تواجه النساء اللبنانيّات في الرياضة التحيّز الجنسي والتوقعات الاجتماعيّة. ومع ذلك، فهنَّ مصممّات على اختراق هذه الحواجز وملاحقة أحلامنَّ بجسارة.
دانا حوراني
شهد المشهد الرّياضيّ اللّبنانيّ في السّنوات الأخيرة ثورة جوهريّة اجتازت فيها النّساء أشواطًا مذهلة، محطّمات التّصوّرات المنمّطة والمحرّمات الاجتماعيّة.
من كرة القدم وكرة السّلّة إلى سباقات المضمار والميدان ورفع الأثقال، لطالما هيمن الرّجال على الرّياضات اللّبنانيّة قبل اشتراك النّساء فيها وتحوّلهنّ إلى قدوات قويّات لفتيات الأجيال القادمة على الصّعيد القوميّ.
فعلى الرّغم من العقبات الكثيرة، بخاصّة الانهيار الاقتصاديّ اللّبنانيّ، صنعت محاسن هلا فتّوح التّاريخ عام 2021 عندما اختيرت لتمثّل لبنان كرافعة أثقال في دورة الألعاب الأولمبيّة الصّيفيّة في طوكيو 2020، الّتي أُجِّلت إلى عام 2021 بسبب جائحة كوفيد-19.
ليست هذه المرّة الأولى الّتي تخطف فيها فتّوح الأنظار، ففي الدّورة الثّامنة عشر لألعاب البحر الأبيض المتوسّط، الحاصلة في طراغونة إسبانيا، حازت فتّوح على ميداليّة دوليّة في رفع الأثقال للسّيّدات عام 2018. واستمرّت سلسلة انتصاراتها بعد عام عندما فازت بثلاث ميداليّات ذهبيّات في بطولة العرب في عمّان والأردن، لتصبح بذلك بطلة العرب اللّبنانيّة الأولى عام 2019.
في المشهد الرّياضيّ اللّبنانيّ الشّديد المنافسة، تتساوى النّساء الرّياضيّات مع نظرائهنّ الرّجال من حيث الشّغف والقوّة، إلّا أنّهنّ ما زلن يعانون من الإهمال وعدم التّقدير. وعلى الرّغم من التزامهنّ الثّابت بالرّياضة، تستمرّ هذه النّساء المتميّزات في مجابهة العديد من العوائق، بما في ذلك التّحيّز الجنسيّ المترسّخ والتّوقّعات الاجتماعيّة. لكنّ عددًا متزايدًا من النّساء الرّياضيّات العنيدات يخرق هذه الحواجز مرسِلًا رسالة مدوّية بضرورة ملاحقة الأحلام بجسارة.
النّجمات الأولمبيّات الأقلّ شهرة
على الرّغم من أنّ كرة السّلّة وكرة القدم هما الرّياضتان الأشهر في لبنان، تميّز رفع الأثقال بجاذبيّة خاصّة لدى الرّياضيّين/الرّياضيّات منذ منتصف القرن العشرين. ازداد البرهان على التّفاني تجاه اللّياقة البدنيّة، عندما أرسل لبنان وفدًا إلى دورة الألعاب الأولمبيّة الصّيفيّة عام 1936 في برلين، ما أدّى إلى تشكيل اللّجنة الأولمبيّة للبلاد عام 1947.
ومنذ ذلك الحين، شاركت مشاركة فعليّة في الفعّاليّات الدّوليّة مثل الألعاب الأولمبيّة الصّيفيّة والشّتويّة، واستضافت عددًا من المسابقات، من ضمنها دورة الألعاب العربيّة عام 1997 وكأس آسيا عام 2000.
لكن بَيْدَ جهوده، فشل لبنان في الفوز بميداليّة الألعاب الأولمبيّة الذّهبيّة، غير أنّ فعّاليّات المصارعة اليونانيّة الرّومانيّة ورفع الأثقال شهدت على فوز الرّياضيّين اللّبنانيّين زكريّا شهاب، ومحمّد طرابلسي، وحسن بشارة، وخليل طه، بأربع ميداليّات، ميداليّتين برونزيّتين وميداليّتين فضّيّتين.
وعلى الرّغم من الأزمة الاقتصاديّة المتردّية وتداعيات انفجار مرفأ بيروت عام 2020، شارك عدد من النّساء الرّياضيّات اللّبنانيّات عام 2021 في دورة الألعاب الأولمبيّة في طوكيو، لكن لم يحظون إلّا بالقليل من الاهتمام والتّقدير.
برزت راي باسيل، سفيرة النّوايا الحسنة للشّباب والنّوع في برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ، والبطلة اللّبنانيّة في الرّماية من الحفرة (trap)، كونها المرأة العربيّة الأولى الّتي تشارك في مسابقة الألعاب الأولمبيّة، وقد حازت على ثلاث ميداليّات كأس العالم على التّوالي في الرّماية من الحفرة.
كذلك، سُجِّلت غابرييلّا دويهي في التّاريخ كسبّاحة لبنانيّة تبلغ من العمر 22 سنة، وكانت هذه المرّة الثّانية الّتي تشارك فيها في الألعاب الأولمبيّة، بعد أن نافست نظيراتها في فعّاليّة الـ400 متر من السّباحة الحرّة للسّيّدات في ألعاب ريو الصّيفيّة لعام 2016.
وباقتراب الألعاب الأولمبيّة الباريسيّة المترقَّبة لعام 2024، تستعدّ موجة جديدة من الرّياضيّين والرّياضيّات الطّموحين والطّموحات لترك بصمتهم / بصمتهنّ على السّاحة العالميّة. ومن بين النّجمات الصّاعدات تتألّق عزيزة سبيتي، البالغة من العمر 31 سنة، في سباق المضمار والميدان، وهي اللّبنانيّة الأولى الّتي ربحت الميداليّة الذّهبيّة عن سباق الـ200م، وأضافة الميداليّة الفضّيّة عن سباق الـ100م في بطولة العرب لألعاب القوى عام 2023 إلى سلسلة نجاحاتها.
قالت سبيتي لفناك: “من أحلامي في الوقت الحاضر الوصول إلى الألعاب الأولمبيّة، وأنا أعمل بجهد كبير لتحقيق ذلك”.
العنصريّة والتّمييز
اختبرت سبيتي في نشأتها الحياة في بلدين مختلفين، بحسب ما أخبرت فناك، فقد ولدت من أب لبنانيّ وأمّ ليبيريّة وبالتّالي، قضت معظم طفولتها على السّاحل الغربيّ لإفريقيا، ثمّ عند بلوغها سنّ الحادية عشر انتقلت مع عائلتها إلى لبنان حيث أكملت تعليمها.
تعترف سبيتي بأنّها لطالما كانت من عشّاق الرّياضة الّذين يحبّون الهواء الطّلق، وبسبب أنشطتها البدنيّة غالبًا ما كانت تعاني من الكدمات والجروح، وبأنّها لم تتعرّف على سباق المضمار والميدان إلّا بعد التحاقها بالمدرسة الدّوليّة في الشّويفات. وعندما مُنِحت فرصة المشاركة في السّباقات، تعجّبت لسرعة حركة جسمها.
قالت لفناك: “عانيت من التّنمّر في صغري بسبب اختلاف لون بشرتي. بعض الأولاد كانوا قُساة، وكطفلة غالبًا ما كنت أسمع إهانات عرقيّة مؤذية لم يكن من داعٍ لأن توجَّه إلى أحد.”
إلّا أنّها شدّدت على تمكّنها من تخطّي هذه المرحلة من ماضيها، وعلى أنّ قوّة دفعها نحو تحقيق العظمة هو شغفها بالرّياضة.
مُكمِلة: “كنت محظوظة بعائلة وأصدقاء دعموني، ولم يسمحوا لي بالاستسلام، وساعدوني على إكمال المسار.”
حارب ذوو البشرة الدّاكنة، بخاصّة النّساء، منذ زمن طويل التّمييز في لبنان والعالم العربيّ. فقد حرم نظام الكفالة، الّذي ينظّم عمل اليد العاملة المهاجرة الآتية بغالبيّتها من إفريقيا وجنوب شرق آسيا، هؤلاء العمّال من حقوقهم وتركهم عرضة للاستغلال من دون حماية قانونيّة مناسِبة. ونتيجة لذلك، ما زال يُنظر إلى ذوي البشرة الدّاكنة كـ”خدم” يمكن الإساءة إليهم في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا.
“مرّة، فور وصولي إلى مطار بيروت، سخر منّي أحد رجال الأمن، وطلب منّي الانضمام إلى صفّ العاملات المنزليّات، مدّعيًا أنّني سرقت جواز سفري اللّبنانيّ.”
تخطّي العوائق
تثبت إنجازات سبيتي، مثل نصرها في البطولة العربية لألعاب القوى، ثباتها في وجه هذه النّكسات. غير أنّها لاحظت تراجعًا مقلقًا في نسبة النّساء المشاركات في سباقات المضمار والميدان في لبنان. وعلى الرّغم من عدم معرفة أسباب هذا التّراجع، ترجّح سبيتي أنّ القيود الاجتماعيّة تمنع النّساء والفتيات من تبنّي الرّياضة بالكامل.
عبّرت سبيتي عن رأيها في هذا الصّدد قائلة: “أعتقد أنّ النّساء يصلن إلى مرحلة عمريّة يشعرن خلالها بشيء من مثل “لِمَ أفعل كلّ ذلك؟” فالنّقص في المشاريع الإنمائيّة والاستثمار في مجال الرّياضة في لبنان يجعل من الصّعب على النّساء تخصيص وقتهنّ ومجهودهنّ لشغف لا يعود عليهنّ بالرّبح ولو كان جزءًا بسيطًا ممّا يحتجن إليه.”
وبالتّالي، يشعر الكثير من النّساء بأنّهنّ مجبرات على التّخلّي عن مساراتهنّ الرّياضيّة لمنح الأولويّة للتّعليم الجامعيّ، أو المسار المهنيّ أو الزّواج، متغاضيات عن إمكانيّة موازنة الاثنين أو متجنّبات الحاجة إلى الاختيار.
أشارت الرّياضيّة إلى أنّه “قيل لي إنّ عليّ التّركيز على بناء عائلة وإنجاب الأطفال، لكنّني محظوظة بوجود نظام دعم فخور بما أفعله ولا يفرض عليّ شيئًا. غير أنّ النّساء الأخريات قد لا تكنّ محظوظات بقدري، وقد تواجهن الضّغوطات لاتّباع المسار التّقليديّ.”
أكّدت ريبيكّا عقل، قائدة المنتخب اللّبناني لكرة السّلّة للسّيّدات، على مشاعر سبيتي ساردة التّحدّيات الّتي واجهتها أثناء نشأتها. وصرّحت بأنّه قيل لها إنّ كرة السّلّة للرّجال، والانخراط في هذه الرّياضة سيعيق “أنوثتها”، ولن يؤدّي بها إلى الحصول على مسار مهنيّ طويل الأمد.
قالت عقل لفناك: “لطالما توجّب على فريق السّيّدات اتّخاذ خطوات أكثر بروزًا وأهمّيّة من فريق الرّجال بسبب قلّة الاهتمام والاستثمار اللّذين يمنحنا إيّاهما الاتّحاد اللّبنانيّ لكرة السّلّة. إضافة إلى ذلك، 99 في المئة من لاعبات كرة السّلّة يملكن أعمالًا بدوام كامل، وعلى بعضهنّ حتّى الاهتمام بأطفالهنّ. أيمكنكم تخيّل التّضحيات غير المأخوذة في الاعتبار؟”
إضافة إلى مسارها المهنيّ الكامل الدّوام في مجال كرة السّلّة، الّذي يتطلّب منها التّدرّب لساعات طويلة كلّ يوم تقريبًا، تدير عقل مع إخوتها نادٍ لكرة السّلّة اسمه “Brainers Hawks” حيث تدرّب فتيات صغيرات شغوفات بهذه الرّياضة.
تتوافق سبيتي وعقل على أنّ النّساء تواجهن صعوبات خفيّة ومُستهان بها مثل الدّورة الشّهريّة الّتي قد تعيق تدريباتهنّ. وتتفاقم هذه التّحدّيات بسبب محدوديّة العائدات والدّعم الماليّ في مجالاتهنّ، ما يمنح الرّجال الرّياضيّين فرصة أعلا للبقاء طويلًا في اللّعبة، والحصول على فرص تدريب أفضل.
اهتمام مُستحَقّ
تصدّر منتخب لبنان لكرة السّلّة للرّجال عناوين الأخبار عام 2022 بفوزه ببطولة أمم آسيا لكرة السّلّة، فيما رسّخ منتخب السّيّدات مركزه بين الفرق الأولى في آسيا بفوزه على تايبيه الصّينيّة في كانون الثّاني. كذلك، حلّق المنتخب اللّبنانيّ لكرة القدم للسّيّدات دون الـ16 سنة بلقبه بكأس غرب آسيا بعد فوزه على الأردن (2-0) في كانون الثّاني.
عبّرت عقل عن رأيها بالقول: ” قد يعتبر البعض أنّ مشاهدة الرّجال أكثر ترفيهًا، وتتوافد وسائل الإعلام إلى فعّاليّاتهم محفّزة الرّعاة للاستثمار في فرقهم. غير أنّ ذلك لا ينطبق على النّساء اللّواتي لا يحصلن إلّا على القليل جدًّا من الاهتمام.”
وبحسب عقل التّفاوت في الأجور بين فريق الرّجال وفريق النّساء صارخ، فالأوّل يتلقّى مرّتين قيمة أجر الثّاني.
أظهر انتشار قصّتها عن تجربة فريقها بعد تلقّيه خبر الفوز على الفريق الصّينيّ الأثر التّحويليّ للتّقدير في عالم الرّياضة النّسويّة. فالارتفاع المفاجئ للاهتمام لم يرفع معنويّات الفريق فحسب، بل ألهمه للاستمرار بالعمل سعيًا إلى تحقيق انتصارات مستقبليّة، مثبتًا بذلك أنّ التّقدير والتّشجيع يعملان كمحفّزات للنّجاح في الرّياضة النّسويّة على الرّغم من وجود التّفاوتات.
وتصرّح عقل بأنّك “تدمن هذا الشّعور وترغب في الاستمرار بتحقيق الانتصارات ليستمرّ النّاس بإرسال التّشجيعات.”
في المقابل، تسلّط سبيتي الضّوء على التّحدّيات الّتي تواجهها رياضتها الأقلّ شهرة، والّتي قد تردع الأجيال الصّاعدة من النّساء من الانضمام إلى هذا المجال إلّا إذا نُفّذت مخطّطات إنمائيّة مناسِبة.
وفسّرت “تتطلّب هذه الرّياضة ساعات طويلة من التّدريب والتّضحيات. يخسر الفرد كثيرًا في ما يتعلّق بحياته الاجتماعيّة، وبالتّالي لا بدّ من التّضحية.”
تعترف الرّياضيّتان بشعورهما الدّائم بوجوب بذل جهد أكبر في العمل من زملائهما الرّجال، على الرّغم من ثبات شغفهما وحبّهما لرياضتيهما. لكنّهما تأملان أن تكونا فاتحة عصر جديد من بروز النّساء اللّبنانيّات في ألعاب القوى، باتّخاذ دورهما كقدوة للأجيال الصّاعدة من الفتيات.