دانا حوراني
أعلنت وزارة الصّحة اللّبنانية في 17 يونيو الماضي عن تفاقم حالات الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي (أ) من 174 حالة إلى 590 قبل بضعة أيّام.
وقد رُصدت الحالات الأولى في طرابلس، ثاني أكبر المدن اللّبنانية، بالإضافة إلى حالات أخرى وُثّقت في الشمال وكذلك في محافظة البقاع، شرقي البلاد.
والجدير بالذكر أن وزارة الصّحة تسجّل باستمرارٍ عددًا كبيرًا من حالات التهاب الكبد المتوطن في أرجاء لبنان. وفقًا لصحيفة “لوريان توداي” اللبنانية، أُبلغ على الأقل عن 776 حالة إصابة بالتهاب الكبد الوبائي (أ) عام 2017، بينما أُبلغ عن 899 حالة عام 2018. لكن عدد الحالات قد شهد انخفاضًا حادًا في 2019 حتى وصل إلى 426 حالة فقط. وعام 2020، استحوذت جائحة كورونا على الاهتمام كله، لذلك لا تتوفر بيانات لذلك العام. أما في 2021، فقد أُبلغ عن 429 حالة.
صرّح مسؤولون في وزارة الصّحة أن التفشي الأخير سببه التلوث الناجم عن أعمال الصيانة في شبكة المياه المحلية في أبريل الماضي. كما رجّحت وزارة الصحة أن يكون السبب تهالك البنية التحتية “ما أدّى إلى خلط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي.”
لكن وفقًا لمؤسسة مياه لبنان الشمالي، فمياه طرابلس صالحة للشرب والاستخدام المنزلي، وهذا ما يطرح تساؤلات عدّة حول مصدر التلوث وصحة الادعاءات المعارضة.
وإنّ مرض التهاب الكبد الوبائي (أ) ينتقل عبر الطعام والشراب الملوثين بالفضلات البشرية التي تحمل الفيروس. ورغم أن 90% من الحالات لا تظهر عليها أي أعراض، فإن الأعراض تتراوح ما بين الشعور بالإجهاد فترة طويلة، ومعاناة الصداع والغثيان والقيء وفقدان الشهية وآلام العضلات والمفاصل، بالإضافة إلى اصفرار الجلد، وهو أوضح الأعراض. وعادةً ما تظهر على الأطفال أعراض أخفّ.
ويرى خبراء الصّحة أن لبنان، شأنه شأن دول المنطقة المأزومة، سيكون حتمًا عرضةً لخطر تدهور الصّحة العامة إن لم تُحلّ مشكلات البنية التحتية للوقاية من الأمراض.
جوهرة مدنّسة
وأوضحت دراسة أجرتها الجامعة الأمريكية في بيروت بالتعاون مع جامعة جورجيا على 14 نهرًا دائم الجريان في لبنان أن شبكات الصّرف الصّحي غير المعالجة قد ألحقت أضرارًا بالغة بمياه الريّ من تلك الأنهار.
قال الأستاذ المساعد لسلامة الغذاء في جامعة جورجيا والباحث في الأمراض المعدية، الدكتور عصمت قاسم، لفنك إن تلوث المياه له أهميّة كبيرة لأنه يُستخدم مباشرةً في حقول الفواكه والخضراوات التي عادةً ما تُؤكل نيئةً في لبنان.
وأضاف قاسم: “بأنّه نحو 92% إلى 95% من مياه الصّرف الصّحي في لبنان تُصرف في الأنهار أو في البحر من دون معالجة. أمّا بقية مياه الصّرف الصّحي، فتجري معالجتها أوليًا فقط. والمشكلة تكمن في أننا نفتقر إلى الموارد والاهتمام الحكومي بالمشكلات البيئية.”
يعاني لبنان من أزمات متفاقمة ومن أبرزها الانهيار المالي في 2019 والذي تسبب في تدهور قيمة اللّيرة بأكثر من 90%، نادرًا ما تتوفر خدمات أساسية كالكهرباء وجمع القمامة، وانعدام الكهرباء يعني أن البلاد واحدة من أكثر الدول تلوثًا في المنطقة بسبب المولدات الخاصة اللازمة لإنتاج الكهرباء.
علاوة على ذلك، أشار قاسم إلى أن سوء إدارة البلاد للنفايات الصّلبة، بالإضافة إلى تلوث الهواء والماء، قد يؤدي إلى تفاقم الأمراض التي قد تقصم ظهر قطاع الصّحة الهش في لبنان.
ويأتي هذا كلّه بينما يواجه العالم الأوبئة المتجددة.
أزمة صحية جديدة؟
آخر المخاوف الصّحية التي عاودت الظهور هو فيروس جدري القردة الذي انتشر خارج بلدان وسط وغرب إفريقيا حيث تمَّ احتواؤه. وفقًا لمركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، اكُتشف المرض الفيروسي لأول مرة عام 1958 بعد تفشّيه مرتين بين مجموعتين من القرود المحفوظة للبحث. وسُجّلت أول إصابة بشرية عام 1970. ولكن اكتُشفت في الآونة الأخيرة حالات عديدة في أكثر من 40 دولة معظمها في أوروبا.
ويجدر بالذكر أن منظمة الصّحة العالمية تجري حاليًا محادثات لتقرر ما إذا كان التفشي المتفاقم يستدعي إعلان حالة طوارئ عالمية على غرار جائحة كورونا.
وبالرغم من أن ذلك الفيروس، ينتقل أساسًا بالاتصال المباشر بين البشر أو الحيوانات، يُقال إن ظهوره نادر في الشرق الأوسط، فقد أبلغت الإمارات عن أربع حالات مؤكدة، كما أعلنت إيران عن ثلاث حالات مشتبه بها، ولبنان عن حالة واحدة.
أكّد قاسم أن الناس في المنطقة لن يتأثروا بالقدر نفسه إذا تفشت أوبئة جديدة. وقال: “دول الخليج النفطية تملك الأموال اللازمة للاستثمار في دعم قطاع صحي فعال، لكن البلدان الفقيرة والشعوب المنكوبة بسنوات من الاضطراب السياسي والحرب سوف تعاني حتمًا”.
بلاد مأزومة موبوءة
وفي دراسة حديثة عن الأمراض المعدية الناشئة والمتجددة في منطقة شرق المتوسط، اعتُبرت النزاعات السياسية أرضًا خصبة للأمراض المعدية. وذكرت الدراسة أن الأسباب الرئيسة تكمن في النزوح الداخلي للمواطنين، والمخيمات المزدحمة التي لا تصلها إلا القليل من الخدمات الاجتماعية الأساسية، وتدهور الظروف المعيشية، علاوة على الفقر وغياب النظافة العامة.
فالصراعات المتتالية تهدم مجال الرعاية الصّحية في البلدان وتحول دون وصول الأدوية والمعدات المطلوبة إلى الناس والموظفين. كما أن قلة وسائل النقل بالإضافة إلى المخاوف الأمنية يجعل الوصول إلى المرافق المتاحة أصعب.
الصومال وأفغانستان واليمن وسوريا والسودان هي الأكثر عرضة في المنطقة للأمراض المعدية الناشئة (EIDs) والأمراض المعدية المتجددة (RIDs).
وقد وجدت دراسة أن اللاجئين السوريين الفارّين من الأزمة التي اندلعت عام 2011 واجهوا انقطاعًا في الوصول إلى خدمات الرعاية الصّحية، وأدت الأمراض الجراحية الناجمة عن الحرب إلى تطوير المقاومة المتعددة للأدوية ومضادات الميكروبات. ويُذكر أن شلل الأطفال والسل والحصبة كانت أكثر الأمراض تفشيًا في أثناء الحرب.
أما اليمن فقد شهدت أسوأ تفشٍ للكوليرا في التاريخ الحديث، إذ أفادت اليونيسف أن 96% من محافظات اليمن قد تأثرت. وقد ألحقت الحرب الطويلة أضرارًا بالغة بمواقع البنية التحتية للمياه وأدت إلى تدهور شبكات الصّرف الصّحي والنظافة العامة.
وقد ساهمت التغيرات البيئية، مثل زيادة هطول الأمطار والفيضانات والرياح الشديدة، في انتشار المياه الملوثة بالكوليرا والحشرات الطائرة.
أمراض بلا حدود
تشمل حالات التفشي الأخيرة للأمراض المعدية الناشئة والمتجددة في المنطقة فيروس الشيكونغونيا، الذي ينتقل عن طريق البعوض في السودان، والكوليرا في الصومال، والدفتيريا في اليمن، وإنفلونزا الطيور في مصر، وداء اللّيشمانيات في سوريا، وحمّى كيو في العراق ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) في شبه الجزيرة العربية.
تتوفر بيانات محدودة عن انتشار فيروس التهاب الكبد (أ) وفيروس التهاب الكبد (ي) في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومع ذلك، وُجد أكبر عدد من الحالات في مصر وليبيا والعراق، تليها إيران واليمن وتونس والمغرب، وغالبية الحالات تتركز في المناطق الريفية.
ويرى الخبراء أن هناك حاجة ماسة إلى تعاون إقليمي من أجل تأمين وقاية أفضل. فاكتشاف التهديدات البيولوجية عند ظهورها وبشكل مبكر والتعاون للحدّ منها أمران ضروريان لابتكار حلول وخطط طوارئ محلية فورية.
ولأن الفيروسات تتطور بسرعة يصعب التنبؤ بها، اكتشفت منظمة الصّحة العالمية أكثر من 30 كائنًا دقيقًا جديدًا ينشر الأمراض المعدية في أنحاء العالم على مدار 30 عامًا. وتستمر هذه العوامل الممرضة في التسبب في ارتفاع معدلات الوفيات وتنتقل بسهولة عبر الحدود.
وقد سلّط قاسم الضوء على أهميّة نهج “الصّحة الواحدة” الذي تتواصل فيه عدة قطاعات وتعمل معًا لتنفيذ البرامج والتشريعات والأبحاث التي تساهم في تحسين نتائج الصّحة العامة.
وقال: “من السطحية أن ترغب الحكومات في معالجة الأمراض بغض النظر عن التلوث والصّحة الحيوانية. وإذا لم تُحلّ هذه المشكلات، فسوف نشهد تغيرات جينية في الأجيال التالية، ونكتشف المزيد من الأمراض لدى الأطفال.”