من خلال القصف المتواصل، والمعلومات المضللة، والحرب النفسية، تهدف تكتيكات إسرائيل إلى إحباط الروح المعنوية وإثارة الخوف بين السكان اللبنانيين.
نور سليمان
“صرت أكره اللّيل كثيرًا. حتى أصبح اللّيل جحيمًا”، تقول عبير (25 سنة) التي تركت منزلها في الضاحية الجنوبية لبيروت مع اشتداد القصف الإسرائيلي على المنطقة خلال الأيام الماضية.
“منذ أسبوع تقريبًا، بدأ الجيش الإسرائيلي بإرسال أوامر إخلاء لمناطق عدة في الضاحية الجنوبية وذلك عند منتصف اللّيل وخلال ساعات الفجر الأولى وبعد حوالي دقائق تبدأ الطائرات الحربية بقصف تلك المناطق بصواريخ ثقيلة تحمل قنابل تزن أطنانًا يُسمع صداها في كلّ المدينة وحتى في مناطق بعيدة من بيروت”، تشرح عبير. “أشاهد كلّ ليلة منطقتي والشوارع التي عشت وترعرعت فيها تُقصف وتُدمر بنقلٍ مباشر ٍعلى التلفاز”.
مضيفةً بحرقة: “قد أكون الآن في مكان آمن، ولكنني لا أزال أعيش رعبًا يوميًا وأخشى أن يُقصف منزلي ويُدمر فأخسر معه كلّ ما أملك، أو أن يتعرض من بقي من أصدقائي ومعارفي في الضاحية والجنوب والبقاع لاستهداف إسرائيلي مباشر يودي بحياتهم/ن”.
والمضحك المبكي بالنسبة لعبير أن الجيش الإسرائيلي ينشر أوامر الإخلاء فجرًا وعلى منصة “X” وكأنّ الجميع يترقبها ساعة بساعةٍ ويحسنُ الوصول إليها، وهم أصلًا لا يعطون الوقت الكافي للناس للإخلاء قبل بدء القصف، “هي فقط شكليات يريدون من خلالها إيهام العالم أنهم يبغون حمايتنا بينما في الواقع يريدوننا أن نسهر طوال اللّيل قلقين بانتظار أن يظهر منزلنا على خارطة الإخلاء”، تقول.
روتين عبير اللّيلي هو عينة مما يعيشه اللّبنانيون/ات. ففي ظل حرب إسرائيلية متواصلة منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 قتل فيها الجيش الإسرائيلي أكثر من 2083شخصًا ،بينهم 127 طفلًا على الأقل وجرح 9869 آخرين، وأجبر حوالي مليون شخص على النزوح في أكبر عملية نزوح في تاريخ لبنان، بحسب الحكومة اللّبنانية، يختبر اللّبنانيون/ات حربًامن نوع آخر: حرب نفسية غير مسبوقة.
حرب أساسها التهديدات والأخبار الكاذبة والمضللة
تُعرف الحرب النفسية على أنّها الاستخدام التكتيكي للبروباغندا، والتهديدات، وغيرها من التقنيات غير القتالية أثناء الحروب بهدف تضليل العدو، أو تخويفه، أو إحباط معنوياته، أو التأثير على تفكيره أو سلوكه بطريقة أو بأخرى لصالح الطرف الذي يشنُ تلك الحرب.
تتنوع أدوات الحرب النفسية المعتمدة في حرب إسرائيل على لبنان بين سيل التهديدات المتكررة التي يوجهها المسؤولون الإسرائيليون للبنانيين/ات والأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة التي تنتشر بالتزامن مع أي حدث. آخر الأحداث التي تقاطع فيها الأسلوبان كان الغزو البري الذي أعلن عن الجيش الإسرائيلي عن تنفيذه في القرى الحدودية الجنوبية. صباح الثلاثاء في ١ تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، ادعى فيه الجيش الإسرائيلي أنه تمكن بالفعل من غزو لبنان ويشتبك بالفعل مع مقاتلي حزب الله. ادعاء سرعان ما نفاه كلّ من الحزب واليونيفيل مؤكدين أن القوات الإسرائيلية لم تتوغل في الأراضي اللّبنانية.
أتى التضليل الإسرائيلي لضرب الروح المعنوية لدى اللّبنانيين/ات وترويعهم بشكلٍ إضافي، فيما هم يرزحون أصلًا تحت وطأة قصف عنيف لا يهدأ.
كانت سميرة (55 سنة)، وهي والدة عبير، لا تزال في منزلها في صور جنوبي لبنان مع باقي أفراد عائلتها، حين بدأ القصف الإسرائيلي العشوائي يقترب من منازل المدنيين. تقول سميرة: “حتى الاثنين في 23 أيلول/ سبتمبر، كان القصف يطال المناطق الحدودية فقط مع بعض الاستهدافات في مدينة صور إلى أن فجأةً ودون سابق إنذار أو أمر بالإخلاء طال القصف محيط منزلنا. شعرنا وكأنَّ وتيرة القصف حولنا تحذيرية تدفعنا للنزوح وهكذا فعلنا. مكثنا بضعة أيام في منزل ابنتي عبير في محيط الضاحية الجنوبية وحين اشتد القصف هناك، نزحنا للمرة الثانية في أقل من أسبوع”.
تتنهد سميرة وتتابع: “إنهم يطاردوننا في كلّ مكان. لم أعد أشعر بالأمان في أي مكان. أتذكر جيدًا عندما هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّه إذا دخل حزب الله في حرب شاملة فإن ذلك سيحول لبنان إلى غزة ثانية. هذا ما أتخيله كل يوم. أن يتكرر سيناريو غزة هنا. ألا تتعرض غزة لإبادة جماعية على يد إسرائيل منذ عام ولم يتحرك أحد لإيقافها؟ ألم يقل وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إننا (حيوانات بشرية)؟”
التصعيد الدراماتيكي الذي يشهده لبنان بدأ يوم الثلاثاء 17 أيلول/ سبتمبر الماضي حين انفجرت آلاف أجهزة اللاسلكي المعروفة بال”بيجر” في أيدي حامليها في بيروت وعدد من المناطق، مخلفةً عشرات الضحايا والجرحى.
يقول أحمد (30 سنة)، وهو من سكان الضاحية الجنوبية، إنه “كان يومًا مرعبًا. رأيت بأم عيني أشخاصًا يتساقطون جرحى على الأرض فجأةً في الطرقات. ادعوا أنهم يستهدفون مقاتلي حزب الله، لكن الانفجارات وقعت فيما كان عدد كبير من المستهدفين يتسوق في المحال التجارية، أو يعمل في مستشفى وحتى يجلس في البيت مع عائلته. أطفال كانوا من بين الضحايا. لم يقيموا وزنًا لأحدٍ ،حتى شعرنا أن كلنا مستهدفون في كل حين وأيّ مكان”.
أمّا أحمد فيتذكر الهلع الكبير الذي تسببت به أخبار كاذبة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي تزامنًا مع الحدث، وتحدثت عن انفجار أجهزة خليوي وألواح طاقة شمسية وحتى أجهزة “مايكرويف”، واستمر الهلع لساعات في الأوساط اللّبنانية قبل أن يتبين زيف تلك المعلومات، “علينا أيضًا الحذر من الأخبار الكاذبة، وكأن كلّ القصف والدمار والموت غير كافين”، يقول أحمد.
على المستوى السيبراني، تنشط إسرائيل أيضًا لتضليل اللّبنانيين/ات من خلال سيل من الرسائل النصيّة والاتصالات التي تحمل تهديدًا أو طلبات إخلاء زائفة أو نداءات خادعة مرفقة بروابط إذا تمَّ الضغط عليها فإن ذلك سيؤدي إلى اختراق البيانات الموجودة على الهواتف، بالإضافة إلى انتشار إعلانات نُسبت للموساد على منصتي “فايسبوك” و”انستغرام” تدعو اللّبنانيين/ت للعمل معهم في مجال جمع المعلومات الاستخبارية، وهي ممارسات وثقتها منظمة “SMEX” المعنية بالحقوق الرقمية.
رسائل في السماء أيضًا
خرق إسرائيل للأجواء اللّبنانية من الجنوب وصولاً إلى الشمال، بواسطة الطيران الحربي والاستطلاعي ليس بالأمر الجديد على اللّبنانيين/ات، فهي ممارسة كرسها الجيش الإسرائيلي وخصوصًا منذ انتهاء حرب تموز 2006، حتى اعتادها سكان البلاد على الرغم من أنّها انتهاك للقرار 1701 الصادر عن الأمم المتحدة، لكنَّ وتيرة الخروقات قد ارتفعت بشكل كبير جدًا منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي 2023.
“لم يفارق الطيران الاستطلاعي سماء الجنوب منذ بدء الحرب وهو يحلق على علو منخفض جدًا وكأن الطائرات تحلق على سطح منزلنا مباشرةً”، تقول سميرة وتتابع: “صوتها الزنان كان يسبب لي صداعًا دائمًا. كنا نشعر أننا مراقبون على مدار الساعة وننتظر وقوع غارة في أيّ لحظة، بالإضافة إلى الخرق اليومي لجدار الصوت لمرات عدة وما يثيره ذلك من ذعر لدينا ولدى الأطفال”.
تشرح سميرة كيف أن ابنتها البالغة من العمر 12 سنة باتت تستطيع التفريق بين الصوت الذي تحدثه الغارة الجوية وبين جدار الصوت وبين صوت تحليق الطيران، وتقول: “كانت في كثير من الأحيان، تسخر منا إن خفنا من جدار الصوت باعتبار أنها متأكدة بأنه ليس غارة”.
وتضيف: “صوت الطيران المزعج كان يمنعها من التركيز لمتابعة فروضها المنزلية، أو حتى من النوم ليلة كاملة”.
بحسب الأخصائية النفسية وردة بو ضاهر فإن “الضغط النفسيّ الذي يتعرض له الأطفال في هذه الظروف يدفعهم لمحاولة فهم ما يجري حولهم ليتمكنوا من حماية أنفسهم ولكن ذلك لا يعني أبدًا أنهم لا يعانون من صدمات نفسية تسببت بها الحرب”، شارحةً: “بعض الأطفال الذين نتابعهم باتوا يخافون من أي صوتٍ عالٍ قد يصدر بالقرب منهم كصوت إغلاق الأبواب بقوة أو رياح عاتية لأنهم باتوا يشبهونها بأصوات القصف وجدارات الصوت التي سمعوها بشكل متواصل، وذلك سيستوجب متابعة نفسية حثيثة لهم خصوصًا بعد انتهاء الحرب حيث سيكون علينا مساعدتهم على استعادة مشاعر الأمان التي فقدوها”.
تؤكد بو ضاهر أن “الرسالة من وراء خرق إسرائيل جدار الصوت هي أنها تستطيع الوصول لسكان البلاد وترهيبهم أينما كانوا، وهي واحدة من تكتيكات عدة تعتمدها إسرائيل في حربها النفسية ومنها مثلًا ادعاء تفوق عسكري ما لم يُترجم على أرض الواقع لإثارة الخوف في نفوس الناس، أو الادعاء أنها تستهدف المقاتلين فقط وأنهم هم المسؤولون عما يتعرض له المدنيون وتسعى بذلك بضرب المجتمع اللّبناني وتأليبه على بعضه وبث مشاعر التفرقة والحقد في أوساطه”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأساليب المعتمدة في الحرب النفسية تُعد انتهاكًا للمادة 51 (2 ( من القانون الدولي الإنساني التي تحظر “استخدام أعمال العنف أو التهديد به الرامية أساسًا إلى بث الذعر بين السكان المدنيين”.
محاربة الأخبار الكاذبة ودور الصحفيين
يقول الصحفي ومدقق المعلومات يوسف الأمين، وهو مشارك مؤسس لمنصة “صواب” المعنية بتدقيق المعلومات إن “بعض الصحفيين يعتقدون أن عملهم يقتصر فقط على نقلِ الخبر دون التحقق منه فتغلب السرعة على الدقة بسبب سيل الأخبار، وهم يكتفون في بعض الأحيان بنشر الخبر مرفقًا بعبارة (متداول) أو (نقلًا عن مصادر عبرية) دون تحديدها بشكل دقيق”.
ويضيف: “من الطّبيعي أن يكون لدى المواطنين ومن بينهم الصّحفيين هشاشة نفسية خلال الحرب، وإسرائيل استغلت هذا الأمر وهندست حربها النفسية لتعميق الذعر لدى الناس وجعلهم يعيشون حالة قلق دائمة، فعلى سبيل المثال غالبًا ما تقصف الطائرات الحربية مواقع خارج بيروت وتخرق جدار الصوت فوق بيروت في آن واحد حتى يعتقد الناس أن القصف استهدف المدينة”.
بحسب الأمين، لا يمكن ضبط مواقع التواصل الاجتماعي فيمكن لأي كان أن ينشر ما يريد من معلومات مضللة، وهو مثلًا أمر دأب على فعله المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي على مستوى رسمي، والجيوش الالكترونية بأسلوب غير رسمي، ولكن بالحد الأدنى تقع المسؤولية على الصحفيين الذين يتوجب عليهم أن يدققوا بأي معلومة قبل نشرها لما يفرضه واقع الحرب من حساسية خاصة، وعليهم أن يسعوا ليكونوا مصادر موثوقة للناس في هذه الظروف.
ويشير الأمين إلى “أن هناك، بالدرجة الثانية، مسؤولية تقع على الأفراد الذين عليهم التحقق من المعلومات قبل التداول بها وإرسالها لآخرين وأن يتأكدوا أن الخبر منشور في وسائل إعلام معروفة وموثوقة، فهم أيضًا يمكن اعتبارهم مصدرًا للمعلومات في محيطهم الضيق، وعليهم أيضا اللّجوء للتفكير النقدي آخذين بعين الاعتبار دومًا أن إسرائيل تشن حربًا نفسية عليهم، وهي مستمرة بذلك طالما أن هدفها ترويع اللّبنانيين والسيطرة على يومياتهم وأعصابهم، وتوليد مشاعر الاستسلام والانهزام لديهم”.
*استُخدمت أسماء مستعارة للإشارة إلى الأشخاص الذين شاركونا تجاربهم/ن إليهم للحفاظ على خصوصيتهم/ن وأمنهم/ن.