تُدمج ناطحات السحاب في القاهرة بانتظام في خطط العمران من قِبَل الدولة على الرغم من سلبياتها الاقتصادية والبيئية.
ملخص
مع تطور المدن عبر التاريخ، أصبحت ناطحات السحاب عنصرًا معماريًا أساسيًا في المناطق الحضرية. ونتيجةً لذلك، أثبتت ناطحات السحاب تأثيرها على عالمنا المعاصر بحسب ما أكّدته الدراسات والأبحاث. فقد ترك طولها الهائل ومنظرها المهيب أثرًا كبيرًا على التغير المناخي واستهلاك الطاقة، فضلَا عن القضايا البيئية والاجتماعية التي أثارتها.
وقد أدت المعركة بين الحضارة والتنمية من ناحية والحياة الطبيعية البسيطة من ناحية أخرى إلى انتصار التنمية الحضرية وانتشار المباني العملاقة. وانتهى بنا ذلك إلى النتائج السلبية التي نعيشها اليوم. إذ صرنا نسعى إلى إمداد تلك الوحوش الخرسانية الفولاذية ذات الواجهات الزجاجية بالطاقة، وفي الوقت عينه نحاول إنقاذ أولئك المتضررين من آثارها.
لذلك يكمن أمل المستقبل في موازنة المباني وطرح أفق مختلف للسياق الحضري وتصور جديد عن المجتمع المتحضر. فمن المفاهيم الخاطئة في تطوير مدن نامية مثل القاهرة أن تسعى إلى محاكاة دبي أو نيويورك في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون مراعاة إمكانية تطبيق هذا التصور وبغض النظر عن واقعية هذا التوجه التنموي.
مقدمة
لطالما كانت العمارة والهندسة منصتين مفتوحتين للابتكار والإبداع. ومع متطلبات التدفق الاقتصادي الحضاري واحتياجاته المتغيرة، ظهرت تصاميم جديدة للبناء لتلبية تلك الاحتياجات في ظل التطور الصناعي المتواصل.
وفي القرن التاسع عشر، برزت ناطحات السحاب حلًا إبداعيًا لتلبية متطلبات ذلك العصر وفرض المساواة على مزيد من الناس حتى يسكنوا في مراكز المدن التي أصبحت بحاجة إلى استيعاب عدد السكان الكبير الذين ينتقلون إليها.
وعلاوة على ذلك، أتاحت ناطحات السحاب مساحات كبيرة للمكاتب والمتاجر. وقد انتقلت تلك الحركة في أوائل الثمانينيات إلى الشرق الأوسط ومؤخّرًا إلى القاهرة. وكانت الحاجة المستمرة إلى تصميم مثل هذه المباني ذات أغراض مختلفة.
فعلى سبيل المثال، تميل المدن الكبرى ذات الكثافة السكانية العالية مثل شنغهاي إلى التوسع عموديًا من خلال بناء مزيد من ناطحات السحاب بدلاً من التوسع أفقيًا، نظرًا إلى كثافة السكان ومساحة الأرض المحدودة. كما امتدّ مفهوم الإنتاج الضخم (Mass production) إلى عملية التصميم والبناء عمومًا. فأدّى ذلك إلى بناء ناطحات سحاب ذات تصميم موحّد لتستوعب كميات كبيرة من الوحدات التجارية والإدارية والسكنية وغيرها من الوحدات لتناسب رغبات المشترين جميعًا.
غير أنّه كان لهذه الحركة اتجاهات مختلفة في المدن الجديدة مثل العاصمة الإدارية الجديدة في مصر. فرغم قدرة التخطيط العمراني لتوسيع هذه العاصمة الجديدة أفقيًا عبر بنيتها التحتية، ما تزال الأولوية متركزة على تشييد الأبراج الشاهقة من أجل إنشاء مراكز مدن جديدة على مساحات متقاربة بغرض الترويج لهذه المناطق التجارية المركزية وجذب الاستثمارات على مناظر الأبراج الفاخرة.
وقد أدّت مفاهيم التخطيط تلك “غير المخطط لها” إلى مشكلات خطيرة وبعيدة الأمد سيتعين على مدن الغد أن تعمل على الحد من تأثيرها. وقد أثارت هذه القضية بعض الأسئلة المهمة: ما الفارق الجوهري بين ناطحات السحاب وأشكال التنمية الحضرية الأخرى؟ وما سبب خطورة ناطحات السحاب؟ وهل تُوجد بدائل لها؟ وإن وُجدت، فكيف نتبناها؟
هذه الأسئلة ضرورية لتحديد الأهداف الرئيسة اللازمة لحل المشكلة الملحّة التي تكمن في إيجاد بيئة صحية للنسيج الحضري الكثيف في القاهرة دون إيقاف العمارة الحديثة المتمثلة في ناطحات السحاب، وهي مطلوبة دون شك.
الموضوع
“القليل يضيف كثيرًا عندما لا يضيف الكثير شيئًا ” – فرانك لويد رايت.
يكشف هذا الاقتباس أن تطلعات البشر قد تصل إلى حد المبالغة وأنها قد تأتي بنتائج عكسية. وعلى مرّ السنين، ثبت أن ناطحات السحاب تستهلك كمية هائلة من الطاقة، فضلًا عن أثرها السلبي على المناخ الأصغري وتسببها في تكوين الجزر الحرارية، ما يعني أنها تفاقم أزمة تغير المناخ وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. كما أن الافتقار إلى الوعي الاجتماعي هو نتيجة لسوء استخدام الطاقة وتوزيعها غير العادل .
كي نفهم هذه القضية جيدًا، من الضروري أن نسأل أنفسنا: ما أضرار ناطحات السحاب بالضبط؟ أولًا، الزجاج أحد أكثر المواد المستخدمة في بناء ناطحات السحاب، وإنتاجه يخرج كمية كبيرة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. كما أنه يصعب إعادة تدويره بسبب نوع التثبيتات المستخدمة في البناء.
ووفقًا للأبحاث، يبلغ عمر الزجاج الافتراضي نحو 30 إلى 40 عامًا ، وهو عمر قصير جدًا نسبة إلى ناطحات السحاب التي يُتوقع أن تستمر طويلًا. وتتعلق المشكلة أيضًا باستخدام الزجاج في مناخ القاهرة الذي يتلفه ويقصر عمره الافتراضي نتيجة لسرعة الرياح العالية المحمّلة بحبيبات الرمل. كما أن درجات الحرارة المرتفعة تتطلب استخدام وحدات زجاجية معالجة خصيصًا. وهذا لا يُعد استثمارًا قيّمًا وفقًا لتقديرات العمر الافتراضي.
مثّلت الواجهة الزجاجية الضخمة، بتصميمها العصري اللامع، الحداثة والفخامة في سباق العواصم الرائدة حول العالم. وانضمت مصر إلى هذا السباق لتعزيز قدرتها على المنافسة بين عواصم التجارة في العالم وإنشاء أساس قيّم لنفسها عبر تقليد نماذج أخرى ناجحة للمدن الحديثة. لكن الثمن الذي ستدفعه من أجل ذلك يتمثّل في أحمال الطاقة المعقدة والمكلفة التي تُستهلك في التدفئة والتبريد.
وذلك بسبب الواجهات الزجاجية التي لا تعزل البرودة جيدًا في الشتاء، وتحبس الحرارة داخل المبنى في الصيف. وتزداد هذه الأحمال في الصيف بسبب تأثير البيت الزجاجي، إذ تخترق المبنى أشعة الشمس المنعكسة من الزجاج. وتلبية احتياجات الطاقة لهذه الأبراج الشاهقة تتطلب استهلاك الكهرباء بشكل متواصل على مدار العام، إذ تعمل الإضاءة والآلات والأجهزة والأنظمة على مدار الساعة دون توقف.
وقد ارتفعت أسعار الكهرباء والوقود في مصر خلال العقد الماضي مع انتشار أزمة الطاقة العالمية. وهذا يكشف الضرورة القصوى لإعداد خطة مخصصة لتبنّي تكنولوجيا البناء التي توفّرها.
ومع ذلك، ما تزال الطاقة في مصر تفتقر إلى خطة مستقبلية واضحة لدمج مصادرها المتجددة في تصاميم المباني مثلًا، ما يجعل التحدي أكبر في حالة المباني المرتفعة وناطحات السحاب التي تستهلك كمية كبيرة منها . ورغم أن هذا أمر بسيط في مدن مثل دبي لانخفاض تكلفة الطاقة، فإنه أمر بالغ الأهمية للقاهرة بالنظر إلى الناتج المحلي الإجمالي والكثافة السكانية.
وقد كشفت الأبحاث أن احتياجات ناطحة السحاب من الطاقة تزيد مرتين ونصف عن احتياجات مبنى عادي مؤلّف من ستة طوابق، وذلك بسبب احتياجات الطاقة غير الضرورية والتوزيع غير العادل خلال النهار والليل. علاوة على ذلك، تتسبب ناطحات السحاب في مشكلة أخرى تُعرف باسم تأثير جزيرة الحرارة، إذ تعكس المباني المرتفعة كمية كبيرة من الإشعاع الشمسي، ما يساهم في رفع درجة حرارة المنطقة الحضرية المحيطة.
فعلى سبيل المثال، واجهت شيكاغو واحدة من أعنف موجات الحر في صيف عام 1995، إذ ارتفعت درجات الحرارة إلى 100 درجة فهرنهايت (نحو 38 مئوية) لعدة أيام، ما أدى إلى وفاة مئات المواطنين. ولذلك شرعت الحكومة في هدم مشروع سكني يضم مباني مرتفعة.
قد يبدو أن لا علاقة لهذا الأمر بموجات الحر، إلا أن الأمم المتحدة كشفت في تقرير لها عن العلاقة بين تغير المناخ و”الجيومترية الحضرية”. فقد استكشف التقرير تأثير ارتفاع درجات الحرارة في المدن وظاهرة الأخاديد الحضرية. وهي ظاهرة تحدث عندما تحجز المباني المرتفعة الهواء عن الشوارع والمباني المجاورة وتعوقه عن تبريدها.
وقد سُجّلت هذه المشكلة في مدن كبيرة عدة مثل طهران وكلكتا، حيث تتجاوز درجات الحرارة فيهما تلك الموجودة في مدن لها الظروف المناخية عينها. وينتج عن هذه الاختلالات البيئية كلها حلقة مفرغة من التفاعل بين متطلبات الطاقة، والانبعاثات، ودرجات الحرارة المتصاعدة، ما يؤدي إلى زيادة الاحتياجات من الطاقة.
ومع هذه التأثيرات الخطرة، أصبح من الضروري سنّ قوانين وتشريعات تعترف بعدم كفاءة أساليب التصميم القديمة التي كانت تناسب الظروف المناخية السابقة.
ويستكشف علماء الاجتماع الذين يدرسون المجتمع الحضري والعلاقة بين الأفراد والمباني كيف يمكن لناطحات السحاب أن تعزز شعور الناس بالانفصال عن بيئتهم بسبب الاختلاف الكبير في ارتفاعات المباني. فالمباني الشاهقة تطغى على المدينة وتحلّ محل التفاعل البشري على مستوى الأرض الذي يساهم في تطور المدن.
وقد ثبت أثر هذه المباني السّلبيّ على القاهرة، وهي مدينة مزدحمة تتميز بنسيج عمراني معقد يشمل التخطيط الرسمي وغير الرسمي. أوجدت ناطحات السحاب تلك حاجزًا واضحًا بين الناس واستخدامهم المباني، ما نتج عنه بناء تجمعات سكنية غير رسمية تراعي استخدامات الأفراد اليومية وتناسب قدراتهم المادية.
ثبت أن ناطحات السحاب الجديدة في وسط مدينة القاهرة مثلًا، والتي تشمل عددًا كبيرًا من الوحدات السكنية والمباني التجارية والإدارية، تعزز الفصل وتفكك المجتمعات التي كانت موحدة في السابق. إذ بدد هذا “التطوير” التناغم الحضري بين المباني السكنية والتجارية والمساحات العامة التي كانت تخدم احتياجات المجتمع.
واستُبدل ذلك التناغم بمبانٍ شاهقة لا مساحة فيها للتفاعل وتتسم بالتوزيع غير العادل للأعمال التجارية التي كانت في السابق متاحة للأفراد على مستوى الأرض. ولذلك، من الضروري تحقيق التكامل بين المباني المرتفعة والأقل ارتفاعًا لضمان استدامة مثل هذه المشاريع دون الحاجة إلى تدخل المجتمعات عن طريق تقديم حلول ارتجالية لطغيان الأبراج الشاهقة.
في مسابقة أقامتها الحكومة المصرية عام 2015، طوّر نورمان فوستر وشركاؤه رؤية تصميمية لدمج ناطحات السحاب والعمارة الحديثة بالمباني السكنية التقليدية البسيطة. وكان ذلك مثالًا إيجابيًا يوضح كيف يمكن للمجتمع أن يستفيد من التقدم التكنولوجي دون المساس بالحياة العملية في المدينة.
لكن المستثمرين كان لهم رؤية مختلفة تتمحور حول المال، ما أدى في النهاية إلى اختيار تصميم يقتصر على العمارة الحديثة والمباني الشاهقة إلى جانب تكديس المباني السكنية كلها في مساحة ضيقة تصعّب عليهم الوصول إلى الخدمات والتفاعل في ما بينهم.
وقد ظهرت حلول عديدة تسعى إلى القضاء على هذا الخطر أو التخفيف من حدته، وبعضها طُبّق بالفعل أو قيد التطوير. وتشمل الحلول المعمارية على المستوى الجزئي التي تتضمن غلاف المبنى وأنواع الزجاج وغيره من المواد، فضلًا عن الحلول على المستوى الكليّ التي تسعى إلى دمج بعض العناصر في السياق الحضري، مثل توسيع المساحات الخضراء وتنفيذ الأسطح الذكية.
تطورت حلول أغلفة المباني بفضل التقدّم الذي شهدته تكنولوجيا العمارة والبناء، إذ أتاحت أساليب عديدة لا تعتمد على استهلاك الطاقة للتحكم في البيئة الداخلية، ومن ثمّ تقلل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وتشمل تلك الأساليب الزجاج المظلل، والزجاج المزدوج والثلاثي، والواجهات الزجاجية المزدوجة، وحتى الزجاج المعالج حراريًا.
ورغم أن هذه التدابير قد لا تكون كافية لتقليل الاحتياج إلى الطاقة، لكنها تساهم في التقليل من استهلاكها. ويتمثل نهج آخر في التحكم في التهوية الطبيعية، رغم أنه قد يؤثر على جودة الهواء داخل المباني، بخاصة في المدن الكبيرة التي تعاني من التلوث والضوضاء.
وعلى نطاق أوسع، تشمل الجهود المبذولة لمواجهة آثار ناطحات السحاب زيادة المساحات الخضراء على الأسطح وفي الشوارع للحد من ثاني أكسيد الكربون وخفض درجات الحرارة. كما تساعد الأسطح الذكية، مثل الأسطح العاكسة، على تخفيف تأثير الإشعاع الشمسي على درجة حرارة الهواء.
تتمتع تقنيات التصميم هذه بالقدرة على التخفيف من الآثار السلبية إذا نُفّذت بفعالية وعلى نطاق واسع. أما الجوانب الاجتماعية لناطحات السحاب، فمن المتوقع أن تكون أكثر ترحيبًا للتفاعل الإنساني وأقل تأثيرًا على البيئة إذ تم دمج مزيد من العناصر الخضراء والصديقة للإنسان، فضلًا عن الجمع بين أنواع المباني المختلفة في محيط ناطحات السحاب، مما يقلل التناقض الكبير بين المباني الشاهقة وبقية المباني.
الخاتمة
من المرجو أن يميل مستقبل ناطحات السحاب في القاهرة القديمة والجديدة نحو اتجاه إيجابي. ومع تأثير المزيد من الاستثمارات الذكية وتطبيق التشريعات لخدمة الاستدامة واتباع أساليب حل المشكلات، لن يساهم الجيل الجديد من ناطحات السحاب في انبعاثات الكربون بل سيوفّر العدالة الاجتماعية للجميع.
وينبغي على الحكومات وأصحاب المصلحة التزام هذه التدابير الجديدة للتحكم في تغير المناخ والحفاظ على صحة السكان وسلامتهم من خلال فرض تغييرات وتعديلات عدة من أجل نظام أكثر استدامة في ناطحات السحاب القديمة. كما يجب إجراء دراسات للحد من الإفراط في بناء ناطحات السحاب الجديدة مثل البرج الأيقوني في العاصمة الإدارية الجديدة، والذي لا يقدّم أي مساهمة أو فائدة لمخطط المدينة.
وبالنظر إلى ما سبق، أصبح لمؤسسات التوعية المجتمعية دور أكثر أهمية، لا سيما مع ظهور حركات عديدة تدعو إلى التخطيط العمراني الأخلاقي ومراقبة مشاريع التنمية. وينبغي أن تؤدي النتيجة النهائية إلى قاهرة جديدة محسّنة وواعية تكون فيها أكثر استدامة وصداقةً للبيئة، حيث تساهم ناطحات السحاب في النسيج العمراني بدلًا من عزل نفسها عن المدينة القديمة التي يبلغ عمرها 1400 عام.
مراجع
Rise of the glass giants: how modern cities are forcing skyscrapers to evolve, David Nicholson-Cole, December 6, 2016.
cities & citizens series bridging the urban divide, Cairo, a city in transition, UN Habitat
“Vertical Cities: Can Mega-Skyscrapers Solve Urban Population Overload?” Vertical cities could be much more than monolithic luxury towers, but the idea has its skeptics, Kayla Matthews,2018.
“Most buildings were designed for an earlier climate – here’s what will happen as global warming accelerates”, Ran Boydell, July 2, 2021, Heriot-Watt University.
High-rise buildings much more energy-intensive than low-rise, UCL news, 28 June 2017.
Future Buildings & Districts – Energy Efficiency from Nano to Urban Scale, CISBAT 2017, 6-8 September 2017, Lausanne, Switzerland.
International Conference on Sustainable Synergies from Buildings to the Urban Scale, Quantifying Energy Consumption in Skyscrapers of Various, (Heights, Tassioglou, I.A.Meirb, T.Theodosiou), 2017, Volume38.