وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إنتاج الغاز من بحر غزة: هل تسمح إسرائيل بذلك؟

رغم كل الإيجابيّات التي يمكن أن تحيط بإنتاج الغاز من بحر غزة، ثمّة العديد من القضايا المعلّقة والإشكاليّات التي لم تتم معالجتها بعد.

إنتاج الغاز من بحر غزة
فلسطينيون قبالة سواحل مدينة غزة. محمد عابد / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

في تطوّر مفاجئ، أعلنت إسرائيل في شهر حزيران/يونيو 2023 موافقتها المبدئيّة على تطوير حقل غاز “مارين”، الواقع على بُعد 30 كيلومترًا قبالة شاطئ غزّة. ومن المفترض بعد هذه الموافقة أن تتابع السلطة الفلسطينيّة ملف استثمار هذا الحقل، بوصفها صاحب الحقل الاقتصادي القانوني، لاحتياطات الغاز الواقعة ضمن المنطقة البحريّة التابعة لقطاع غزّة. كما سيكون على مصر التنسيق أمنيًا مع إسرائيل قبل بدء عمليّة تطوير الحقل، بحسب شروط الموافقة الإسرائيليّة.

أثارت هذه الأحداث العديد من التساؤلات حول أسبابها وخلفيّاتها في هذا التوقيت بالذات، بعد نحو 23 سنة من اتخاذ إسرائيل قرارًا بمنع إنتاج الغاز من بحر قطاع غزّة. وفي الوقت عينيه، ثمّة الكثير من الشكوك حول جديّة هذه الموافقة المبدئيّة الإسرائيليّة، أو حول قدرة السلطة الفلسطينيّة على استكمال هذا المشروع الهادف، في ظل التوتّرات العسكريّة المتكرّرة في تلك المنطقة.

أمّا في حال استكمال المشروع، فسيكون من الضروري البحث عن التداعيات السياسيّة لتحوّل قطاع غزّة إلى منطقة تنتج الغاز، وخصوصًا على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كما سيكون على الفلسطينيين البحث في الخيارات الاقتصاديّة الأمثل لاستخدام عوائد تصدير الغاز، في ظل النزاع التاريخي القائم بين السلطة الفلسطينيّة وحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزّة.

تاريخ احتياطات الغاز في قطاع غزّة

بعد أن وقّعت السلطة الفلسطينيّة اتفاق السلام مع إسرائيل عام 1993، وضع الطرفان تفاهمات ماليّة واقتصاديّة مكمّلة عام 1994، ضمن إطار “اتفاق باريس الاقتصادي”. وبحسب تلك التفاهمات، احتفظت إسرائيل بصلاحيّة الموافقة والإشراف على أعمال التنقيب عن الثروات الطبيعيّة في المناطق الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينيّة، كما نصّت التفاهمات على ضرورة مصادقة الجانب الإسرائيلي على أي عمليّة استثمار أو استخراج هذه الثروات.

ورغم محدوديّة الصلاحيّات المملوكة من قبل السلطة الفلسطينيّة في مجال استثمار الثروة النفطيّة، أسست السلطة عام 1994 هيئة البترول الفلسطينيّة، لتكون الهيئة المشرفة والمسؤولة عن هذا القطاع. وهذه الخطوة عكست معرفة السلطة الفلسطينيّة في وقت مبكر بحجم الفرص الموجودة في هذا القطاع، كما أظهرت اهتمامها بحماية حقوقها النفطيّة.

وفي العام 1999 منحت السلطة عقدًا حصريًا لشركة “بريتش غاز” واتحاد المقاولين العرب، للتنفيب عن الغاز في المياه البحريّة التابعة لقطاع الغاز، ومن ثم استخراجه، ما أسفر عن اكتشاف حقلي غاز “مارين 1″ و”مارين 2”. وفي تلك الفترة، تم تقدير حجم الاحتياطات الموجودة في الحقلين معًا بحدود ال1.4 ترليون قدم مكعبة من الغاز، ما يشكل كميّة تجاريّة وازنة يمكن تصدير معظمها، بعد تأمين حاجة الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة من الغاز.

وعلى هذا الأساس، شرعت الشركتان بالتحضير لتطوير حقلي الغاز عام 2000، إلا أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون سرعان ما فرمل هذا المشروع في تلك السنة، ردًا على اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية. وجاء منع أعمال التطوير في حقلي الغاز يومها بذريعة الخشية من استفادة السلطة الفلسطينيّة من عوائد هذا الاستثمار، لتمويل “العمليّات الإرهابيّة” التي تستهدف إسرائيل. وفي وقت لاحق، استحوذت شركة “شل” على شركة “بريتش غاز”، التي كانت تملك حصّة من رخصة استخراج الغاز من بحر قطاع غزّة، ما نقل حصّة “بريتش غاز” في المشروع إلى شركة “شل”.

ومنذ العام 2000، ظلّ استثمار احتياطات الغاز مجمّدًا بفعل العراقيل الإسرائيليّة، إلى أن فقدت شركة “شل” الأمل في تنفيذ المشروع، ما دفعها إلى إعلان رغبتها بالخروج منه بحلول العام 2017. وفي العام 2018، وبعد أن فشلت الشركة في إيجاد شركة عالميّة أخرى مستعدة لشراء حصّتها في المشروع، تنازلت “شل” عن حصّتها لمصلحة صندوق الاستثمار الفلسطيني واتحاد المقاولين العرب، ليتولّى الطرفان منذ ذلك الوقت مهمّة البحث عن شركات عالميّة مستعدة لاستكمال هذه المهمّة.

إعادة إحياء ملف استثمار احتياطات الغاز الفلسطينيّة

في العام 2021، بدأت السلطة الفلسطينيّة تسعى إلى إعادة إحياء هذا الملف، عبر توقيع اتفاقيّة مع الشركة المصريّة القابضة للغازات الطبيعيّة، للتعاون في مجال تطوير حقول الغاز البحريّة في قطاع غزّة.

ومنذ ذلك الوقت، باتت السلطة الفلسطينيّة تراهن على الدور المصري، أولًا للتوسّط مع إسرائيل من أجل السماح باستثمار احتياطات الغاز الفلسطينيّة، وثانيًا لتأمين القدرة الماليّة والتقنيّة من أجل استخراج الغاز. وكانت السلطة الفلسطينيّة قد دخلت قبل ذلك منذ العام 2019 إلى منتدى غاز شرق المتوسّط، لتوسيع أفق تعاونها مع الأطراف الإقليميّة الأخرى، في عمليّة استثمار واكتشاف حقول الغاز البحريّة.

وبالفعل، في حزيران/يونيو 2023، وبعد سنتين من التنسيق الفلسطيني المصري، تمكنت السلطة من انتزاع الموافقة المبدئيّة الإسرائيليّة الأخيرة على تطوير حقل غاز “مارين 1″، من دون أن يشمل الاتفاق حقل “مارين 2”. ومن المرتقب أن يحتوي حقل “مارين 1” وحده، الأكبر حجمًا، على نحو ترليون قدم مكعّبة من الغاز الطبيعي، فيما ستتمكّن السلطة الفلسطينيّة من إنتاج الغاز خلال فترة قد تتراوح بين 18 و20 شهرًا بعد بدء أعمال التطوير. وبحسب الدراسات الموجودة، من الممكن أن يتجاوز إنتاج حقل الغاز السنوي ال1.5 مليار متر مكعّب من الغاز، أي ما توازي قيمته ال705 مليون دولار سنويًا.

وبحسب الاتفاقات المعقودة بين الجانبين المصري والفلسطيني، ستبلغ حصّة الشركة المصريّة من الإنتاج نحو 40%، فيما ستتقاسم السلطة الفلسطينيّة الحصّة المتبقية مع اتحاد المقاولين العرب، الذي يشاركها ملكيّة هذا الحقل. وتراهن مصر على استجرار الجزء الأكبر من إنتاج الغاز إلى محطّات تسييل الغاز الموجودة لديها، لتسييله وشحنه بالبواخر وبيعه في الأسواق، ومن ثم تسليم السلطة الفلسطينيّة حصّتها من العوائد الماليّة. أمّا الجزء الآخر من إنتاج الغاز، فيمكن استخدامه محليًا لتوليد الكهرباء في قطاع غزّة والضفة الغربيّة.

دوافع إسرائيل للموافقة على استثمار حقل “مارين 1”

تتنوّع التحليلات والأسباب التي تفسّر التهاون الإسرائيلي المستجد في ملف الغاز الفلسطيني، عبر إعطاء الموافقة المبدئيّة الأخيرة على استثمار حقل “مارين 1″، في حين أنّ الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة تنتهج مقاربة متشدّدة في وجه الفلسطينيين في جميع الملفّات الأخرى.

السبب الأوّل الذي يشير إليه البعض، هو محاولة إسرائيل فرض التهدئة في قطاع غزّة من البوّابة الاقتصاديّة، عبر خلق مصالح ماليّة تدفع الفصائل الفلسطينيّة لتجنّب التصعيد الأمني في المنطقة. فاعتماد الفلسطينيين على غاز حقل “مارين 1” لتوليد الكهرباء في القطاع، وعلى التدفقات الماليّة التي ستنتج من بيع إنتاج الغاز، سيعطي الفصائل الفلسطينيّة أسبابًا لتفادي أي نزاع عسكري يمكن أن يؤثّر على عمليّات الاستثمار والإنتاج. وهذا ما يفسّر إصرار إسرائيل على اشتراط وجود “ضمانات أمنيّة” بالتنسيق مع مصر، قبل الشروع بتطوير حقل “مارين 1”.

وعلى هذا النحو، يمكن القول أنّ إسرائيل تحاول تحويل حقل “مارين 1” إلى ورقة ضغط دائمة في وجه حركة حماس والسلطة الفلسطينيّة، بحيث يصبح الاستقرار الأمني شرطًا لاستمرار استفادة الفلسطينيين من إنتاج وعائدات الغاز. وهذا السيناريو يشبه ما قامت به إسرائيل بالفعل مع لبنان، عندما سهلت عمليّة ترسيم الحدود بضمانات ووساطة أميركيّة، لتحقيق الاستقرار الأمني الذي سينتج عن استفادة لبنان من استثمار حقول الغاز الحدوديّة.

في الوقت عينيه، يبدو أنّ إسرائيل تأثّرت أيضًا بضغوط الولايات المتحدة الأميركيّة، التي تحاول حاليًا فرض خطوات يمكن أن تؤدّي إلى خفض التصعيد في المنطقة. وفي مقابل استياء الولايات المتحدة من سياسة التوسّع الاستيطاني التي تمارسها الحكومة الإسرائيليّة، يبدو أن نتنياهو يحاول في المقابل احتواء ردّة الفعل الأميركيّة، من خلال إبداء بعض الليونة في ملف احتياطات الغاز الفلسطينيّة. ومن المعلوم أن إدارة بايدن تحاول حاليًا تحقيق بعض النجاحات في ملف تطبيع علاقة إسرائيل بجيرانها العرب، وخصوصًا المملكة العربيّة السعوديّة، وهذا ما يفرض على إسرائيل القيام ببعض الخطوات لتخفيض التوتّر مع محيطها العربي.

أخيرًا، يبدو أنّ العامل الحاسم في هذا الملف كان ضغط دول الاتحاد الأوروبي، التي تستفيد حاليًا من شراء شحنات الغاز المُسال في المحطات المصريّة. فعمليّة استثمار احتياطات الغاز الفلسطينيّة، ستفضي إلى ضخ الغاز الفلسطيني بالأنابيب إلى محطات تسييل الغاز المصريّة، ما سيزيد من إمدادات الغاز المُسال المتجهة إلى السوق الأوروبيّة. وحتّى هذه اللحظة، مازالت السوق الأوروبيّة تحتاج إلى زيادة إمدادات الغاز المتجهة إليها، بعد أزمة الطاقة التي برزت إثر انقطاع الغاز الروسي عن السوق الأوروبيّة.

إشكاليّات وقضايا معلّقة

رغم كل الإيجابيّات التي يمكن أن تحيط بعمليّة استثمار احتياطات الغاز الفلسطينيّة، ثمّة العديد من القضايا المعلّقة والإشكاليّات التي لم تتم معالجتها بعد. الإشكاليّة الأولى والأهم، تبقى إمكانيّة عودة الأمور إلى نقطة الصفر، في حال اتخاذ الحكومة الإسرائيليّة قرارًا بتجميد عمليّة الاستثمار، كإجراء عقابي جماعي بحق الفلسطينيين، تمامًا كما جرى عام 2000.

وحتّى هذه اللحظة، لم تقدّم إسرائيل أي تأكيدات تنفي إمكانيّة حصول هذا السيناريو. بل على العكس تمامًا، يوحي تشديد إسرائيل على ضرورة توفّر ضمانات أمنيّة لصالحها بإمكانيّة تراجعها عن الموافقة المبدئيّة في المستقبل، في حال عدم توفّر هذه الضمانات.

من ناحية أخرى، يتطلّب الاستثمار في عمليّة استخراج الغاز مجموعة كبيرة من الخدمات اللوجستيّة المكلفة والمكمّلة، التي يفترض أن تقدمها شركات أجنبيّة، بسبب نقص الخبرات البتروليّة في قطاع غزّة. ومن المحتمل أن لا تتمكّن السلطة الفلسطينيّة أو شريكها المصري من تأمين كل هذه الخدمات الأساسيّة، بسبب خشية الشركات الأجنبيّة من المخاطر الأمنيّة المرتفعة، المحيطة بالعمل في قطاع غزّة، بفعل الهجمات الإسرائيليّة المتكرّرة على القطاع.

وفي الوقت عينيه، تبرز إشكاليّة الانقسام الحاصل بين السلطة الفلسطينيّة الموجودة في الضفّة الغربيّة، والتي تشرف على هذا الاستثمار، وحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزّة. إذ من شأن هذا الانقسام أنّ يعيق استفادة القطاع من غاز الحقل، أو من عائدات بيعه، خصوصًا إذا لم يتمكّن الطرفان من الوصول إلى تفاهمات حول هذه القضايا. مع الإشارة إلى أنّ حركة حماس أفادت أنّها لم تشترك حتّى الآن في المباحثات المتعلّقة باستثمار حقل “مارين 1″، لكنّها تترقّب الفوائد التي يمكن أن يستفيد منها قطاع غزّة لاحقًا بفعل هذا الاستثمار.

لكل هذه الأسباب، ثمّة ما يكفي من أسباب للتوجّس من التحديات المتعلّقة بهذا الملف، وهذا ما يفترض أن يدفع السلطة الفلسطينيّة إلى وضع استراتيجيّة متكاملة للتعامل مع كل إشكاليّات المرحلة المقبلة.

وعلى نحو أدق، على السلطة الفلسطينيّة أن تنسج تفاهمات محليّة واضحة مع الفصائل الفلسطينيّة، بما يخص كيفيّة استخدام الغاز والعوائد المرتقبة، مع دراسة نوعيّة البنية التحتيّة التي سيحتاجها قطاع غزّة والضفة الغربيّة للاستفادة من الغاز في عمليّة إنتاج الطاقة. كما يتفرض أن تضع السلطة الفلسطينيّة خطّة لعلاقاتها الخارجيّة مع الدول الإقليميّة المؤثّرة، لتفرض على إسرائيل تقديم ضمانات تؤكّد القدرة على استكمال الاستثمار في هذا الحقل.