ساهمت الأزمة السورية في نمو ظاهرة المساكنة أكثر من أي وقتٍ مضى عبر عدّة عوامل.
يوسف شرقاوي
لا يمكن التحديد بدقة متى ظهر النقاش العلني حول “المساكنة” في سوريا. بيد أن بعض المراجع تشير إلى نشر صحيفة الثورة الرسمية السورية للقاءات مع شباب يعيشون تجربة المساكنة في عام 2006. وفي اللقاءات التي أجرتها الصحيفة، أشار بعض الشباب إلى عدم انتظارهم لإقرارٍ من المجتمع، لأنهم يعرفون أنه يرفضهم لاعتبارات متعددة.
يؤكّد ذلك أنّ المساكنة لم تنتج فقط بسبب الأزمة السورية وعواملها. ومع ذلك، فقد ساهمت هذه الأزمة في نمو ظاهرة المساكنة أكثر من أي وقتٍ مضى، عبر عدّة عوامل. وتتضمن قائمة العوامل كلاً من انفصال عدد كبير من الشبّان عن عوائلهم وانتقالهم للعاصمة دمشق سواء للدراسة أو العمل.
يضاف إلى ذلك انتشار ثقافة تأجير “الغرفة” في العاصمة بسبب كلفة الإيجارات الباهظة، وكذلك الوضع الاقتصادي المتردّي إجمالاً. كما لا يمكننا إغفال أن المساكنة فعلٌ ينتج عن الحريّة الشخصيّة، بوجود هذه العوامل أو بعدم وجودها.
التعريف
يعرّف قاموس كامبريدج المساكنة بالعيش مع شخصٍ آخر وإقامة علاقة جنسية معه دون وجود عقد زواج. ويعيد قاموس أوكسفورد أصل كلمة المساكنة “Cohabitation” إلى أواسط القرن السادس عشر. واشتقت هذه الكلمة من كلمتين: (co-) التي تعني معاً و (-habitate) التي تعني يعيش.
أما في العالم العربي، فقد شاع فيه مصطلح المساكنة دون يقترن بالضرورة عند بعض متناوليه بإقامة علاقة جنسية، إذ يرونه ممكناً دون ذلك.
كما يجدر التمييز بين “الزواج المدني” والمساكنة. ويعد الزواج المدني حالة ارتباط رسمية موثقة تتم بموجب القانون المدني في دولة الزوجين دون أن تتدخل فيه العوامل الدينية. أما المساكنة، فلا تنص على وجود أي علاقة رسمية من الناحية القانونية بين المساكنين.
القانون السوري
تبقى وجهة نظر القانون السوري بالمساكنة هي الشائكة. يقول الخبير القانوني رامي الخيّر في حديثٍ لفنك إنّه “لا يوجد في القانون السوري نص قانوني يعاقب فعل المساكنة، ولا يوجد ما يبيحها.
لكن، بالعودة لنصوص القانون بإمكاننا إسقاط فعل المساكنة على نصوص أخرى. بهذا الإسقاط نجد أن المساكنة أمرٌ يعاقب عليه القانون. فمثلاً: القانون السوري، وتحديداً قانون العقوبات السوري، كان واضحاً عندما جرّم التعرض للآداب العامة بالسجن الذي يصل لستة أشهر. وهذا النص خطير لأن مفهومه واسع يندرج ضمنه فعل المساكنة”.
يعتقد الخيّر إجمالاً أنّ هناك بعض النصوص القانونية التي يجب العمل على إلغائها لأنها تحمل بين طياتها عادات وموروثات قديمة جداً.
الدين
يتفق رجال الدين المسيحيين والمسلمين على أنّ المساكنة فعل حرام وتُعَد زنا. ويقول علي محمد الأزهري، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر، إنّه لا بد من وجود عقد رسمي هو الزواج المعروف بين الناس، وكل ما عدا ذلك زنا، وحكمه حرام.
واتفق مع الأزهري كلٌّ من عضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الدكتور عبد الله النجار، وكذلك الداعية الإسلامي وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر مظهر شاهين.
على الطرف الآخر، ثمّة رأي للمفكر السوري محمد شحرور يؤيد المساكنة ولا يحرّمها طالما تمّت بقبول من الطرفين. وفي الحوار الذي أجرته معه العربية عام 2008، قال شحرور للشباب: “اقرؤوا كتاب الله. لا تخافوا منه ولا تخافوا عليه. ويمكنكم ذلك بدون وسيط وبدون شيخ. والمساكنة حلال شرط موافقة الطرفين وبدون إشراك الأنثى لشخص آخر مع الرجل، أو إشراكه هو لواحدة أخرى معها”.
النسوية
للحركة النسوية السورية وجهة نظر في موضوعة المساكنة. وتعتبر هذه الحركة المساكنة وسيلة لحماية النساء ودعم حريّة اختياراتهن واستقلاليتهن، لا سيما في قضية محورية كاختيار الشريك المناسب.
في مقابلة مع فنك، قالت الناشطة المجتمعية ماريبيل حداد إنّ المساكنة تأتي في إطار التعرّف على الشريك كما هو بحقيقته غير الانتقائية.
وعمّا إذا كان اختيار المرأة للمساكنة يحمّلها أعباء إضافية تثقل كاهلها، قالت حداد إنها لا ترى هذا يحدث إلا من ناحية رؤية المجتمع والعائلة والدين للمساكنة، واعتبارها مخالفة للعادات والتقاليد باختلاف ردود الأفعال عليها سواء المقاطعة أو جرائم الشرف الواقعة على النساء.
وتتمنى حداد أن يكون المجتمع أكثر قبولاً للحريات ككل، والمساكنة واختيار الشركاء خصوصاً، كَونها مسائل شخصية. وتضيف: “إنّ المجتمع يحاول فرض طريقة حياتك وشريكك عليك، لكنه يحمّلك المسؤولية إن فشلت العلاقة”.
وبعيداً عن مناقشة مفاهيم ليبرالية كالمساكنة، يبقى المجتمع أكثر تأثراً بالدين والموروثات الثقافية، وفقاً لحداد. وتقول: “من الوارد أن تكون أسرة فتاة معنية موافقة بالمبدأ على المساكنة، لكن الضغط المجتمعي الذي يُمارس عليها وعلى أسرتها يحولهم إلى الرفض”.
وتضيف: “القانون لا يكفي. وحتى وإن شرّع القانون المساكنة وحمى مطبّقيها ودعمهم، تبقى الموروثات أقوى تبنيّاً من القانون. ويعود السبب في ذلك إلى الوزن الكبير الذي يتمتع به العرف عندما يتعلق الأمر بظاهرة اجتماعية مماثلة للمساكنة”.
المجتمع المدني
يرى الناشط والمهتم بقضايا الشأن العام س. ح.* أنّ المجتمع المدني لم يصل أبداً لمرحلة إحقاق المساكنة وتشريعها عرفياً. ويقول بدوي لفنك: “الضغط المجتمعي اليوم أقوى بكثير من خطوة مثل هذه”.
يضيف س. ح.* إنّ عوامل متعددة أدت لبروز ظاهرة المساكنة. وتشمل هذه العوامل حالة التغيّر الديمغرافي التي تعيشها سوريا، فضلاً عن انتشار ثقافة إيجار الغرف المشتركة في العاصمة.
وبحسب س. ح.*، فإنّ المجتمع المدني لم يجرؤ حتى يومنا هذا على الحديث حول موضوعات المساكنة والمثلية والحق في الوصول إلى الإجهاض الآمن. ويعود السبب في ذلك إلى وجود قانون يجرّم التطرّق لهذه الموضوعات. كما أن الحديث عنها يُعد خرقاً للعقد الاجتماعي، ويجعل من المتحدث مواطناً غير فاعل لأنه خرق مبادئ العقد الاجتماعي الذي يوافق عليه السوريون.
يعيدنا هذا، وفقاً للناشط، إلى نقاشٍ معقد وإلى فكرة التغيير، وهل هذا العقد الاجتماعي صالح اليوم مع كل هذه المتغيرات ومتى يجب أن يُحدَّث.
أما جهود المجتمع المدني فهي جهود فردية تكتفي بالتأكيد على عدم الوصمة والتمييز لمَن اختار المساكنة. وبحسب س. ح.*، فإن المجتمع المدني يؤمن بضرورة أن تشمل مظلة المواطنة جميع الأفراد. وفي الوقت الذي لا يسعى فيه هذا المجتمع إلى تغيير العلاقات الأهلية المحافظة السائدة، إلا أنه يؤمن بضرورة أن يقوم مفهوم المواطنة على أساس الحرية في اختيار الشريك، وبصرف النظر عن خلفيته الإثنية والدينية.
استطلاع رأي
أجرى موقع فنك استطلاع رأي لشريحة من الشبان والشابات السوريين عبر موقع التواصل فيسبوك. وشارك في هذا الاستطلاع ٨٠ شخصاً بمتوسطٍ عمريّ يتراوح بين 18 و30 سنة، وأغلبهم من الطلاب الجامعيين والخريجين.
معارضون
رفض 51% من المشاركين بالاستطلاع المساكنة لأسبابٍ دينية ومجتمعية. واستند هؤلاء في موقفهم على ضرورة تغليب العوامل الدينية الإسلامية. وتجدر الإشارة إلى أنّ جميع رافضي المساكنة المشاركين في الاستطلاع كانوا من المسلمين.
واتفق بعض المشاركين الرافضين على أنّ المساكنة هي لفظٌ ملطّف لـ “الزنا” المُحرَّم في الدين الإسلامي، وأنّه لا يوجد “رابط شرعي” فيها. كما اتفق هؤلاء على عدم اختلاف المساكنة عن الزواج. وشدد رافضو المساكنة على أن الزواج أجدى، كَونه حلالاً وشرعياً. واعتبر الرافضون أن فترة الخطوبة تنوب عن المساكنة لأنها تتيح للطرفين التعرّف على الآخر. أما إن كانت غير ذلك، فليست سوى انحلالاً أخلاقياً، وفعلاً حراماً.
رأيٌ واحد من الآراء المعارضة للمساكنة استند على أسس مجتمعية وليس دينية. وقال صاحب هذا الرأي: “يجب أن يحدث تغيير في بنية المجتمع أولاً ونمط تفكيره قبل المضي قدماً بالمساكنة. دون ذلك، ستصبح المساكنة هدفاً وليست وسيلة، لأنّ المجتمع مليءٌ بالكبت والعقد. وسيؤدي ذلك إلى نتائج كارثية على الصعيد النفسي والاجتماعي”.
مؤيدون
أيّد 28% من المستطلعين فكرة المساكنة بصفةٍ عامة. واشترط 27.2% من هؤلاء تأييد المساكنة في حال كانت ستفضي في نهاية المطاف إلى الزواج.
واعتبر أحد مؤيدي المساكنة أنها ليست مرادفة لعبارة “الجنس غير المحمي الذي سيورث آلاف اللقطاء”، لكنّ المجتمع يراها بهذا الشكل. وأضاف: “المجتمع قادرٌ على تقبّل انعدام كافة الحقوق الحياتية، لكنه مستعد للقيام بثورة على مَن يساكن”.
ورأى أحد المشاركين في الاستطلاع أنّ سؤال الأفراد عن رأيهم حول موضوعة اجتماعية هو أقل الأسئلة أهمية، لأن أي سلوك اجتماعي هو نتيجة معطيات المجتمع شديدة التعقيد.
وقال: “هل ينتج المجتمع السوري سلوكاً اجتماعياً كالمساكنة ويتقبله، أو هل المساكنة تطبيق لأي من نظريات المجتمع السوري؟ لا. لماذا يوجد مؤيدون لها إذن؟ لأنهم غير متفقين مع معطيات مجتمعهم ولهم وجهات نظرهم المختلفة. بالتالي، يكون عدم استنكاري للمساكنة مفهوماً، كما هو مفهوم استنكار الآخرين منها”.
على جانب آخر، اعتبر مشاركٌ آخر في الاستطلاع أن “مجتمعاتنا عشائرية أبوية، عنصرها الأصغر هو الأسرة وليس الفرد”. وأضاف: “الفرد هنا يُعامل كتابع للأسرة، وليس كعنصر مستقل.
لذا، تُعتبر المساكنة خرقاً لهيكلية المجتمع ونواته الأساسية وهي الأسرة. ويرى المجتمع أنّ استقلال الفرد ينتقل من خلية إلى خلية. بالمحصلة، يعتبر المجتمع استقلال الفرد أخطر من انجراره للتعاطي والإتجار والأفعال الجنائية”.
حريّة شخصيّة
على الطرف الآخر، عبّر 16% من المشاركين في استطلاع الرأي عن حيادهم تجاه ظاهرة المساكنة. واعتبر هؤلاء المساكنة حريّة شخصيّة ترجع لاختيار الطرفين.
ورأى أحد المستطلعين أن تعميم مسمى المساكنة سيجعله قريباً من مسمّى الزواج، ويحمّله إجراءاته بالتنفيذ. وقال: “كلّ شيء حر من المسميات وقولبة اللغات وضرورات التسمية هو الحقيقي”.
واعتبر مستطلعٌ آخر أنّ المساكنة تتعلق بالحرية الشخصية فقط، رافضاً القفز من مرحلة عرض الرأي إلى فرض الرأي، ورفض الوصاية والتبشير.
ويقول أحد المستطلعين الآخرين: “المسألة متعلقة بتضييق السلطة الدينية الخناق على هذا النوع من العلاقات. لكن الأمر منوط بالإنسان نفسه فقط”. وأضاف: “توجد دول عظمى طبّقت الزواج المدني وحرية التعاطي بمسألة الجنس ولم تنهار لا اجتماعياً ولا أخلاقياً، بل تُعد متقدمة على كافة الأصعدة”.
الخوف من الوصمة
أخيراً، ثمة في الاستطلاع من عبّر عن خوفه ورضوخه للجانبين المجتمعي والديني، وبلغت نسبة هؤلاء 5%. وبيّن هؤلاء أنهم يخافون من خوض التجربة رغم رغبتهم، بسبب الإقصاء المجتمعي وكذلك الديني الذي يمكن أن يتعرّضوا له.