نجح متحف سرسق في بيروت، من دون مساعدة من الدّولة اللّبنانيّة، في جمع ما يفوق مليونَي دولار أميركيّ بهدف التّرميم بعد انفجار 2020.
دانا حوراني
أثناء تنزّهنا في أحياء الأشرفيّة في بيروت، يظهر لنا بتميُّز قصر تاريخيّ بديع، يوصَف كأحد الرّوائع الهندسيّة اللّبنانيّة. وكانت قد بنت العائلة الرّوم أورثودوكسيّة الشّهيرة، سرسق، قصر سرسق في القرن التّاسع عشر.
أوصى نيكولا سرسق، الرّاحل عام 1952، باستخدام مقرّ سكنه كمتحف للفنون. ولقد دفعه إلى ذلك شغفه باحتضان الفنّ وتشجيعه، مُعترِفًا بحاجة الفنّانين إلى دعم مؤسّسيّ.
قبل انطلاقته الرّسميّة عام 1957، استضاف متحف سرسق معرضًا بعنوان “أوّل متحف مُتخيَّل في العالم” ضمن مقرّ اليونسكو في بيروت، وعُرِضَت فيه 664 نسخة ملوّنة ومُؤطَّرة لفنون جميلة من آسيا، وأوروبّا، وأميركا. وعام 1961، فتح أبوابه أخيرًا للعامّة مع معرض “صالون الخريف” الّذي قدّم أعمالًا جديدة لفنّانين محلّيّين معاصرين.
وعلى الرّغم من الاضطرابات الّتي سبّبتها بداية الحرب الأهليّة اللّبنانيّة الّتي امتدّت من 1975 إلى 1990، بقي المتحف فاتحًا أبوابه، واستضاف معارض من كلّ أقطار العالم تضمّنت السّجّاد الشّرقيّ، والفنّ السّوريّ المعاصر، والرّسومات واللّوحات البريطانيّة ذات الألوان المائيّة العائدة إلى القرن الواحد والعشرين، والفنّ البلجيكيّ المعاصر، من دون أن ننسى صالونه السّنويّ الشّهير حيث كانت تُعرض أعمال فنّيّة متنوّعة.
بعد إغلاقه لإنهاء أعمال التّرميم والتّوسيع الكبيرة عام 2008، أعاد متحف سرسق فتح أبوابه للعامّة عام 2015. وتسنّى لزوّاره الاستمتاع بتشكيلة واسعة من الأعمال الفنّيّة الحديثة والمعاصرة الخاصّة بفنّانين لبنانيّين والعائدة إلى أواخر القرن التّاسع عشر، وذلك بفضل جدول زمنيّ نشط للمعرض.
لكن بسبب انفجار بيروت عام 2020 الّذي خلّف أضرارًا جسيمة في المساحات المحيطة بالمدينة، وأكثر من 200 قتيل، اضطُرّ المتحف إلى إغلاق أبوابه من جديد لأكثر من ثلاث سنوات.
أمّا اليوم فيتزاحم الكثيرون على محاولة إعادة ترميمه إلى رونقه السّابق. يعمل مئات عمّال البناء على تجصيص الجدران وطليها في سعيهم إلى إعادة بناء هذه العمارة التّاريخيّة الّتي تكبّدت أضرارًا جسيمة من الدّاخل والخارج.
وعلى الرّغم من تعطيل الانفجار المشهد الفنّيّ بشكل عامّ، يعتقد الخبراء والمراقبون أنّ إعادة افتتاح المتحف يعني بداية جديدة للمدينة، ودعمًا للجهود الإصلاحيّة.
“تمامًا كبلدنا، خضع المتحف للكثير من التّغيّرات الدّاخليّة والخارجيّة. وعلى الرّغم من الصّعوبات، نفتخر بما حقّقناه حتّى الآن.” هذا ما قالته كارينا الحلو، مديرة المتحف، لفناك.
إرث سرسق
قبل وفاته، أنشأ نيكولا سرسق صندوق ائتمان لكلّ ممتلكاته الثّمينة، بما في ذلك المقرّ السّكنيّ في الأشرفيّة ومجموعته الفنّيّة. وعيّن رئيس بلديّة بيروت آنذاك، سليم علي سليم، مؤتمَنًا عليها.
تُقام كلّ عام منذ افتتاح المتحف، فعاليّة تهدف إلى إظهار تاريخ الفنون الجميلة في لبنان وتطوّرها. لقد استقطبت قاعات هذا العقار الفخم، الّذي تصفه اليونسكو بمصدر “فخر وسعادة” للرّئيس الرّاحل كميل شمعون، شخصيّات مرموقة من حول العالم وليس فقط من الشّرق الأوسط. وترك فنّانون مشهورون مثل: إيتيل عدنان، وشفيق عبّود، وبول غيراغوسيان، وسلوى روضة شقير، وعارف الرّيّس، بصمتهم على تاريخ سرسق.
إلى جانب مجموعته المُختارة من الأعمال الفنّيّة، والمنحوتات، والمنشآت الفنّيّة، يعرض المتحف أيضًا مجموعة من المشغولات الحرفيّة الشّرقيّة مثل: الأعمال الفنّيّة الإسلاميّة والعثمانيّة، والمنسوجات، والسّجّاد، والأيقونات. إضافة إلى ذلك، يمكن للزّوّار استكشاف المجموعة الخاصّة بنيكولا سرسق الّتي تضمّ المفروشات، والخزفيّات، والمشغولات الخشبيّة.
أمّا مجموعة الصّور الفوتوغرافيّة الخاصّة بفؤاد دبّاس، المؤلَّفة من حوالى 30,000 صورة من لبنان، وسوريا، وفلسطين، ومصر، وتركيا، فمحفوظة في سجلّات المتحف. ولقد تبرّعت السّفارة اليابانيّة في لبنان بـ15 قطعة من مطبوعات النّقش الخشبيّ اليابانيّ الحديث، إضافة إلى تبرُّع أحدهم بمجموعة كميل أبو سوّان، أمين المتحف السّابق، المؤلّفة من 250 صورة مطبوعة تظهر العمارة اللّبنانيّة.
ضمّ المتحف سابقًا مجموعة بعنوان بيكاسو والعائلة (Picasso et la Famille) بريشة الفنّان الإسبانيّ الشّهير بابلو بيكاسو. غاص هذا العرض في كيفيّة تصوير بيكاسو لأفراد العائلة من خلال أعماله الفنّيّة، انطلاقًا من الأمّهات والأولاد وصولًا إلى نظرته الخاصّة حول دوره كأب.
وفي 27 أيلول 2019، وصل مجموع القطع الفنّيّة المعروضة إلى 20 قطعة متنوّعة ما بين الرّسومات واللّوحات والنّقوش والمنحوتات.
إعادة إحياء التّاريخ
نجح المتحف، من دون مساعدة من الدّولة اللّبنانيّة، في جمع ما يفوق مليونَي دولار أميركيّ بهدف التّرميم بعد انفجار 2020. وكانت الدّولة الإيطاليّة أحد أكبر المتبرّعين، بمبلغ قيمته 965,000 دولار، من خلال مبادرة “لبيروت” الخاصّة باليونسكو. كما ساهم كلّ من وزارة الثّقافة الفرنسيّة والتّحالف الدّوليّ لحماية التّراث في مناطق النّزاع بمبلغ سخيّ قيمته 500,000 دولار.
اتّضح لفناك، بعد مراجعتها الوثائق، مدى الأضرار الّتي تكبّدها المتحف، مع الإشارة إلى تحمُّل طابقين منه معظم الدّمار. تعرّض 66 عملًا فنّيًّا، من أصل 132 قطعة معروضة، للتّلف بطريقة أو بأخرى منها التّمزّق بسبب شظايا الزّجاج، وخطوط تجريح بيضاء بسبب انهيار الأسقف، وسقوط العديد من اللّوحات من مكانها.
ولهذا السّبب، أُطلِقت حملة ترميم للحفاظ على الأعمال الفنّيّة وطُبِّقت على مراحل. عمل العديد من الخبراء المحترفين على ترميم كلّ قطعة فنّيّة بتأنٍّ شديد، لكنّهم اضطرّوا إلى إرسال لوحتين وقطعة فنّيّة ورقيّة إلى مركز بومبيدو (Centre Pompidou) في فرنسا بهدف ترميمها نتيجة خرابها الهائل.
وُكِّلت كيرستين خليفة، قائدة فريق التّرميم في متحف بيروت للفنون، في أيّار 2021، بتكحيل، وتنقيح، وإصلاح التّمزّق خيطًا بخيط في أعمال فنّيّة متنوّعة رُمِّمت سابقًا. كذلك، وُكِّلت خبيرتَي الحفاظ على الفنون إيزابيل سكاف وناتالي حنّا بإنقاذ المنحوتات، من ضمنها لباسَي عمل طينيّين من تنفيذ سيمون فتّال يعودان إلى عام 2006، ظُنّ أنّه يستحيل إنقاذهما.
وبذلك نجح سرسق بجمع الأعمال الفنّيّة المتضرّرة وإعادتها إلى المواضع المخصّصة لها في 19 نيسان 2023. لكن ما زالت علامات الانفجار بارزة على المدخل الخشبيّ للمتحف متعمّدة تذكيرنا بما حدث في هذا اليوم المشؤوم.
التّحدّيات والتّغيّرات
منذ بداية الأزمة الاقتصاديّة اللّبنانيّة عام 2019، الّتي أسفرت عن انهيار تاريخيّ للّيرة اللّبنانيّة مقارنة بالدّولار الأميركيّ، اضطرّ المتحف إلى إعادة النّظر في استراتيجيّته الماليّة.
كانت الضّريبة المفروضة على تراخيص البناء العنصر المموِّل لأنشطة المتحف تاريخيًّا، بحسب الحلو.
لكن مع خسارة الأموال الرّسميّة المدفوعة من قِبَل البلديّة قيمتها، أُنشئ برنامج أصدقاء متحف سرسق كطريقة جديدة لدعم المتحف. وبصفته نادٍ حصريّ للفنون تتراوح رسوم عضويّته بين 1000$ و10,000$، ويضمن البرنامج امتيازات الوصول إلى مراكز فنّيّة متنوّعة وفعاليّات حصريّة.
إذ يُمنح الأعضاء جولات فريدة بقيادة أمين المتحف، وتصاريح مرور للأعيان إلى معارض فنّيّة في الخارج، وحسومات على بعض المنتجات والمواقع كهبة لانضمامهم إلى هذا البرنامج.
وتشرح كارينا “لقد وضعنا 80 لوح للطّاقة الشّمسيّة ستغطّي 20% من استهلاك الطّاقة، وذلك سيجعل المتحف أكثر استدامة على المدى البعيد.”
نموذج للصّمود
تؤمن الحلو بأنّ إعادة افتتاح المتحف في 26 أيّار ستُفرِح النّاس الّذين عانوا صدمة كبيرة نتيجة الانفجار.
وتقول: “رسالتنا إلى النّاس هي أنّنا هنا، أنّنا نقاوم، وأنّنا نودّ أن ندعمهم، لأنّ لطالما كانت بيروت منصّة للفنّانين العرب، ونحن ملتزمون بمهمّتنا.”
على الرّغم من كون لبنان المركز الثّقافيّ في الشّرق الأوسط، باستضافته الكثير من المهرجانات الفنّيّة السّنويّة وازدهار معارضه، أدّت الصّعوبات الاقتصاديّة والاضطرابات السّياسيّة فيه إلى تراجع تمويلات الفنّ اللّبنانيّ في السّنين الأخيرة. ولقد لوحِظ هذا التّراجع مقارنة بازدهار قطاعات الفنّ في دول الخليج، مثل الإمارات العربيّة المتّحدة الّتي شهدت نموًّا هائلًا وسريعًا نتيجة للتّمويل الحكوميّ المتزايد.
وفي رأي المديرة، فَقَدَ الكثير من الأشخاص الأمل في إعادة إحياء المشهد الثّقافيّ والفنّي اللّبنانيّ إثر الانفجار المصحوب بهجرة الفنّانين، وبإغلاق العديد من المعارض.
قالت: “بإعادة فتح المتحف نسعى مجدّدًا إلى توفير مساحة للفنّانين، والتّشبّث بهذه المواهب داخل البلد.” وصرّحت أيضًا بأنّ المؤسّسة تنوي توسيع مجموعتها الفنّيّة من خلال الاستملاك حال تشكُّل لجنة.
قالت الفنّانة وصاحبة صالة عرض اللّبنانيّة-الأرمنيّة، دزوفيج أرنيليان، لفناك بأنّ لطالما وضع المتحف الفنّانين اللّبنانيّين على الخريطة، وهو جزء أساسيّ من تعافي المشهد الفنّيّ من الدّمار النّاتج عن الانفجار.
وأضافت: “دُمِّر الكثير من المعارض في وسط بيروت، وبدت المراكز الفنّيّة هاجعة فترة طويلة. ولأنّ المشهد الفنّيّ لم يبدأ بالانتعاش إلّا مؤخّرًا، تشكّل إعادة الافتتاح حدثًا مهمًّ لنا جميعًا.”
تقول الفنّانة أيضًا إنّ المتحف وجهة سياحيّة كبرى ستمنح الزّوّار فرصة التّعرّف إلى الفنّانين المحلّيّين والإقليميّين على مدى أشهُر الصّيف المقبلة.
شارحة أنّ: “زوّار سرسق سيقصدون المعارض المجاورة له من دون أدنى شكّ، وذلك سيزيد من دعم الفنّانين المحلّيّين.”