وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الديانة الإبراهيمية الجديدة: الدين في خدمة السياسة

الديانة الإبراهيمية الجديدة
صورة تم التقاطها يوم ١٦ فبراير ٢٠١٥ لشيخ الأزهر أحمد الطيب (يمين) وهو يقدم التعازي بابا الأقباط المصري تواضروس الثاني في كاتدرائية مرقص القبطية بمنطقة العباسية في القاهرة، وذلك بعد يوم من نشر تنظيم “الدولة الإسلامية” لفيديو يظهر قطع رؤوس ٢١ قبطي مصري. ورداً على اللقطات المروعة التي ظهرت في الفيديو وأثارت الغضب في مصر. المصدر: AFP PHOTO/ KHALED DESOUKI.

يوسف شرقاوي

ضجّت خلال الأيام الماضية قضية “الديانة الإبراهيمية الجديدة” دون وجود إعلان رسمي حتى الآن لقيامها، وهي مشروع بدأ الحديث عنه منذ فترة، أساسه العامل المشترك بين الديانات الثلاث، الإسلام والمسيحية واليهودية، باعتبارها أديان إبراهيمية، نسبة إلى النبي إبراهيم.

الهدف المعلن للمشروع هو “التركيز على المشترك بين الديانات والتغاضي عما يمكن أن يسبب نزاعات وقتالاً بين الشعوب”. بدأ الترويج للفكرة فعلاً في إطار “إقامة السلام بين الشعوب والدول بغض النظر عن الفروقات”.

عادت القضية إلى السطح بعد كلام شيخ الأزهر أحمد الطيب عنها، أثناء كلمته في إطار الاحتفال بالذكرى العاشرة لتأسيس “بيت العائلة المصرية“، وهاجمها ووصفها على أنها “أضغاث أحلام”، معلناً رفضه لها. وتساءل شيخ الأزهر عما إذا كان المقصود من الدعوة “تعاون المؤمنين بالأديان على ما بينها من مشتركات وقيم إنسانية نبيلة أو المقصود صناعة دين جديد لا لون له ولا طعم ولا رائحة” حسب تعبيره. كما قال إنها “تبدو في ظاهر أمرها دعوة للاجتماع الإنساني والقضاء على أسباب النزاعات والصراعات، وهي في الحقيقة دعوة إلى مصادرة حرية الاعتقاد وحرية الإيمان والاختيار”. لكنه لم يذكر أيَّ بعدٍ سياسي لها، بل غيره ذكر ذلك. منهم رجل الدين القبطي المصري، الراهب القمص بنيامين محرقي، الذي قال إن “الديانة الإبراهيمية دعوة مسيسة تحت مظهر مخادع واستغلال للدين”.

انطلق الجدل حول “الإبراهيمية” بعد تطبيع العلاقات بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، في سبتمبر ٢٠١١، وقد رعاه الرئيس السابق دونالد ترامب، وسُمّي الاتفاق بـ “الاتفاق الإبراهيمي” أو “إبراهام”.

استثمار قديم

بدأ استثمار رمزيّة النبي إبراهيم لدى المعاصرين في القرن التاسع عشر، حيث نقرأ منذ ١٨١١ عن الميثاق الإبراهيمي الذي يجمع بين المؤمنين في الغرب. ذلك قبل أن يتحول اسم إبراهيم إلى اصطلاح بحثي لدى المؤرخين، في الخمسينيات من القرن العشرين، وأول من رسخه هو المستشرق الفرنسي “لويس ماسينيون” في مقالة عام ١٩٤٩ تحت عنوان “الصلوات الثلاث لإبراهيم، أب كل المؤمنين”. بعدها تحوّلت الديانات الإبراهيمية إلى حقل دراسات مستقلة بنفسه.

تشير هبة جمال الدين مدرّسة العلوم السياسية بمعهد التخطيط القومي المصري، أيضاً، بأنّ الديانات الإبراهيمية مصطلح تم إطلاقه مطلع الألفية الثالثة ليشير إلى الأديان السماوية الثلاثة، وطرحه جاء ضمن مفهوم جديد لحل النزاعات والصراعات الممتدة والقائمة على أبعاد دينية متشابكة، وهو مفهوم “الدبلوماسية الروحية”. وتساءلت جمال الدين إذا ما كان هذا المشروع يهدف للوصول للسلام العالمي، أم مجرد طرح بديل لفوكوياما وهنتنغتون يحمل نفس الغاية الصدامية التي تُعلي من هيمنة الغرب وتحقيق مصالحه بالأساس.

الإبراهيمية إذن بوتقة لصهر الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، لينتج منها ديانة جديدة. يزعم دعاتها أنّ من خلالها سيعم السلام والأخوة الإنسانية والمشترك الديني، وذلك من خلال جمع نقاط الاشتراك بين الديانات الثلاث وتنحية النقاط المختلف فيها جانباً. ستكون نقاط الالتقاء على الديانة اليهودية فقط، “حيث أنّ المسلمين يعترفون بالديانات الثلاث، بينما في الديانة المسيحية يعترفون باليهودية والمسيحية فقط، أما اليهود فلا يعترفون إلا باليهودية”، بحسب الكاتب مصطفى علي محمد.

يقول هاني طالب في دراسته المنشورة في مركز دراسات الوحدة العربية “الإبراهيمية، بين التعايش والسيطرة”، إنّ من أخطر التحديات الفكرية التي يواجهها المفكرون والمثقفون والعامة هي المصطلحات التي تحمل أكثر من وجه. ذلك أنّ بريق المصطلح واعتياده يخفي وراءه الوجه القبيح الذي يحمله. ومع كثرة استخدامه تختلط الأوراق، وتمرر المشاريع الهدّامة، ويغدو المعارض للوجه القبيح غريباً بين الناس. هذا هو حال مصطلح “الديانة الإبراهيمية” أو وحدة الأديان أو الديانة العالمية، ففي طياتها معانٍ مقبولة، مثل التعايش والسلام، ولكن استعمال تلك المعاني إنما هو تمرير للمعاني الباطلة، التي تتمثل بأهداف مروّجيها بتمزيق مكونات وروابط الهوية الإسلامية والعربية لدول المنطقة، وبالتالي تيسير السيطرة والتحكم بها وبشعوبها لصالح إسرائيل.

المشترك الإبراهيمي في خدمة المشاريع السياسية

الديانة الإبراهيمية الجديدة
صورة تم التقاطها يوم ١٤ سبتمبر ٢٠٢١ ليافطة تم تعليقها عند السفارة الإماراتية في تل أبيب بمناسبة توقيع الاتفاقات الإبراهيمية التي رعتها الولايات المتحدة. المصدر: JACK GUEZ / AFP.

كان الدين مصدر صدام، لكنه تغير وتطور ليكون مدخلاً للحل والتسوية. رفضت مدرسة السياسة الواقعية أي وجود للدين في العملية السياسية، لكنها جاءت بمفهوم “الدبلوماسية الروحية” وبدأ الحديث عن “السلام الديني العالمي” المقرّر الوصول إليه عبر هذا المفهوم.

تقول هبة جمال الدين العزب في كتابها “الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي، المخطط الاستعماري للقرن الجديد”: “في عصر طفرة التسميات والمصطلحات، التي تُعدّ إحدى أخطر التحدّيات الفكرية والثقافية، كثُر استخدام مصطلحات مثل “المشترك الإبراهيمي”، و”الدبلوماسية الروحية”، و”السلام الديني العالمي”، خلال السنوات الأخيرة في خطاب الدبلوماسية العالمية وفي أدبيات بعض مراكز الدراسات والجامعات في الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل”. قد تكون المصطلحات “برّاقة”، ظاهرها رحمة لكن مضمونها ظُلمة وتضليل، فهي تُستخدم لتوظّف الدين في خدمة السياسة الخارجية الأمير­كية والمشروع الصهيوني في المنطقة”.

وتخلص العزب في كتابها إلى أنّ “الإبراهيمية” المزعومة المُنادية بـ “التسامح” تُمهّد “لتغييب التناقض الوجودي بين المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني العنصري وبين الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني والعربي عموماً في المنطقة”؛ ومصطلح “الدبلوماسية الروحية” إنّما يروّج لحقوق الإنسان و”السلام” ولمواجهة العنف والإرهاب ليسامح إسرائيل عن كل ما مارسته ولا تزال تمارسه من أحقاد ومجازر وانتهاكات لحقوق الإنسان.

يأتي الحديث عن “المشترك الإبراهيمي”، وفقاً للعزب، كأهم مرتكزات وركائز تعريف كمدخل فكري مهم، تدعمه الحكومات الأمريكية المتعاقبة بحثياً منذ عام 1990 مع خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب عن “النظام العالمي الجديد” عقب انهيار الاتحاد السوفياتي والحرب الأمريكية ضدّ العراق خلال حرب الخليج الثانية. ولكن على المستوى البحثي، أخذ الأمر منحى جديداً مع الألفية الجديدة كبداية للتنفيذ والدعم توّجت بمأسسة داخل وزارة الخارجية الأميركية عام 2013.

هنا، لا بُدّ لنا من الإشارة إلى أنّ مصطلح “المشترك الإبراهيمي” و”السلام الإبراهيمي” يعود استخدامه، لأول مرة، إلى دراسة نشرها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في عام 1985 في كتاب حمل عنوان “دم أبراهام”، بتأثير واضح للصهيونية المسيحية التي تُقارب التاريخ من زاوية الروايات اليهودية التلمودية. وبحسب الكاتبة ياسمين قعيق، فإن أسهب كارتر في كتابه في مناقشة المشترك الإبراهيمي بين أبناء المنطقة كحلّ للوصول الى “السلام.

هدف “المشترك الإبراهيمي”، حسب العزب، يتمثّل في خلق ولاءات جديدة رفعت شعارات إزالة الحدود والولاءات، وترسيخ مفهوم المواطن العالمي على الأرض ليكون ولاؤه غير مرتبط بالأرض وإنمّا تحت مدخل محبّب ومقبول للنفس، ألا وهو المشترك الروحي أي الإبراهيمي. أمّا قبول التشارك في الموارد (العرب والمسلمون) والتكنولوجيا (إسرائيل وتركيا) فسيؤدّي إلى إقامة “اتحاد فدرالي إبراهيمي “يتحكّم في الموارد بصورة مركزية للسلطة الفدرالية، التي تديرها “إسرائيل” أولاً ثم تركيا ثانياً.

المشاريع والمبادرات

الديانة الإبراهيمية الجديدة
صورة تم التقاطها يوم ١٥ سبتمبر ٢٠٢٠ في العاصمة الأمريكية واشنطن لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، ووزير الخارجية البحريني عبد اللطيف الزياني، ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان من شرفة ترومان بالبيت الأبيض بعد مشاركتهم في توقيع الاتفاقات الإبراهيمية التي اعترفت دولتي البحرين والإمارات بموجبها بإسرائيل. المصدر: SAUL LOEB / AFP.

طرحت جامعة هارفرد عام ٢٠٠٤ مشروعاً اسمه “مسار الحج الإبراهيمي”، تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية وتتشارك في طروحاتها مع مسار “فرسان المعبد”.

وقع اختيار المسارين على الأراضي العربية ومنطقة الشرق الأوسط، حيث يلتقي المساران في الهدف لتحقيق “السلام الديني العالمي” عبر بوتقة صهر تتواءم مع أنصار الأديان المختلفة. والمُلفت، كما تقول هبة العزب، أنّ المسار الأكبر،  “ مسار إبراهيم “ ، حدوده الجغرافية تتشابه مع الحدود الجغرافية لخريطة أرض “إسرائيل الكبرى ”.

تطرح جامعة فلوريدا الأمريكية، أيضاً، مشروع “الولايات المتحدة الإبراهيمية” عبر مركزها البحثي (EMERGY) المعني بدراسة القضايا البيئية والمستقبلية ومستقبل الطاقة واستدامة الموارد الطبيعية المتاحة، حيث نوقش المقترح في المؤتمر السنوي للمركز عام 2015.

لم يُقدّم المشروع بوصفه مبادرة سياسية، بل كرؤية استشرافية من أجل بقاء المنطقة المهدّدة بالجفاف وندرة الموارد خلال المستقبل القريب، مع الإشارة الى أنّ منطقة الشرق الأوسط هي منطقة شديدة الجفاف في العالم. وتُقدّم الرؤية نموذجاً لهيكل سياسي عملي، ورمزاً موحّداً يجمع كل الأطراف في الأرض بين نهري دجلة والفرات ونهر النيل، عبر إقامة اتحاد فدرالي يجمع 18 دولة عربية وإسرائيل وتركيا وإيران معاً. أي ما سيُعرف باسم الولايات المتحدة الإبراهيمية، أو ببساطة “الأرض المقدسة”.

تقود عملية التكامل الفدرالي، “إسرائيل” ثم تركيا بحكم امتلاكهما للموارد والتكنولوجيا في ظل “جهل” عربي. أمّا التمويل لإقامة الدولة والربط الإقليمي سيكون من جانب دول الخليج بسبب “التهديد الايراني”.

تعرض الباحثة هبة العزب في كتابها بشكل مفصّل لمشروعات الربط الجغرافي القائمة الآن مع إسرائيل. ويُلاحظ في المقترح غياب القضية الفلسطينية، وإدراجها ضمن الطرح الإقليمي الذي سيتمّ في إطار إزالة الحواجز وإعادة تقسيم الولايات والمحافظات والوحدات التابعة.

الأهداف

يذكر هاني طالب في دراسته “الإبراهيمية، بين التعايش والسيطرة“، أنّ أهم أهداف الدعوة إلى الإبراهيمية هو تفتيت ما تبقى من هوية عربية ودمج إسرائيل عضوياً في المنطقة العربية، وفتح المجال أمامها للتحكم بدول وشعوب ومقدرات هذه المنطقة.

من الأهداف أيضاً وفقاً لطالب تجريم مقاومة الاحتلال الإسرائيلي واعتباره نوعاً من الإرهاب، وتقبّل واقع الاحتلال، والتهيئة للتنازل المستقبلي عن مناطق أوسع من الشرق الأوسط وتدويلها بحجة أنها مناطق إبراهيمية، وتزكية الصراعات الدينية القائمة بين أنصار الدين الواحد كالصراع السني – الشيعي، لقبول الديانة الجديدة والمشترك الإبراهيمي، وتزييف التاريخ وتشويه وعي الأجيال الجديدة وتصفية القضية الفلسطينية.

ويرى طالب أنّ ما يجري في المنطقة، من إعلان لصفقة القرن وتطبيع عربي وأزمات سياسية وصراعات داخلية وإقليمية، إنما يأتي في سياق تنفيذ المخطط الإبراهيمي، الذي يمثل مشروعاً لاستكمال فرض هيمنة وسيطرة الولايات المتحدة وإسرائيل.

فيما تحذّر الباحثة هبة العزب من أنّ ما يُروّج له “هدفه ليس السلام العالمي، وإنما ضياع المنطقة والحق العربي للمسلمين والمسيحيين معاً، وأنه ينبغي ألاّ ننخدع خلف الشعارات الدينية الجذّابة والأخوة الإنسانية والتسامح المزيّف، مشدّدة على أنّ الوعي والمقاومة المجتمعية هو الأساس والتماسك واللحمة هي المدخل الرئيسي للتصدّي للأفكار الهدّامة”.