرؤى داخل أروقة النظام الإيراني، في ظل وجود قوى داخلية مؤثرة قد تدفع باتجاهات مختلفة تُفشل الاتفاق.
في المقابل، فإنّ الطرف السعودي يدير فيه ولي العهد محمد بن سلمان مفاتيح الفواعل السياسية والامنية بشكل قوي. ويرى العريمي أنّ طبيعة الدور الذي يلعبه ولي العهد السعودي على مستوى الحياة السياسية السعودية كفيلٌ بأن يضمن دفع الرياض نحو تقديم مبررات تسوّق للمجتمع المحلي فكرة التسوية مع طهران. ففي عالم السياسة الراهن، قد يتحوّل العدو إلى مشروع صديق أو حليف أو حتى إلى ما هو أقل من ذلك.
في المقابل، يرى مراقبون أن السعودية تبدو حريصة على ألّا تكون ضمن أي تحالف إسرائيلي غربي يستهدف إيران في المرحلة القادمة. ويعود السبب في ذلك إلى رغبة السعودية بتجنب التوافق مع إسرائيل رغم التهديد الإيراني، سيّما وأنّ التحالف مع إسرائيل سيفرض على السعودية تبعاتٍ والتزاماتٍ عسكرية مستقبلية قد تكون بغنى عنها.
السعودية اعتادت تأكيد أنّ أمريكا حليفها الإستراتيجي الأول. ومع ذلك، يبدو وأن الرياض تحاول الآن الضغط على واشنطن – من خلال اتفاق بكين – ليس فقط لإعادة شكل العلاقات لمجراها الطبيعي دون تعالي أو حسابات مسبقة، وإنما للضغط بهدف تطوير العلاقات وتفعيل اتفاقيات التسليح ودعم مشروعات الرياض الطموحة لإنشاء مفاعلات نووية يمكن استخدامها لأغراضٍ سلمية الطابع.
اليمن أزمة الأزمات
يرى الكثير من المراقبين أنّ الحرب الدائرة في اليمن تمثل حرباً بالوكالة بين الرياض وطهران. بيد أن الاتفاق السعودي الإيراني قد يشكّل مناخاً إيجابياً يدفع باتجاه حلحلة الملف اليمني.
ويعتبر الملف اليمني من أهم الملفات الحساسة العالقة بين الجانبين. ولهذا الأمر، فقد كانت الأزمة اليمنية من أهم الملفات التي ناقشتها الاجتماعات التحضيرية في مسقط وبغداد قبيل التوقيع على الاتفاق في بكين.
وتمثّل الأزمة اليمنية ورقة الضغط الدائمة على الدولة السعودية. وبحكم وجود اليمن على الحدود الجنوبية المتاخمة للسعودية، فإن ما يجري في النزاع اليمني يدفع الرياض للوقوع في حالة استنزافٍ لا تنتهي في شتى المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
ويمكن القول إن حرب اليمن باتت تشكل تهديدا للأمن القومي السعودي، سيّما وأن الحوثيين يشكلون تهديداً مباشراً ودائماً على السعودية وأمن الطاقة والممرات المائية. لهذا، تسعى الرياض للخروج من أزمة اليمن وتخفيف خطرها. وقد يوفّر لها اتفاق بكين وسيلة أو أداة لضمان ذلك.
وعلى هذا الأساس، لن تتأكد السعودية من حُسن نوايا إيران نحو التهدئة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية – وهو ما ورد في نص اتفاق بكين – دون بوادر حقيقية على الأرض. ويعني هذا الكلام أنّ إيران مطالبةٌ بالتأثير على حلفائها الحوثيين، ليس لوقف الهجمات إلى عمق الداخل السعودي فحسب، بل أيضاً لإظهار بوادر تدفع باتجاه استمرار الهدنة اليمنية والعودة إلى طاولة المفاوضات لتحقيق السلام في اليمن.
لهذا يرى مراقبون أنه من المبكر الحديث عن إمكانية أن يقود التقارب الحاصل بين الرياض وطهران لخروج اليمن من النفق الصعب. وبالرغم من حالة التفاؤل الحذر القائمة بين السعوديين والإيرانيين، إلا أن اليمنيين يعتقدون أن أزمتهم أعمق من أن يُسهم اتفاق سياسي بين طهران والرياض في حلها.
اتفاق بكين قد يعمل على تهيئة الأجواء للتمهيد نحو تهدئة طويلة ووقف العمليات العسكرية في اليمن. ومع ذلك، فإن هذا الاتفاق قد لا تفضي إلى تسوية سياسية في هذا البلد. ويعتمد هذا الأمر، وفق مراقبين، على ما تمارسه طهران من ضغط على حلفائها في صنعاء للخوض في مسار التفاوض.
وبطبيعة الحال، فإنّ حلحلة الملف اليمني ستؤثر بالضرورة على الملفات الأخرى العالقة في سوريا ولبنان الذي يشهد انهيارا اقتصادياً وسياسياً غير مسبوق.