تحوّل الوضع المائي في إيران في عام 2018 إلى أزمةٍ اكتسبت اهتماماً سياسياً. وعليه، مع تصاعد الاحتجاجات، لبعض الوقت، ضد إدارة المياه وتوزيعها، يبدو أن الحكومة تواجه مهمةً صعبة لمعالجة هذه المشكلة المستمرة منذ عقود. ومع ذلك، بدأت الحكومة الإيرانية في الآونة الأخيرة بمعالجة قضية المياه باعتبارها تهديداً مباشراً، ذلك أنه يمكن استخدامها ضد الحزب الحاكم من قبل قوى خارجية والمعارضة في الداخل على حد سواء. وعلى هذا النحو، تم تكليف المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني للتوصل إلى حلولٍ فيما يتعلق بتوريد وتوزيع المياه بعد أن اجتاحت الاحتجاجات بعض المدن الإيرانية. انتقد المجلس الحكومة بشدة لإفتقارها للرغبة في إيجاد حلولٍ لقضايا الزراعة والمياه الصالحة للشرب وعلى هذا الأساس، عقد المجلس الأعلى للمياه العديد من الاجتماعات لمعالجة القضية من الناحية الفنية. فقد كانت لجنة الأمن القومي التابعة للبرلمان الإيراني قد أنشأت بالفعل لجنة “الأمن المائي” للمساعدة في نفس القضية. وهنا يُطرح السؤال لماذا، وكيف أصبح الوضع المائي يُنذر بالخطر إلى هذا الحد بالنسبة لطهران.
إلى جانب حقيقة أن الموارد المائية في إيران آخذة في التقلص، ترتبط حساسية طهران بالقضية إلى حدٍ ما بدواعي سياسية وأمنية. ففي يونيو 2018، خاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأمة الإيرانية، حيث انتقد طهران وقدم نصائح إلى الناس حول كيفية إدارة مشاكلهم المتعلقة بالمياه. وعلى الرغم من أن هذا التدخل لربما لا يعني شيئاً لطهران، إلا أن استغلال المعارضة السياسي للوضع لنزع صفة الشرعية عن النظام مقلقة لطهران. ففي يوليو عام 2018، حاولت منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة بشدة الاستفادة من الاحتجاجات في برازجان (إقليم بوشهر) وعبادان وخرمشهر (إقليم خوزستان) لتشويه صورة النظام.
وكانت الاحتجاجات الأولى مرتبطة بشكلٍ غير مباشر والاحتجاجات الثانية مرتبطة بشكلٍ مباشر بقضية المياه. يحدث هذا كله في الوقت الذي تواجه فيه طهران ضغوطاً دولية متزايدة وفي الوقت الذي يتوقع فيه أن ينكمش دخل النفط في البلاد نتيجةً للعقوبات الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، أوضحت الولايات المتحدة أنها تعتزم استخدام الاضطرابات الداخلية لإجبار طهران على الخضوع لمطالبها أو فرض تغييرٍ على النظام.
وفي ظل هذه الظروف، يعدّ الوضع المائي قضية أمنية وأداةً سياسية أيضاً. كما أن ضرورة التصدي لها تُجبر طهران على التحرك بسرعة لمنع أي تلاعبٍ من قِبل القوى الأجنبية والمعارضة. ولكن لحل هذه القضية، تحتاج طهران إلى الوقت- وهي سلعةٌ نفسية ثمنها باهظ. وحتى يتسنى تصور خيارات طهران، يحتاج المرء إلى رؤية جذور المشكلة، ذلك أن “أزمة المياه” في إيران ما هي إلا نتيجةٌ لقضيتين رئيسيتين، إلى جانب بعض القضايا الثانوية.
المشكلة الأولى هي تغير المناخ، فقد انخفض الهطول المطري في إيران عن المتوسط السابق في العقد الماضي. فإيران تتمتع بمناخاتٍ قاحلة أو شبه قاحلة، تتميز في معظمها بانخفاض هطول الأمطار وفرط التبخر المحتمل. فقد بلغ متوسط هطول الأمطار في إيران 18,72 ملم من عام 1901 حتى عام 2015، كما انخفض أكثر فأكثر مع مرور الوقت: وصل إلى 16,97 ملم في نوفمبر 2015. وعلى الرغم من هذا التذبذب، فإن انخفاض الهطول المطري في إيران أمرٌ واقع وبخاصة خلال السنوات الست أو السبع الماضية. ونتيجةً لذلك، أصبح الجفاف أكثر شيوعاً في إيران. وبناءً على ذلك، فإن الجفاف الشديد، بالإضافة إلى الموارد المائية التي تعرضت لسوء الإدارة والعديد من العواصف الترابية أضعفت جميعها اقتصاد إيران في السنوات الأخيرة. وبالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يؤثر تغير المناخ سلباً على الممارسات الزراعية لإيران في ظل تغير أنماط الهطول المطري وتغير درجة الحرارة والتسميد بغاز ثاني أكسيد الكربون. ولذلك، تواجه النخب الحاكمة في إيران تحدياً بيئياً خطيراً، وفي حال لم يتم التعامل معه بشكلٍ صحيح، قد يتحول بشكلٍ سريع إلى تحدٍ أمني، كما أوحت الاحتجاجات الأخيرة في أجزاء من إيران بالفعل. لكن ينبغي النظر إلى الجفاف الذي تعاني منه إيران وفقاً لنموها السكاني.
تتمثل القضية الثانية بالنمو السكاني في إيران. فقد ارتفع عدد سكان إيران بشكل أبطأ من العقد الأول بعد الثورة الإسلامية عام 1979. فقد كانت إدارة هاشمي رفسنجاني، الذي كان رئيساً للجمهورية الإسلامية الإيرانية في الفترة من 1989 إلى 1997، أول من تبنى سياسة تنظيم الأسرة لخفض معدلات المواليد. ولكن عند صعوده إلى السلطة، كان عدد سكان إيران في ازديادٍ بالفعل. فقد تضاعف عدد السكان في عام 1979، حيث تضاعف عددهم بنحو 35 مليون نسمة بحلول عام 2006، لكنه يستقر الآن عند حوالي 83 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يصل إلى 90 مليون نسمة في عام 2035. من جهته، يحث المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الحكومة على وقف أي نوعٍ من تنظيم الأسرة، ويرجع ذلك أساساً إلى انخفاض معدلات المواليد، الذي انخفض من 6,08 في عام 1976 إلى 1,8 في عام 2006. ولكن من المشكوك فيه أن يجد نداءه آذاناً صاغية، وذلك لأن السكان، من بين أمورٍ أخرى، يعانون في ظل الضائقة الاقتصادية.
لكن هاتين المسألتين الرئيسيتين ليستا الوحيدتان اللتان يجب النظر فيهما، إذ أن هناك قضايا أخرى، على الرغم من أنها ثانوية، إلا أنها فعالة ومهمة مثل القضايا الرئيسية. فأولاً، لم تكن إدارة المياه السيئة في إيران كافية أو تتمتع بالكفاءة للحفاظ على أمطارها القليلة. ثانياً، إن قطاع الزراعة في إيران، الذي يُعتقد أنه يستهلك 90% من موارد المياه الإيرانية، هو تقليدي بشكلٍ أساسي وغير فعال من حيث نتائجه. وثالثًا، أسلوب الحياة الإيراني، الذي يركز على المستهلك. ووفقاً لما قاله عيسى كلانتري، رئيس منظمة البيئة الإيرانية، “إذا ما استمر استهلاك المياه على ما هو عليه، فإن إيران لن تكون صالحة للسكن بعد الآن. نحن أكثر جيل أناني في استهلاك المياه على مدار السبعة آلاف عام الماضية.” ولذلك، فإن هذه المشاكل الأولية والثانوية تطارد بيئة إيران الآن، ومن المتوقع أن يزداد الضغط في السنوات والعقود القادمة. ولكن تقترن تلك القضايا بالشكوك المتصاعدة لأنصار البيئة. ويبدو أن أجزاء من المؤسسة الأمنية الإيرانية على الأقل تشكك في الاهتمام المتزايد بالمسائل البيئية، كما يبدو أن حملة القمع الأخيرة ضد أنصار حماية البيئة، بمن فيهم شخصياتٌ بارزة مثل كاووس سيد إمامي وكاوه مدني، جزءٌ من خطةٍ لوقف ما يعتبرونه “تهديداً ناعماً” متنامياً بشأن القضايا البيئية. إلا أن هذا لا يقدم أي مساعدةٍ لحل المشكلة الحقيقية.
لذلك، تبرز أهمية هذه العواقب، فالحقيقة الوحيدة التي مفادها أن 11 من أصل 31 مقاطعة في إيران ستنفذ من المياه خلال نصف قرنٍ من الزمان، يجب أن تجعل الناس على أهبة الاستعداد. وكما ذكرنا سابقاً، وبغض النظر عن الآثار الإيكولوجية والبيئية، يمكن أن تؤدي “أزمة المياه” بسهولة إلى تداعياتٍ سياسية وأمنية. بالإضافة إلى ذلك، ستواجه إيران نزوحاً داخلياً، فضلاً عن هجرة مواطنين آخرين إلى دولٍ أخرى بحثًا عن حياةٍ أفضل، لا سيما القرويون والمزارعون، الذين سيتأثرون بشكلٍ أكبر بالجفاف. هناك بالفعل عددٌ كبير من القرى التي يتم إخلاؤها بالكامل في عدة مقاطعات، ولا سيما في المقاطعات الشرقية- حيث يتم إجلاء ثلث قريتي سيستان بلوشستان تقريباً. وعادةً ما ينتقلون إلى المدن الكبرى حيث يمكنهم العثور على وظيفة. وبما أن متوسط معدلات البطالة في إيران كانت مرتفعة في السنوات الأخيرة، يمكن للمرء أن يتصور الصعوبات التي قد يواجهها النازحون – والتي يمكن أن تؤدي بدورها إلى تحدياتٍ اجتماعية أخرى. وتتمثل قضيةٌ أخرى بالنزاعات الداخلية المحتملة بين مختلف المدن والمحافظات حول توزيع المياه، إذ أن هناك العديد من الحالات التي تحولت فيها تلك النزاعات إلى عنفٍ وأجبرت الحكومة على استخدام القوة لاستعادة النظام.
للتصدي لهذه القضية بجميع تداعياتها، توصلت الحكومة الإيرانية إلى سياساتٍ جديدة. فقد أعلنت وزارة الطاقة الإيرانية مؤخراً عن سياسةٍ جديدة “لإدارة استهلاك المياه” لتحل محل سياساتها السابقة الخاصة بـ”إدارة إمدادات المياه.” وبعبارةٍ أخرى، سيصرون على خفض الاستهلاك بدلاً من زيادة الإنتاج. وبالإضافة إلى ذلك، تم اتباع سياستين لتقليل استهلاك المياه في الزراعة: أولهما تغيير نمط الزراعة من أجل تقليل استهلاك المياه وزيادة الإنتاجية؛ وثانياً، تشجيع الدفيئة الزراعية التي يمكن أن تقلل من استهلاك المياه أثناء مضاعفة الإنتاج. بعبارةٍ أخرى، يتعين على إيران تغيير نمطها التقليدي للزراعة والتحرك نحو أساليب جديدة.
كما شرعت الحكومة الإيرانية في حملةٍ من الرسائل العامة لتشجيع الإيرانيين على تقليل استهلاكهم للمياه. كان هناك أيضاً حملاتٌ عامة غير رسمية حول هذه القضية مؤخراً، بيد أن هذه السياسات هي مشاريع طويلة الأجل ولم تكن الحملات مثمرةً بما فيه الكفاية. لذلك، تم النظر في سياساتٍ أخرى مثل تحلية المياه، ومع ذلك لا تزال البلاد بحاجة إلى الاستثمار، وبخاصة الاستثمار الأجنبي المباشر، وهو منتجٌ نادرٌ للغاية في إيران في ظل العقوبات الأمريكية المفروضة عليها.
ينبغي على المجتمع الدولي، وبخاصة الاتحاد الأوروبي، النظر في مساعدة إيران في هذا الصدد، لأن الجفاف في إيران سيتسبب في مجموعةٍ كاملة من المشاكل بما فيها موجات الهجرة التي ستؤثر على أوروبا، إلى حدٍ ما، أكثر من أي منطقةٍ أخرى في العالم.