وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العراق: الجفاف يهّدد الأهوار

الجفاف في العراق الناتج عن العوامل الطبيعية والإدارية والسياسية دفع الكثير من العراقيين المقيمين بالقرب من الأهوار إلى هجرة مناطقهم.

العراق الجفاف يهّدد الأهوار
صورة تم التقاطها يوم 9 يوليو 2021 لرجلٍ يصطف على متن قارب في أهوار بلاد ما بين النهرين مع جفاف المنطقة بسبب ارتفاع درجات الحرارة وقلة هطول الأمطار في الناصرية بالعراق. Haidar Mohammed Ali / Anadolu Agency via AFP

حسين علي الزعبي

ما أن مضى عام 2022 إلا وكادت الأهوار العراقية تلفظ أنفاسها الأخيرة ماءً وسكانا وثروة حيوانية برية ونهرية. وكان ذلك جرّاء جفاف تجمعات المياه وانخفاض منسوب مياه دجلة والفرات.

وفي يوليو 2016، وضعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو” أهوار العراق على قائمتها للتراث العالمي. ووفقاً لذلك القرار، فقد باتت الأهوار محميةً طبيعيةً دولية تمتد على مساحة 35 ألف كم مربع. وللمفارقة، فقد كادت الأهوار تخرج في مطلع عام 2023 من القائمة للعديد من الأسباب.

ما هي الأهوار؟

تقع الأهوار في حوض ما بين النهرين. ويعد هذا الحوض سهلاً فيضياً شاسعاً من الأراضي الرطبة التي تشكلت بفضل جريان نهري دجلة والفرات هناك. وكانت هذه المنطقة بمثابة أكبر نظام بيئي للأراضي الرطبة في أوراسية الغربية. ويعتبر هذا المشهد المائي النادر في الصحراء موطنا طبيعيا لقطاعاتٍ هامة من الحياة البرية.

وتشكل الأهوار منطقةً مثلثةً تحدها ثلاثٌ من أكبر مدن جنوب العراق وهي: الناصرية من الغرب والعمارة من الشمال الشرقي، والبصرة من الجنوب. وفي هذه المنطقة، يتعرّج نهرا دجلة والفرات وينقسمان إلى فروع متعددة. وتتشكل سلسلة من البحيرات العذبة الضحلة المترابطة وتتشكل السهول الفيضية المغمورة موسميا والتي عادة ما تفيض وتندمج في مستجمعات أكبر خلال الفيضانات الكبيرة. ومن أهم الأهوار، أهوار الجبايش الموجودة شرق الناصرية. وتعد أهوار الجبايش امتداداً لهور أبو زرك وهور الحمّار.

أهوار العراق تغنى بجمالها يوماً الشاعر بدر شاكر السياب. بيد أن هذه الأهوار تشهد حالةً غير مسبوقة من انحسار المياه، ما أدى إلى هجرة قاطنيها ونفوق الثروة الحيوانية فيها. وتضافرت على التسبب بهذه الحالة عوامل طبيعية وأخرى إدارية وثالثة سياسية. وتتعلق العوامل السياسية بشكل مباشر بدول الجوار وما اتخذته من إجراءات أثرت بشكل مباشر على منسوب المياه في نهري دجلة والفرات.

الجفاف

التحذيرات من الجفاف في العراق لم تكن عابرة. ووصل الأمر إلى التحذير من جفاف الأنهار العراقية نهائيا في عام 2040 إذا استمرت موجة الجفاف الحالية. وفي زيارةٍ أجراها للعراق في مارس 2022، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس: “إن العراق يواجه خطرا في نقص المياه في نهري دجلة والفرات. ولا يجب أن يكون العراق بلدا بلا أنهار.. وهذا يمثل تحديا للحكومة”.

وفي اليوم العالمي لمكافحة الجفاف في عام 2022، أكد تقريرٌ صادر عن الأمم المتحدة أن العراق يعتبر من بين الدول الخمس الأولى الأكثر تضرراً من التغيرات المناخية. ولفت التقرير إلى أن العراق يحتل المرتبة 39 بين الدول الأكثر إجهادا للمياه. وأدى الانخفاض القياسي في معدل سقوط الأمطار في عام 2021 – وهو ثاني أكثر المواسم جفافاً منذ 40 عامًا – إلى نقص المياه والتصحر وتآكل التربة.

هذه الموجة من الجفاف لم تكن الأولى من نوعها في المنطقة العربية وفيها العراق. ففي عام 2006، أكدت دراسةٌ صادرة عن وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” أنَّ منطقة الشرق الأوسط تعيش أسوأ موجة جفاف منذ 900 عام. وبحسب الوكالة، فإن الوضع لم يتحسن حتى عام 2022، بل إنَّه يسير نحو الأسوأ.

ويعتبر الجفاف المتهم الأول في انخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات وروافدهما إلى مستويات غير مسبوقة. ومع ذلك، فإن هناك أسبابا أخرى أدت إلى هذا الانخفاض في منسوب النهرين تتعلق بدولتي الجوار إيران وتركيا. وفي هذا السياق، قال خالد شمال، المتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية إن “العراق لا يتلقى سوى أقل من 30 في المئة من حقه في مياه نهري دجلة والفرات بسبب بناء السدود دون تنسيق مع العراق ودون مراعاة لحقوقه”.

السدود التركية

ينبع نهرا الفرات ودجلة من الأراضي التركية. ويبلغ طول مجرى نهر دجلة حوالي 1,718 كيلومتراً. ويعبر دجلة الحدود السورية التركية ويسير داخل أراضي سوريا بطول 50 كم تقريباً، ليدخل بعد ذلك أراضي العراق. وللعلم، فإن دجلة يجري بمعظمه داخل الأراضي العراقية بطول يبلغ حوالي 1400 كيلو متر.

وكان نهر دجلة يلتقي بنهر الفرات عند القرنة في جنوب العراق ليكوّنا شط العرب الذي يصب في الخليج. بيد أن مجرى الفرات تغيّر في الوقت الحاضر وأصبح يلتقي بدجلة عند منطقة الكرمة القريبة من البصرة.

وينبع نهر الفرات من جبال طوروس في تركيا ويدخل الأراضي السورية عند مدينة جرابلس. وفي سوريا ينضم إليه نهر البليخ ثم نهر الخابور. ويدخل العراق عند مدينة القائم في محافظة الأنبار. ويبلغ طول الفرات من منبعه في تركيا حتى مصبه في شط العرب حوالي 2940 كم، منها 1176 كم في تركيا، و610 كم في سوريا و1160 كم في العراق.

على هذين النهرين أقامت تركيا 22 سدا رئيسيا، بواقع 14 على الفرات و8 على دجلة. وأثرت هذه السدود بشكل مباشر على التدفق المائي باتجاه سوريا والعراق. وجاءت هذه السدود ضمن مشروع تركي عملاق أطلق عليه مشروع جنوبي شرق الأناضول “GAP”. وتصف تركيا هذا المشروع بـ “التنموي” لمنطقة شرق الأناضول، علماً بأنه يتمتع بقدرة تخزينية للمشروع تصل إلى 100 مليار متر مكعب من المياه. وللمفارقة، فإنّ هذه القدرة التخزينية تعادل ثلاثة أضعاف القدرة التخزينية لجميع السدود العراقية والسورية على النهرين.

وفي عام 2006، وُضع حجر الأساس لأكبر مشروع في تركيا وثالث أكبر مشروع من نوعه في العالم، وهو سد “إليسو” على نهر دجلة.

وفي يونيو 2018، أعلنت تركيا عن بدء عملية ملء خزان السد. ومنذ ذلك الحين، وحسب تصريحات مسؤولين وخبراء عراقيين، فإنّ وارد دجلة الطبيعي من المياه عند الحدود التركية والبالغ نحو 20.93 مليار متر مكعب سنويا انخفض عند إنشاء السد إلى 9.7 مليار متر مكعب سنويا من المياه.

وفي سياق المشروع نفسه، جاء بناء سد أتاتورك على نهر الفرات. ويعد هذا السد أقدم السدود التركية العملاقة. كما أنه المكون الرئيسي في مشروع شرق الأناضول. ويشكل هذا السد بحيرة تحمل الاسم نفسه وهي ثالث أكبر بحيرة في تركيا.

وأدت هذه السدود التي يرى فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حقاً مشروعاً لبلاده في خفض حصة سوريا والعراق. وتنفي تركيا أن يعود انخفاض حصة مياه هذين البلدين إلى إنشاء السدود التركية. وتحيل أنقرة الجفاف هناك إلى سوء استثمار الموارد المائية.

تاريخياً، تعتبر تركيا مياه الفرات ودجلة ملكها. وهذا ما جاء على لسان رئيس الوزراء التركي الأسبق سليمان ديميريل في عام 1993 عند افتتاح سد أتاتورك. حينذاك قال ديميريل: “المياه التي تنبع من تركيا هي ملك لتركيا. والنفط هو ملك البلدان التي ينبع فيها. ونحن لا نقول لهم إننا نريد مشاركتهم في نفطهم. كما أننا لا نريد مشاركتهم مياهنا. ويجب أن يدرك الجميع أن دجلة والفرات ليسا من الأنهار الدولية”. وبالتالي، لا توافق تركيا على إبرام أية اتفاقية دولية لتحديد حصص الدول في المياه بموجب مبادئ القانون الدولي.

وأعادت أزمة الجفاف هذا الملف إلى الواجهة مؤخرا. وعلى هذا الأساس، تحرّك رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مجددا لإحياء هذا الملف. واتفق البلدان على تشكيل لجنة مشتركة لحل مشكلة المياه.

إيران: قطع الروافد

في صيف العام 2011، أكد مصدرٌ حكومي عراقي في اللجنة الفنية لترسيم الحدود أن الجانب الإيراني أبلغ اللجنة بأنه سيغلق جميع الأنهار المتجهة إلى العراق. وكانت إيران في حينه قد قطعت بالفعل أكثر من 45 رافدا وجدولا موسميا كانت تغذي الأهوار والأنهار.

وأعلنت الحكومة العراقية في 2011 عن إيقاف إيران لمنابع نهر الوند الذي يبلغ طوله 50 كم والداخلة إلى الأراضي العراقية بشكل كامل. وتعود هذه الاشكالية إلى العام 1960 عندما أنشأت طهران في عهد الشاه سدا على النهر وقطعت المياه عن مدينة خانقين. كما أقامت إيران سدودا على واديي مندلي والنفط خانه وقطعت مياههما عن العراق.

وفي هذا الصدد، يقول الدكتور جمال إبراهيم الحلبوسي، خبير مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية: “إيران أنشأت أكثر من 80 سداً لقطع مياه الأنهار المشتركة البالغ عددها 42 نهراً ومجرى مائياً محددة ببروتوكول مستقل باتفاقية الجزائر ومحاضر مشتركة كثيرة، وهي مؤشرة مع إيران لمحافظاتنا (السليمانية 11 نهراً – ديالى 17 نهراً – الكوت 4 أنهار – العمارة 7 أنهار – البصرة 3 أنهار)”.

مسؤولية الحكومات المتعاقبة

يحمّل الميثاق الوطني العراقي، الذي يجمع القوى المستقلة، الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الغزو الأمريكي 2003 مسؤولية ما آلت إليه حال العراق لجهة الجفاف. ويتّهم الميثاق تلك الحكومات بـ “التواطؤ مع إيران في قطع الروافد الأكثر تأثيرا على الواقع العراقي من السدود التركية”.

كما حمّل الميثاق الحكومات مسؤولية إنهاء المساحات الخضراء التي كانت تحيط بالمدن بسبب الاستهدافات الطائفية التي تعرض لها سكان هذه المناطق لتهجيرهم بصورة قسرية.

مسؤولياتٌ أخرى تحمّلها جهاتٌ عديدة للحكومات العراقية. ولا تتعلق تلك المسؤوليات فقط بانخفاض منسوب المياه وتصحر البلاد فحسب، بل أيضاً إهمال البنى التحتية التي تسهم في ترشيد استخدام المياه. يضاف إلى ذلك إهمال تقليص المسطحات الخضراء في العراق الذي كان فيه 30 مليون شجرة نخيل. وللمعلومية، تشير المعلومات الحالية إلى أن عدد شجر النخيل لا يتجاوز حاليا الـ 16 مليون شجرة.

كارثة الجفاف في العراق دفعت آلاف العوائل التي تعتاش على ما كانت تنتجه الأهوار لهجرة قراها. ويضاف إليها تلك العوائل التي كانت تعمل في الزراعة في المناطق القريبة على مجاري الأنهار والروافد. ومن أبرز الأمثلة ما حصل في محافظة ديالى، التي كانت تسمى بمحافظة البرتقال، إذ أدت الهجرة إلى تحوّل المناطق الخضراء إلى مناطق شبه صحراوية تكاد تخلو من الحياة.