هناك معركةٌ تجري رحاها في القدس، ولكن هذه المعركة لا يتم خوضها بالحجارة والغاز المسيل للدموع وبنادق إم-16؛ هذه المرة المعركة معركة إرادة: من يُقرر أي جزءٍ من المدينة ينبغي أن يظهر للسياح اليوم؟ وكيف ينبغي أن يتنقل هؤلاء السياح في أرجاء القدس التاريخية بطريقةٍ محترمة؟
يتمحور آخر خلافٍ حول خط التلفريك المخطط له، إذ تريد إسرائيل، التي تحتل النصف الشرقي من القدس (بما في ذلك البلدة القديمة، أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو)، أن تصطحب الزوّار إلى حائط البراق (الحائط الغربي حسب التسمية اليهودية) عبر العربات المعلقة بالهواء. ومن المقرر أن ينقل خط التلفريك السياح من المحطة الأولى في الجزء الغربي من المدينة، ليحلقوا فوق حيين فلسطينيين وصولاً إلى مشروع الهيكل التوراتي “مركز كيدم،” وهو مجمعٌ ضخم متعدد الطوابق من المقرر بناؤه جنوب شرق حائط البراق، فوق الحفريات الأثرية في موقف جفعاتي. تكشف هذه الحفريات عن مسكنٍ يعود تاريخه إلى زمن المعبد اليهودي الثاني، أي حوالي زمن المسيح.
تم تصميم التلفريك لينقل ما يصل إلى 3 آلاف شخص في الساعة ومن المفترض أن يبدأ تشغيله عام 2021. يقول معارضوا المخطط أن القدس “ليست ديزني لاند.”
إن النزاع حول طريقة النقل الجديدة ما هو إلا رمزٌ لخلافٍ أكثر انتشاراً حول الآثار في إسرائيل. فقد اندلع أكبر صراعٍ في أكتوبر 2016، عندما أدى قرار اليونسكو إلى استنكارٍ واسع النطاق في إسرائيل. ووفقاً للعديد من الإسرائيليين، نفى القرار العلاقة اليهودية بجبل الهيكل، وفي هذا القرار، تمت تسمية الجبل المقدس حصراً باسمه الإسلامي: الحرم القدسي الشريف.
طغى هذا الغضب على النص الكامل للقرار، وإذا ما وضعنا علم دلالات الألفاظ جانباً، يساور اليونسكو القلق بشأن الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع الحفريات الأثرية في القدس. فقد ذكر القرار أن اليونسكو تدين بشدة الاعتداءات الإسرائيلية المتصاعدة والتدابير غير القانونية ضد دائرة الأوقاف الإسلامية وموظفيها، وضد حرية العبادة ودخول المسلمين إلى المسجد الأقصى المبارك في الحرم القدسي الشريف، وطالبت إسرائيل بأن تحترم الوضع التاريخي الراهن وأن توقف هذه الإجراءات فوراً.
إن نص القرار “لا يتناسب مع ما يجب قوله،” بحسب سام بحور، الكاتب الأمريكي الفلسطيني والناشط ومستشار الأعمال الذي يعيش في البيرة، إحدى مدن الضفة الغربية، حيث أضاف “لأن إسرائيل من تقوم بهذه الاعتداءات، فإن إسرائيل تمنع قدرة فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، مسلمين ومسيحيين، على الوصول إلى أماكنهم المقدسة في القدس.” ومع ذلك، قال بحور إنه كان سيضيف الاسم اليهودي للموقع المقدس – أي جبل الهيكل – إلى القرار “بما أن الاسم ليس محور القضية فحسب، بل الانتهاك الصارخ لحقوقنا الإنسانية والقانون الدولي.”
يُشارك خبير الآثار يوناتان ميزراحي من مؤسسة إيميك شافيه (الوادي المتساوي) غير الحكومية، اليونسكو مخاوفها. فقد كان يعمل لصالح سلطة الآثار الاسرائيلية، حيث شبّه مدير هذه المؤسسة الحكومية اليونسكو بتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي. وقال ميزراحي أن علم الآثار في إسرائيل أصبح مسيّساً بالكامل، “يتعلق الأمر برمته بخلق رواية. وتتمثل الرواية الإسرائيلية بأن القدس لطالما كانت مدينةً يهودية، ولهذا السبب المدينة مُلكنا،” بحسب قوله.
وعلى مدار 3000 عام، كانت القدس، وهي واحدةٌ من أقدم المدن في العالم، مأهولة بالكنعانيين واليهود والبابليين والفرس واليونانيين والرومان والبيزنطيين والمسلمين والصليبيين والعثمانيين والبريطانيين. إغرس مجرفةً في الأرض وستجد شيئاً مثيراً للاهتمام. ينطبق هذا بشكلٍ خاص على حفريات جفعاتي، أكبر الحفريات في المدينة. فقد منحت الحكومة الإسرائيلية إدارة هذا الموقع – في الأراضي الفلسطينية المحتلة – إلى إلعاد، وهي منظمة يمينية غير حكومية تهدف إلى “تهويد” المدينة. تتمثل إحدى الطرق للقيام بذلك من خلال التأكيد على التاريخ اليهودي في الحفريات، حيث يتم التقليل من شأن الاستكشفات من الحقب الأخرى أو تجاهلها تماماً. فإلعاد واضحةٌ حول أهدافها ومعتقداتها: تماماً كما يملك المسلمون مكة، اليهود لديهم القدس.
كما أن إلعاد من تريد بناء مبنى متعدد الطوابق فوق الحفريات – ليس لإخفاء الحفريات ولكن للاحتفال بها. هنا، في ما يسمى “مدينة داود،” سيعيش السياح والزوّار الآخرين المهتمين، الأصول اليهودية في المدينة بكل مجدها. وفي القرار المتنازع عليه، تعرب اليونسكو عن امتعاضها لبناء مركز الزوار هذا.
وبالطبع، يعترف ميزراحي بأن علم الآثار لطالما كان أداةً سياسية، “ليس علماً دقيقاً. تستخدم الأنظمة والمجموعات علم الآثار للتأكيد على القصة التي تعتبرها الأكثر أهمية.” من يقرر أي طبقة يجب أن تبقى وأيها يمكن إعادة ردمها؟ هل هو قرارٌ سياسي، أم أن بعض الطبقات موضوعية أكثر من غيرها؟ “يمكن للمرء أيضاً طرح السؤال بطريقةٍ مختلفة. كيف ستجذب إسرائيل المزيد من السياح: من خلال التأكيد على التاريخ اليهودي أم الإسلامي؟”
كما وصف ميزراحي إلعاد بـ”المنظمة المتطرفة.” إذ قال “لا يمكن لأحدٍ القول بأن القدس تخصهم فحسب. هناك المليارات من اليهود والمسيحيين والمسلمين الذين يشعرون بالارتباط بهذا المكان. ولهذا السبب أعتقد أنه من الخطأ، بشكلٍ أساسي، تسليم هذا التنقيب إلى مجموعة ذات نوايا قومية محضة.”
لا تتمثل المشكلة بهذه الجزئية فقط، بحسب بحور، “بما أن القدس الشرقية منطقة عسكرية محتلة، فإن إسرائيل ملزمة بموجب القانون الدولي بعدم إجراء تغييراتٍ على الأرض، باستثناء ما هو في مصلحة الشعب المحتل، الذي يعتبر بموجب القانون “أشخاصاً محميين.” يمكن تصنيف هذه الحفريات، وكذلك التلفريك المخطط له، كجزءٍ من مشروع الاستيطان الإسرائيلي غير القانوني. ووفقاً لبحور، فإن كل ما يتم التنقيب عنه يجب ألا يغادر أرض فلسطين، لأن هذه الموجودات هي أصولٌ فلسطينية، “إذا ما أخذتهم إسرائيل، فهم يسرقون من الأرض الفلسطينية.”
وعندما سُئل عما إذا كان التاريخ اليهودي للقدس ليس بهذه الأهمية، قال ميزراحي: “بالتأكيد هو كذلك. ولكنه جزءٌ واحد فقط من تاريخ المدينة.” كما يقترح أن يتم جلب مجموعة من علماء الآثار الإسرائيليين والفلسطينيين والعالميين، الذين سيحددون معاً الجزء الذي سيُعرض من تاريخ القدس وأي جزء سيتم إخفاؤه.
ورداً على المعارضة، قال زئيف أورينشتاين، مدير الشؤون الدولية في إلعاد، إن الحفريات في جفعاتي تُظهر حقباً تاريخية مختلفة. وفي ظل إدارة إلعاد، أصبحت المدينة “واحدةً من أكثر المواقع زيارةً في إسرائيل،” حيث تجذب 500 ألف زائر سنوياً، وكما يقول “إن الملايين من الناس من جميع أنحاء العالم، من جميع الأديان والخلفيات، مهتمون بتطوير هذا الموقع.”
وتقع على بُعد حوالي 400 متر إلى الشمال الغربي من حفريات جفعاتي، داخل أسوار المدينة القديمة، بقعةٌ توفر مشهداً استثنائياً لحائط البراق وقبة الصخرة الشاهقة فوقه. وكل يوم يقوم مئات اليهود بأداء واجباتهم الدينية في الساحة أمام حائط البراق، وهو مكانٌ يهودي مقدس يقع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقال ميزراحي، “اسألوا [المصلين] إذا ما كانوا يعتقدون أن هذه المنطقة تخص إسرائيل، وسيقولون جميعاً نعم.” وأضاف “بالنسبة لهم، يتمحور السؤال برمته حول ما إذا كان اليهود ينتمون إلى هذا البلد، وخاصة إلى القدس. حتى الإسرائيليين الذين لم يزوروا المدينة قط يملكون صورةً في أذهانهم للمدينة لا يمكن المساس بها. وعندما يشعرون بأن أحدهم يريد أن يسلب القدس منهم، سيقولون أنه معادٍ للسامية.”
وهذا بالضبط ما يفكر به زئيف أورنشتاين، إذ قال أن من التعصب أن يوحي أحدهم بأن اليهود لا يستطيعون العيش في المكان الذي يحدد هويتهم الروحية والسياسية والثقافية. وهذا ما يجعل قرار اليونسكو المثير للجدل “منافٍ للعقل.” فالدول التي صوتت لصالح القرار هي ذات أغلبيةٍ مسلمة، مثل تونس والكويت ولبنان، وبحسب قوله “اختُطِفت منظمة اليونسكو من قبل مجموعةٍ من الدول التي ترى في الأمم المتحدة أداةً لتشويه صورة دولة إسرائيل ونزع الشرعية عنها.”