وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

التمييز الجندري في إسرائيل يتزايد بسبب التطرّف المتصاعد

تصاعد اليمين المتطرّف يساهم اليوم في تزايد التمييز الجندري في إسرائيل، وذلك على مستوى مشاركة المرأة في السياسية وسوق العمل والجيش الإسرائيلي.

التمييز الجندري في إسرائيل
متظاهرون يرتدون الزي الأحمر كشخصيات من مسلسل “The Handmaid’s Tale” يسيرون خلال مسيرة احتجاجية ضد خطة الحكومة الإسرائيلية للإصلاح القضائي في تل أبيب في 24 يوليو 2023. جاك جويز / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

شهدت إسرائيل خلال السنوات الماضية تصاعدًا كبيرًا في خطاب وحضور قوى اليمين القومي والديني المتطرّف، في الحياة السياسيّة العامّة، إلى الحد الذي أنتج الحكومة الأكثر تطرّفًا في تاريخ إسرائيل في شهر ديسمبر/كانون الأوّل 2022. ومنذ ذلك الوقت، تهيمن على المشهد السياسي الإسرائيلي تلك الحكومة، التي تسيطر فيها أحزاب أقصى اليمين على 13 وزارة من أصل 32. وتشمل قائمة الوزارات التي يسيطر عليها أقصى اليمين الإسرائيلي اليوم وزارات حسّاسة وأساسيّة، مثل الأمن القومي والداخليّة والماليّة.

هذه التحوّلات أدّت إلى تغيّرات سريعة في السياسات العامّة الإسرائيليّة، ومنها على سبيل المثال تسارع عمليّات الاستيطان في الضفّة الغربيّة، المُقامة على المناطق التي احتلّتها إسرائيل عام 1967، والتي تُعتبر أعمال بناء غير قانونيّة بحسب القانون الدولي. كما أدّى تزايد نفوذ أقصى اليمين في مركز القرار الإسرائيلي إلى تشنّج علاقة إسرائيل بالسلطة الفلسطينيّة، التي كان يفترض أن تلعب دور الشريك الفلسطيني في عمليّة السلام، بحسب اتفاق أوسلو الموقّع عام 1993.

لكن، بمعزل عن التداعيات على مستوى النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، فقد بات هناك ما يكفي من مؤشّرات للدلالة على أنّ تصاعد اليمين المتطرّف يساهم اليوم في تعميق الفجوة الجندريّة وزيادة التمييز ضد المرأة، وذلك على مستوى مشاركة المرأة في الحياة السياسيّة وسوق العمل وانخراطها في الجيش الإسرائيلي. كما أصبح تصاعد حضور هذه الأحزاب المحافظة يؤثّر سلبًا على السياسات العامّة الإسرائيليّة، التي يفترض أن تحمي المرأة من العنف والتمييز ضدّها.

بالنتيجة، وبحسب تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديّة حول التمييز ضد المرأة، حلّت إسرائيل في مايو/أيّار 2023 في آخر ترتيب دول المنظّمة، وفقًا لنتائج مؤشّر المؤسسات الاجتماعيّة والجنسانيّة. مع الإشارة إلى أنّ المنظمة تضم 38 دولة متقدمة اقتصاديًا من بينها إسرائيل، بينما يقيس المؤشّر درجة التمييز ضد المرأة وفقًا لأربعة معايير أساسيّة وهي: التمييز داخل الأسرة، والحماية والأمن الشخصي، ودرجة الولوج إلى الموارد الماليّة، ومستوى الحريّات المدنيّة.

تقدّم اليمين وتراجع مشاركة المرأة سياسيًا

تتبنّى التيّارات الحريديّة الدينيّة في إسرائيل مفاهيم فقهيّة تستبعد المرأة من المشاركة في الحياة العامّة، وهذا ما يخرج النساء عادة من القوائم الانتخابيّة التي تدعمها هذه التيّارات، ويقلّل من حصّة هذه التيّارات في الحكومة الإسرائيليّة.

وعلى سبيل المثال، وخلال الانتخابات الأخيرة التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، خلت قائمة حركة “شاس”، التي تمثّل التيّار الديني الحريدي الشرقي، وقائمة حزب “يهدوت هتوراة”، التي تمثّل التيّار الحريدي الغربي، بشكل تام من النساء، التزامًا بتوجّهات هذه التيّارات الدينيّة. أمّا قائمة حزب “الصهيونيّة الدينيّة”، المشارك في الإئتلاف اليميني الحاكم اليوم، فلم تضم سوى ثلاث نساء فائزات، من أصل المقاعد ال14 التي حصل عليها في الكنيست.

على هذا الأساس، يمكن فهم العلاقة الطبيعيّة ما بين تقدّم أحزاب أقصى اليمين في تمثيلها داخل الكنيست والحكومة، وتراجع مشاركة المرأة في مركز القرار السياسي. فبحسب أرقام انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2022، لم يضم الإئتلاف اليميني في الكنيست، الذي نال الغالبية وشكّل الحكومة الأخيرة، سوى تسع نساء فقط، من أًصل المقاعد ال67 التي حصل عليها. وبذلك، تكون النساء قد حازت على نحو 13% فقط، من عدد المقاعد التي تشكّل الغالبية النيابيّة، والتي يتزعّمها رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو.

لكل هذه الأسباب، تراجع إجمالي عدد النساء في الكنيست إلى 29 امرأة فقط من أصل 120 مقعدًا، في الانتخابات الأخيرة التي حصل فيها اليمين على الغالبية، مقارنة ب35 امرأة في الانتخابات السابقة. أمّا على مستوى الحكومة اليمينيّة التي شكّلها نتنياهو بعد الانتخابات، فتراجع عدد النساء إلى ستّ نساء فقط من أصل 32، بينهن وزيرتان من دون حقيبة، مقارنة بتسع نساء في الحكومة السابقة. وكما كان متوقّعًا، رفض شركاء نتنياهو من الأحزاب الحريديّة الدينيّة التمثّل بأي امرأة، داخل الحكومة الجديدة ما قلّص من نسبة النساء داخل الحكومة الإسرائيليّة على هذا النحو.

وبمعزل عن عدد النساء داخل حكومة نتنياهو، فقد بدا من الواضح أنّ التنازلات التي قدّمها نتنياهو لأحزاب أقصى اليمين قد أفضت إلى تسليمهم الوزارات الأكثر حساسيّة، الأمر الذي أبعد النساء عن الحقائب الوزاريّة المهمّة ذات الصلاحيّات الواسعة. وبالنتيجة، اقتصرت مشاركة المرأة داخل الحكومة الإسرائيليّة على بعض الحقائب المستحدثة أو البعيدة عن الملفّات السياسيّة الحسّاسة، أو على عضويّة الحكومة من دون تولّي أي حقيبة على الإطلاق.

للسبب عينه، أثارت تركيبة حكومة نتنياهو مخاوف المجتمع المدني الإسرائيلي، لجهة إمكانيّة تهميش القضايا المتعلّقة بحقوق المرأة في السياسات العامّة الإسرائيليّة، نتيجة تقلّص مشاركة المرأة في القرار السياسي الإسرائيلي. كما تصاعدت تحذيرات المنظّمات النسويّة والجمعيّات المؤيّدة لمجتمع “الميم” من حصّة الأحزاب العقائديّة الدينيّة الكبيرة داخل الحكومة، نظرًا لاعتناق هذه الأحزاب إيديولوجيّات ذكوريّة أو أفكارًا مناهضة لحقوق المثليين، ما قد يجرّ الحكومة بأسرها إلى اعتماد أجندات محافظة قد تزيد من معاناة النساء أو المثليين في إسرائيل.

التداعيات على السياسات العامّة الإسرائيليّة

تمامًا، كما خشي كثيرون، تأثّرت السياسات العامّة الإسرائيليّة بتركيبة حكومة نتنياهو اليمينيّة وعقيدة أحزابها المتطرّفة، وهذا ما بدأ بإبعاد القرارات الحكوميّة عن أولويّات الدفاع عن حقوق المرأة ومصالحها. فبعدما اتخذت الحكومة الإسرائيليّة السابقة برئاسة يائير لبيد خطوات عمليّة لانضمام إسرائيل إلى اتفاقيّة إسطنبول لمكافحة العنف ضد المرأة، سرعان ما تراجعت حكومة نتنياهو عن اتخاذ كلّ هذه الخطوات بمجرّد تشكيل الحكومة الجديدة، وذلك بموجب اتفاق ثنائي ما بين حزب “الليكود” الذي يرأسه نتنياهو، وشريكه في الإئتلاف الحكومي حزب “الصهيونيّة الدينيّة”.

ومن المعلوم أنّ اتفاقيّة اسطنبول، التي أبرمها الاتحاد الأوروبي وفتح باب التوقيع عليها عام 2011، تلزم الدول الموقعة عليها باتخاذ خطوات تناهض العنف ضد المرأة بأشكاله كافّة، كالزواج القسري والعنف الجنسي والتعقيم وتشويه الأعضاء التناسليّة والعنف العائلي. إلا أنّ أحزاب أقصى اليمين الديني الإسرائيلي ترفض العديد من بنود الاتفاقيّة، وخصوصًا تلك التي تشدّد على المساواة التامّة بين المرأة والرجل، وتلك التي تفرض إجراءات لمكافحة العنف الأسري، وهذا ما تعدّه هذه التيّارات تعديًا على قوانين الأسرة والأحوال الشخصيّة الدينيّة.

ثم ما لبثت حكومة نتنياهو أن قامت بإعداد مشروع قانون يهدف إلى منح المحاكم الحاخاميّة المزيد من الصلاحيّات للبت بقضايا الأحوال الشخصيّة، التي تنظر فيها المحاكم المدنيّة في العادة. وهكذا، أثارت حكومة نتنياهو بهذه الخطوات احتجاجات جمعيّات حقوق المرأة، التي رأت في هذا المقترح تجاوزًا لقرار سابق ومعاكس صدر عن المحكمة العليا عام 2019. كما رأت هذه الجمعيّات أن مقترح حكومة نتنياهو سيمس بحقوق النساء، التي ستكون عرضة للخطر في المحكمة الحاخاميّة، نظرًا لانحياز الشرائع الدينيّة للرجال، بحسب رأي هذه الجمعيّات.

وفي الوقت عينه، قامت حكومة نتنياهو بإلغاء مقررات سابقة فرضت استعمال صيغتي المذكّر والمؤنّث عند نشر عروض الوظائف الحكوميّة، لتستبدل هذه الصيغة باستعمال صيغة المذكّر حصرًا. كما تقدّمت الحكومة بمشروع قانون لإعادة هيكلة “سلطة النهوض بالمرأة”، التي تختص بتزويد الوزارات والجهات الحكوميّة بالبيانات والأدوات اللازمة لتعزيز مشاركة المرأة ومكافحة التمييز ضدها. وكان من الواضح أنّ مشروع القانون هذا استهدف تقليص استقلاليّة هذه السلطة، وإخضاعها للمزيد من الهيمنة من جانب السلطة التنفيذيّة، التي تسيطر عليها أحزاب اليمين.

أمّا على مستوى الجيش الإسرائيلي، فسرعان ما تم تدشين مديريّة خاصّة لضمان حفاظ المجنّدات على لباس محافظ ومحتشم، لضمان “عدم المس بمشاعر المجنّدين المتدينين” الذين ينخرطون في وحدات الجيش. وهذا النوع من الإجراءات التمييزيّة، بدأ مؤخرًا بإبعاد النساء عن العديد من الوحدات العسكريّة، التي قامت بفرض هذا النوع من الإجراءات بشكل مشدّد وصارم. مع الإشارة إلى أنّ القوانين الإسرائيليّة تفرض الخدمة العسكريّة الإلزاميّة على الذكور والإناث على حدٍ سواء، إلا أنّ اليهود المتديّنين من مجتمع “الحريديم” غالبًا ما يرفضون الخضوع لهذه الخدمة ما يقلّص نسبة الشباب الذين يقومون بهذه الخدمة داخل مجتمع “الحريديم” إلى نحو 10%.

وبالتوازي مع كلّ هذه الإجراءات، يخشى كثيرون من نتائج الخطوات التي تقوم بها حكومة نتنياهو لتقليص صلاحيّة المحكمة العليا، ضمن إطار مشروع “الإصلاح القضائي”. فصلاحيّات هذه المحكمة تُشكّل عادة ضمانة للأقليّات والفئات الأكثر تهميشًا وهشاشة، ومن ضمنها المرأة، في ظل النظام السياسي الإسرائيلي الذي يمنح صلاحيّات موسّعة للحكومة والأغلبيّة النيابيّة المؤيّدة لها في الكنيسيت. وبمجرّد تقليص صلاحيّات هذه المحكمة، سيكون بإمكان حكومة نتنياهو التوسّع في اتخاذ القرارات وتمرير مشاريع القوانين التي تقلّص من حقوق المرأة، بما يتلاءم مع أجندات الأحزاب الدينيّة المتمثّلة في الحكومة.

بالنتيجة، تعبّر كل هذه التطوّرات عن المخاطر الكبيرة التي تحيط بوضعيّة النساء في إسرائيل، في ظل تنامي قوّة اليمين الديني والقومي المتطرّف، وهذا ما سيُضاف إلى المخاطر التي تشكلها هذه التيّارات على الأقليّة العربيّة داخل إسرائيل وفي مناطق الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.

وفي الوقت عينه، تعبّر هذه التطوّرات أيضًا عن الانقسام المجتمعي الحاد الذي تشهده إسرائيل منذ فترة، ما بين المكوّنات المحافظة دينيًا، والآخذة بالتوسع ديموغرافيًا، والمكونات العلمانيّة التي تملك أولويّات مختلفة تمامًا على المستوى الاجتماعي. وهذا الانقسام المجتعمي، يرتبط بشكل وثيق بالانقسام السياسي الحاد الذي تشهده إسرائيل اليوم، والذي انعكس في المعركة المرتبطة بمشروع “الإصلاح القضائي” وصلاحيات المحكمة العليا.